نحو “تعلم غير رياضي” للرياضيات
تأمل تربوي فلسفي للتساؤل الفلسفي وحصص الرياضيات
ستيفن أوليفيريو
“جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن المؤلف وليست مسؤولية معهد بصيرة أو دار بصيرة للنشر أو أي جهات أخرى متصلة بها من الجهات والهيئات الثقافية التنظيمية أو المانحة وغيرها”
ترجمة: علوي السقاف
تدقيق: منى عبد الله
Oliverio, O. 2013,” A Philosophical-Educational Reflection on Philosophical Inquiry and Mathematics Classes” ANALYTIC TEACHING AND PHILOSOPHICAL PRAXIS, Vol.34, n.1, pp.1-15.
“من لم يكن مهندسًا فلا يدخل منزلنا”.. تذكِّرنا هذه العبارة الماثلة أمام أكاديمية أفلاطون بالترابط العميق آنذاك بين الرياضيات والفلسفة. لذلك، فإن التعاطي مع إمكانية التساؤل الفلسفي في تعزيز تعلم وتعليم الرياضيات يحتِّم علينا موقفًا آثاريًّا (archaeological attitude) (Agamben, 2008) يبحث في طبقات تاريخ طويل، ويستكشف ما خفي من العقل الغربي وغاب عنَّا، سواء ألأننا سلَّمنا به أم لأننا لم نعد قادرين على ملاحظة الطريقة التي نفكِّر بها.
لذلك، فتحرِّي أثر التساؤل الفلسفي وأهميته لتعلم وتعليم الرياضيات لا يقتصر على إعمال الفكر حول إمكانية توسيع نموذج تربوي معين (في هذه الحالة النهج الفلسفي للأطفال) إلى مجال تدريس آخر أو حول نهج التدريس اللازم لذلك (على الرغم من أهميته البالغة)، بل يعني إعادة النظر أساسًا في التآزر العميق بين ما نحاول (إعادة) تناغمه: الرياضيات والفلسفة.
لكن هل التناغم القديم المبجل بين الرياضيات والفلسفة هو الذي نرغب في إعادة تأصيله في صفوفنا؟ أم هل يختلف المعنى الذي نفهمه من الفلسفة جوهريًّا عمَّا يتردد صداه في الشعارات الأكاديمية عندما نفعِّلها في دروس الرياضيات؟
هناك أمر واحد يستدعي انتباهنا: ألمحت العبارة التحذيرية على مدخل الأكاديمية إلى أن الرياضيات شرط أساسي للوصول إلى الفلسفة، كأنها تأشيرة دخول إلى ميدان الفلسفة. فإننا حين نلجأ إلى التساؤل الفلسفي لدراسة الرياضيات، فنحن نعكس الترتيب ونقترح بأنه عبر التساؤل الفلسفي يمكن دراسة الرياضيات بطريقة أنجع. فما الذي يتضمنه تغيير مشابه في المنظور؟
إن الأمور أكثر تعقيدًا في الواقع. إن تنبيه الأكاديمية لا يقول إن الرياضيات هي الباب الذي يمكننا دخول الفلسفة عبره، كما لو أنه بدراسة الرياضيات يمكننا الوصول إلى الفلسفة، بل يحصر من يمكنهم عبور الباب المؤدي إلى الفلسفة فيمن يعرفون الرياضيات، أي أنه ليس لأحد أن يأمل الالتحاق بمجتمع فلسفي دون معرفة بالرياضيات، ولكن ذلك لا يعني أن جميع الذين يعرفون الرياضيات سيُقبلون، فالرياضيات ضرورية لكنها ليس الشرط الوحيد للفلسفة.
فعند اقتراح بأنه “عبر” التساؤل الفلسفي نتعرف إلى الرياضيات متَّبعين نموذج مجتمع التساؤل الذي اقترحه ليبمان (ليبمان، 1988، 1991، 2003. شارب، 1987، 1996. سبليتر وشارب، 1995. كينيدي، 1995، 1997، 2004a، 2004b، 2012)، فإننا نحوِّل مجتمع الفلسفة إلى “باب ممكن” أو وسيلة للوصول. فماذا تعني الفلسفة؟ بالتأكيد ليست الفلسفة الأكاديمية هي المقصودة بما يوجد “بعد الباب”، بل نوع آخر من الفلسفة هو المقصود، ولكن أي نوع؟
عند التساؤل حول العلاقات بين الرياضيات والفلسفة في سياق التعلم/التعليم، نجد أنفسنا مضطرين لطرح سؤال حول ماهية الفلسفة عندما تتوقف عن أن تكون ما “بعد الباب” وتصبح ذلك الباب نفسه، إذ يمكن وصف مجتمع التساؤل الفلسفي (CPI) [1]-بقليل من التهكُّم- بأنه الطريق المؤدي إلى الرياضيات. وبشكل أكثر إثارة للاهتمام، يجب أن نسأل لماذا تظهر هذه الحالة الجديدة للفلسفة بوضوح خصوصًا حين نسعى لفهم كيف تساهم الفلسفة في تعلم/تعليم الرياضيات.
لا شك بأن نسيج هذا التأمل يحتوي ثلاثة مواضيع تتضمن: الفلسفة، والرياضيات، تعلم/تعليم. كما أنه يحاول إبراز وحدتها كما سأبيِّن. إن استقصاء الرياضيات يعني التساؤل في أصل التعلم/التعليم، وهذا ينشد استكشافًا لماهية الفلسفة وما يمكن أن تكون عليه. إذا كانت أكاديمية أفلاطون أكثر من مجرد تجربة في التربية الغربية وأصبحت نموذجًا لكل مؤسسات التعليم العالي، فإن ذلك لأنها صاغت العلاقات بين الرياضيات والتعلم/التعليم والفلسفة بطريقة تأريخية. وفعلت ذلك بتأثير الطلب (كُتب التحذير على مدخل الأكاديمية بصيغة الأمر). إن مساءلة العبارة المكتوبة على مدخل الأكاديمية بتغيير الترتيب القائم على أن الرياضيات والفلسفة خطوتان متعاقبتان، والتأكيد على أنهما -بدلًا من ذلك- حليفان في مشروع تعليمي يُعيد تعريف ماهية التعلم والتعليم. كل ذلك يُعبِّر عمَّا يصبو إليه التأمل في مجتمع التساؤل وصفوف الرياضيات.
- بعيدًا عن “الاستبداد الرياضي”: الحاجة إلى استعادة التساؤل الفلسفي
لماذا كان يتعين على المرء أن يعرف الرياضيات حتى يدخل الأكاديمية؟ لفهم التحذير علينا فهم الغاية من تأسيس الأكاديمية، وهي أنها أتت في سياق ما فعله أفلاطون استجابة لفضيحة موت سقراط، فهي مرتبطة بقلب تلك الفكرة الفلسفية التي جسدها سقراط.
أكد غريغوري فلاستوس في بحثه اللاحق حول سقراط أن الأسلوب السقراطي القائم على الأسئلة والأجوبة تساؤلٌ يهدف إلى الحقيقة، ولكنه لا يتصوَّر نفس حقيقة تعليلات الرياضيات. على خلاف ذلك، فـ”الحقيقة الرياضية” والأسلوب المحدد المرتبط بها (الطريقة “الافتراضية” التي يتحدث عنها في Meno) 86(e عبر الافتراض، كما نقرأ هناك) هي ما سيستبدله أفلاطون بأسلوب سقراط من أجل التغلب على نقائص الأخير (سنرى لاحقًا ما هي). خطوات سقراط كما يعيد فلاستوس بنائها واضحة في مراحلها:
1) يؤكد المتحاور الأطروحة س، التي يراها سقراط زائفة وينوي دحضها.
2) يؤسس سقراط الاتفاق على فرضيات إضافية، مثل: أ و ب. يعتمد الاتفاق على: المجال الذي حدده سقراط من {أ ، ب}، وليس سواهما. يُجادل سقراط بعد ذلك، ويتفق المتحاور معه، بأن “أ” و”ب” ينطويان على (عدم وجود س). بعدها يحتج سقراط بأن صحة (عدم وجود س) يُوجب أن س خاطئة. (المرجع: النص، ص 11).
يعتمد سقراط على ما يعتقده المتحاور ويهدف إلى إظهار ما يكمن فيه من تناقض. أهم ما في الأسلوب السقراطي هو كونه تساؤلًا حقيقيًّا، إذ لا يضمن الفيلسوف أن ينجح ولا يملك أرضية مطلقة يبني عليها حجته. ففي الواقع تُتَداول جميع الخطوات مع المتحاور. ومع ذلك، يعتقد سقراط بثقة أنه سيكون دائمًا قادرًا على إثبات الخطأ في الاعتقاد س، كما هو مذكور في المثال السابق. ووفقًا لفلاستوس فإن سقراط يحتفظ بهذا الاقتناع ليس لأنه يعتقد أنه يمتلك حكمة إلهية بل -على النقيض لأن لديه حكمة إنسانية فقط وهي منبثقة من تساؤلاته السابقة التي قد أثبتت اتساق منظومته الخاصة من المعتقدات (أنثروبيني سوفيا، كما نقرأ في اعتذار 20d-20e)، على حين “فشل الآخرون جميعًا في ذلك الاختبار” (فلاستوس، 1994a، ص 27).
بالاستناد إلى مثل هذا التفسير وبتوجيه تأويلي (hermeneutical bending) محدد، يمكننا المغامرة بفكرة أن إيمان سقراط باتساق معتقداته هو افتراض مسبق في تساؤله ما دامت هذه المعتقدات نتيجة تساؤلات سابقة، ودون أن تكون هذه المعتقدات مرتبطة بأي تسليم يتجاوز التساؤل نفسه. يراهن سقراط على صلابة معتقداته عند خوضه لأي نقاش
فيختبرها ويعرضها لخطر الفشل، وفي الوقت نفسه يعزِّزها حين يُظهر تناقض المعتقدات التي تتعارض مع معتقداته وعدم اتساقها.
تأتي التضمينات التعليمية لهذه الإجراءات في أن موقف سقراط ليس مطلقًا في المبدأ (على الرغم من أن كارزميته قد تحجب هذه الحقيقة). بقدر ما أفهم سقراط، وباستعارة تفكير فلاستوس، فإن سقراط ليس معلمًا متعصبًا وإنما شخص مشارك في حوار حقيقي، وعلى هذا النحو يمكن أن يحدث تساؤل مشترك، حيث يكون سقراط أيضًا متعلمًا (وذلك يتمثَّل حتى الآن في تعلُّمه أن معتقداته هي الوحيدة التي لا يكمن فيها تناقض). وبما أن سقراط لا يملك حكمة إلهية ولكن لديه حكمة بشرية فقط، فإن فلسفته دائمًا ما تميل إلى التعاون في الفعل الفلسفي (symphilosopheîn) الذي يعني أن فلسفته تساؤل فلسفي جماعي يتحرك بفعالية نابضة بالتجاذب التعليمي. المعرفة والتعليم وجهان لعملة واحدة في هذه العملية. تتصف حكمة مشابهة بكونها إنسانية لأنها لا تدَّعي أنها مطلقة، وبعبارة ديوي: هي تساؤل وليست سعيًا لليقين (1984[1929]. 1986[1933]. 1986[1938]). ولكن “كيف أمكن جميع أولئك الذي حاوروا سقراط أن تكون لديهم اعتقادات صحيحة وظَّفها سقراط ليدحض اعتقاداتهم الخاطئة؟” (فلاستوس، 1994a، ص 29). يوضِّح فلاستوس بأن هذا السؤال لم يأتِ من سقراط أبدًا، ولكن حاول أفلاطون الإجابة عنه بواسطة “تلك الرحلات الميتافيزيقية الأكثر جنونًا لأفلاطون، تلك النظرية المثيرة للاهتمام بأن كل تعلم هو (تذكُّر)” (المرجع السابق).
على الرغم من ذلك، فإن ما هو أجدر بالاهتمام في هذا السياق هو السبب الذي دفع أفلاطون إلى الشعور بضرورة وضع أساس ميتافيزيقي لأسلوب سقراط. فضيحة المحاكمة ووفاة معلمه أقنعت أفلاطون بأن الأسلوب التساؤلي لسقراط الخالي من أي أساس ميتافيزيقي يعرضه للقيود ولأن يكون قاصرًا. سعى أفلاطون للعثور على نوع من “التفكير” له أن ينافس بجدية تلك القوة الفاعلة لزعماء ديموقراطية أثينا التي كان شاهدًا عليها خلال المحاكمة. تعرَّف إلى هذا النوع “الفعال” من التفكير في مجال الرياضيات. وبوضوح، كما أشارت إليه هانا آرنت (1965)، في سياق مختلف تمامًا، أن أفلاطون بدأ هذا التوجه بالتأكيد على:
طبيعة الحقيقة البدهية أو المسلَّم بها، والتي يُعَدُّ مثالها النموذجي الأحكام التي تواجهنا في الرياضيات. كان لو ميرسييه دي لا ريفيير على حق تمامًا عندما كتب: “إقليدس طاغية حقيقي والحقائق الهندسية التي قدمها لنا هي في الواقع قوانين استبدادية. الاستبداد القانوني والتشريعي هو ذاته الاستبداد الناجم عن قوة الأدلة التي لا يمكن دحضها”؟ من المهم في سياقنا ملاحظة أن القوانين الرياضية فقط عُدَّت جذابة بما فيه الكفاية لتأكيد سلطة الطغاة. (آرنت، 1965، ص 193).
قام أفلاطون بتحول ثوري نتيجة لفضيحة محاكمة سقراط ووفاته، وحشد ما رفضه معلمه (أي البحث “الرياضي” لمينو) لإعطاء القوة لتفكير سقراط. منذ تلك النقطة فصاعدًا، لن يُسمح لأي شخص لا يملك معرفة في الرياضيات بالدخول إلى الأكاديمية. أصبحت الرياضيات نوعًا من البؤرة الاستيطانية المحصنة التي تحمي الفلسفة من الانزلاق إلى المواجهة الخاسرة في نهاية المطاف مع الآراء (أي أفكار المدينة). لم تعد الفلسفة تساؤلًا يتحرَّى معتقدات الأفراد، ولكنها نوع من التفكير الرياضي الذي يتوصل إلى نتائج من مبادئ أولية مسلَّم بها.
يحدث في هذا التكوين الموضوعاتي -كما أفهمه على الأقل- تحالف بين الرياضيات والفلسفة على حساب التساؤل الذي يُفهم على أنه نوع من البحث لا يملك ضمانًا يقينيًّا بدهيًّا ولا أساسًا ثابتًا. من المهم أن نُبقي هذا الواقع في أذهاننا لإمكانية ما قد يتعرض له تقديم الفلسفة للأطفال في الصفوف الرياضية من تشكيك كما هو الحال في احتمالية فشل هذا الاقتراح التعليمي حينما لا يكون واضحًا أي فلسفة تلك التي نشير إليها. وبقدر ما تُعَدُّ الرياضيات نموذجًا لـ “التعليل البليغ” فإن أي توظيف للفلسفة للأطفال يبدو غير مناسبًا بطبيعة الحال -إن لم يكن ضارًا- بما يحمله من خطر في “إفساد” المناقشة والحوار لما ينبغي أن يكون أحاديًّا في جوهره لأنه مسلَّم به تمامًا. بخلاف ذلك، فإن ما سيُناقَش هنا هو أن -بالمعنى شبه الديوي (نسبة لديوي (1980[1917]))- هناك حاجة إلى استعادة الرياضيات بالتساوي مع الحاجة إلى استعادة الفلسفة، وقد عبّر عنها ليبمان تربويًّا أكثر مما فعل ديوي (Oliverio, 2012b).
فاسترجاع مشابه لا يمكن تحقيقه ما لم نكن واضحين بشأن نوع الفلسفة التي نتحدث عنها، وبشأن جوهرية اقتراح ليبمان لمجتمع التساؤل الفلسفي الذي يمثِّل حركة مضادة تجاه الحركة الأكاديمية. ولكي نضعها في شعار: يسترجع ليبمان بمنهج الفلسفة للأطفال ومجتمع التساؤل الفلسفي حركة تعليمية تعود إلى سقراط (ليبمان، 1988، ص 12)، وسقراط هو اسم البحث عن “الحكمة الإنسانية” كما يتعارض مع الافتراضات المسبقة التي تميِّز الرياضيات.
لأن الطريقة السقراطية عالجت في الغالب -كما قُدِّمَت فيما كتب فلاستوس- قضايا أخلاقية، فمن الممكن بناءً على ذلك تقديم اقتراح يقضي باستعمال منهج الفلسفة الأطفال ومجتمع التساؤل الفلسفي في دروس الرياضيات فقط عندما نكون مهتمين باستكشاف الأبعاد الأخلاقية والسياسية في الرياضيات. وفي حين أنه من المعقول أن يمثِّل هذا إحدى الفرص التي يوفرها برنامجالفلسفة للأطفال المطبَّق على دروس الرياضيات (N.S. Kennedy, 2012a) إلا أنه لا يقوِّض أية جوانب أخرى في العملية التعليمية. علينا فهم كيف أن بحث سقراط هو بحث أخلاقي. كما أفهم سقراط وعلى حد علمي، فإنه يحاول أن يجذب محاوريه إلى الأخلاق بفحصها. تأتي كلمة “أخلاق” من الكلمة اللاتينية (mos) وتشير إلى أعراف المجتمع وإلى تلك المجموعة من القواعد التي تُدَوَّن، والتي غالبًا ما تُعَدُّ أمرًا مفروغًا منه ويُتَقَيَّد بها دون أي تعهد شخصي.
في المقابل، تأتي كلمة “القيم” من الكلمة اليونانية ((éthos التي تعني في الأصل “المكان المناسب”. إن “التساؤل القيمي” المفهوم بطريقة صحيحة لا يتعامل (فقط وفي المقام الأول) مع الأخلاق ولكن مع كيفية وضع الفرد لنفسه في علاقته مع العالم، ولذا يتعلق بالعالم بما فيه من الأفراد (أي وجودهم)، وعلى وجه الخصوص ما يجعل الشيء ذا مغزى وجودي. “التساؤل القيمي” هو بحث عن المعنى، ومن هذا المنظور، فإن مشروع ليبمان وشارب بأكمله، بقدر ما يكون موجهًا إلى المعنى (ليبمان وآخرون، 1980)، يكون “قيميًّا” وبالتبعية يكون “سقراطيًّا”. لذا فإن التعامل مع الرياضيات عن طريق البحث القيمي السقراطي (= تساؤل ليبمان الفلسفي) يزيد على مجرد التحري في الأبعاد الأخلاقية أو السياسية للرياضيات، بل يدور حول المدى الذي تكون فيه الرياضيات ذات معنى، وكيف يمكن أن تكون، وكيف يفهمها الأفراد. إنه بحث عن المعنى في أثناء تعلم الرياضيات، ومن هذا المنظور فهو “قيمي”، فهو يسمح للأفراد بالعثور على “المكان المناسب” للرياضيات في وجودهم. وهذا لا يحدث فقط على المستوى الأخلاقي البحت، بل أيضًا على المستوى “المعرفي”. (انظر أدناه الفقرة 3).
أريد قبل البحث بمزيد من التفصيل في التداعيات التعليمية والتربوية لهذا التغيير أن أستكشف السمات التعليمية الفلسفية للأكاديمية حتى تبرز خصوصيات مجتمع التساؤل الفلسفي بوضوح.
- الإطاحة بالنموذج الأكاديمي، والتعلم “البراغماتي”
لن أركز في وصف الأكاديمية على المناظرات التاريخية التي تحدث هناك (التي ما تزال تمثِّل نموذجًا للحوار المفتوح فكريًّا [برتي، 2010]) إنما سأصبُّ تركيزي على الصورة شبه النموذجية (quasi-archetypical) التي تكونت لها في التقليد الغربي. سيتيح استكشاف هذه الصورة تعيين الاختلاف بين فهم ليبمان (وممارسي البراغماتية عمومًا) للتساؤل الفلسفي والنموذج التعليمي التقليدي من جهة، وإبراز أثر “الاستبداد الرياضي” في الرؤية الأكاديمية للفلسفة من جهة أخرى.
في الأكاديمية يكمن واقع الفلسفة أساسًا وجوهرًا في تصوُّر الفيلسوف للمبادئ، وهي الأفكار اللاهوتية المطلقة التي تشكِّل جوهر العالم. هذا التصوُّر ليس نتيجة تساؤل مشترك ولكنه نتيجة “حميمية” الفيلسوف في عزلته مع هدف نظريته. الرسالة السابعة (341b-341c) تشهد على مثل هذا الرأي في الفلسفة.
يفصل أفلاطون بين “النشاط النظري” للفيلسوف و”التدريس”، فلا يمكن تدريس الأول بالمعنى الدقيق للكلمة، ولن يكون التدريس دائمًا مجرد نشاط مشتق، بل هو نشاط لا يمكنه نقل الطبيعة الأعمق للنظرية. ولهذا، يُستبعد أيضًا أي تعاون، فالتساؤل فردي، وبعيد من أن يكون تساؤلًا بالمعنى المناسب، فهو رؤية في الواقع (ثيوريا theoria باليونانية).
في هذا السياق تصبح الجملة أمام مدخل الأكاديمية مفهومة: النموذج لهذا النشاط النظري هو الرياضي الذي يعزل نفسه عن عالم المظاهر الدنيوية ويغمر نفسه في عالم الأرقام (بصفتها كائنات “تجريدية” بحتة، والتفاعل معها أمر عقلي معزول ويستبعد أي تفاعل إنساني).
ويخضع الواقع الأول هرميًّا لما يسميه بول لانديسبيرج (1923) “الواقع الثاني
للفلسفة” الذي يشكله تلاميذ الفلاسفة وينتشر بين خلفائهم الذي يأتون من بعدهم في القرون التالية. إن كتابات الفلاسفة هي إحدى وسائل تكوين هذا الواقع الآخر لكنها “ليست بأي حال من الأحوال واقعًا للفلسفة ولكنها على وجه التحديد مجرد ورق مطبوع أو مكتوب” (لانديسبيرج، 1923، ص 95). تتحقق الحياة الحقيقية للفلسفة في الرؤية التي تخص الفيلسوف وتُنقل بعد ذلك (جزئيًّا) إلى التلاميذ ومن يخلفونهم. بينما يمكن لواقع المستوى الأول في الأكاديمية أن يوجد دون المستوى الثاني (= الجوهر الأعمق للفلسفة – رؤية المفكر- الذي لا يحتاج إلى مجتمع من الباحثين المشاركين)، فإن الثاني ليس بشيء دون الأول.
ومن المهم الإشارة إلى أمرين: (1) دائرة التلاميذ من هذا المنظور ليست إلا جسرًا بين الفلسفة في جوهرها الحقيقي وبين تداولها ونشرها. يتواصل الطلاب ويتناقلون الفلسفة لكنهم ليسوا جزءًا من واقع الفلسفة، ولا يشاركون في إنتاج الأفكار. (2) إن وظيفتهم تتفوق على وظيفة الكتابة لأن “الفلسفة إنما تكون حقيقية عندما تُدرك وتُتَعَلَّم في المجادلة الفلسفية” (المرجع نفسه).
لوضع المستويات بشكل تخطيطي:
– المستوى الأول = رؤية/نظرية الفيلسوف المنعزل = الحقيقة الأعمق للفلسفة.
– المستوى الثاني = دائرة التلاميذ = الحقيقة المُتَنَاقَلَة عن الفلسفة.
– المستوى الثالث = النصوص = وسائل الاتصال، وهي خالية من أي روابط حقيقية مع واقع الفلسفة (في الواقع هي مرتبطة بالمستوى الثاني، ولكن بما أن الاتصال مجرد وسيلة، فهي لا تؤثر بأي شكل في الواقع).
ومع وضع هذا النموذج في الاعتبار، يمكننا تقويم مدى جِدّة فكرة تحول الصف الدراسي إلى مجتمع تساؤل فلسفي. في مجتمع التساؤل الفلسفي، لا يسبق وجود الفلسفة الطلابَ الذين يشاركون في الفلسفة ولا يخرج عن دائرتهم. والطلاب ليسوا تلاميذًا لفيلسوف يرددون رؤيته أو يعيدون قراءتها، ولكنهم منتجو أفكار ضمن بيئة جماعية (المستوى 2 > المستوى 1). الفلسفة هنا ليست نتيجة روح/عقل معزول منغمس في تأمل كيانات مثالية، بل هي نتيجة تفكير موزع يحدث في سياق مكاني وزماني. والنصوص المكتوبة في مجتمع التساؤل ليست “تجسيدًا” للفلسفة بلا روح، فمثلًا “الروايات الفلسفية” تثير التساؤل الفلسفي الذي دونه لن توجد فلسفة. وجدول الأعمال على الورق المقوى يجسد التفكير الموزع لمجتمع التساؤل الفلسفي (ولهذا، فهي ليست مجرد ورق مكتوب ولكنها “ارتباط موضوعي” -بعبارة تي إس إليوت- للنشاط الفلسفي). وهكذا يحدث انقلاب كامل للمخطط الأكاديمي.
ومع ذلك، فمن المهم أن نذكِّر بأن ما يحدث في نهج مجتمع التساؤل الفلسفي ليس مجرد إعادة ترتيب ميكانيكية، إنما هو تفكيك حقيقي، أي بقولٍ شبه دريدي (نسبةً لدريدا وهو فيلسوف تفكيكي): العمل ضمن ما هو مسكوت عنه وما هو مختفٍ في نموذج الأكاديمية. هذا هو الحال من ناحيتين على الأقل: (1) في النموذج الأكاديمي حيث يحتل التلاميذ موقعًا وسطًا (بين رؤية المفكر وانتشارها الاجتماعي) ولأنهم يشكِّلون ما “يحقِّق” الفلسفة لأن الفلسفة تتحقَّق إنسانيًّا فقط حين تدريسها (انظر لانديسبيرج، 1923، ص 95)، فهم في مكان الوسيلة، لذا يأخذون صفة الوسطاء للفيلسوف، كما صوَّرها بيير هادوت (2002) بشكل جميل عن طريق مقارنة سقراط وإيروس. الفلسفة الحقيقية بالمعنى «السقراطي» لا تكمن في روح/عقل الفيلسوف المنعزل ذاتيًّا الذي يتصور المبادئ الأولى، بل في الديناميكيات التعليمية المشتركة للتساؤل المجتمعي. لا توجد فلسفة حقيقية ما لم تقم على تشارك فلسفي في علاقة تعليمية.
(2) عند الحديث عن النصوص ومحاكمتها مقارنة بالواقع الأول (شرارة في نفسية المفكر)، يستخدم أفلاطون كلمة مثيرة للاهتمام: súggramma))، أي الجذر الدلالي لـ(-gramma) والبادئة sun- (= مع). تعبِّر النصوص الأفلاطونية عن أن الكتابة والبعد التعاوني للفلسفة (كونها تساؤلًا) متشابكان تشابكًا وثيقًا، لذا، فحين نجادل تأويليًّا لنص لاندسبيرج، فإن النصوص -حيث يُعاد استيعابها بالإدراك الواقعي للفلسفة، وهو تدريسها- هي “القوة الخالدة لميلاد الفلسفة” (لانديسبيرج، 1923، ص 95)، فهي ضمن حلقة تساؤل فلسفي، تبدأ برواية فلسفية، وربما تبلغ ذروتها بنص مكتوب آخر (الأجندة المكتوبة)، فالفلسفة تأتي إلى العالم مرارًا وتكرارًا. وبوضوح، فإن الفلسفة ليست سوى ولادة جديدة مستمرة في سياق التساؤل المجتمعي الذي أصبح ممكنًا بفضل النصوص ويحركه التجاذب التعليمي. لذا يُستبدل التأمل “الرياضي” الساكن بحركة إعادة ميلاد وإحياء.
يحتاج البعد الثاني للرياضيات (وهو البعد الذي يرتبط مباشرة بالتعلم) إلى استقصاء. من أجل تعريف “الرياضيات” يتحدث هايدجر (1987) عن (tà mathémata) وهي الأشياء التي يمكن تعلمها، والتي يميز عنها tà prágmata)) وهي الأشياء التي ينبغي التعامل معها، أي بما يتعلق بالتطبيق العملي (práxis) الذي يُفهم على أنه أي فعل إنساني. إذا كانت الرياضيات (tà mathémata) هي الأشياء القابلة للتعلم، فما التعلم؟ يرى هايدجر أن التعلم نوع من الاكتساب والأخذ:
الرياضيات هي الأشياء التي ندركها بما نعرفه مسبقًا […]. ولذا فإن تعلمًا سليمًا كهذا لهو أخذٌ رائعٌ للغاية، إذ يأخذ من يأخذ فقط بقدر ما لديه أساسًا. (هايدجر، 1987[1936]، ص 56).
إن ما لدى الطالب، أي ما هو قابلٌ للتعلم، «الرياضي» بالمعنى الذي أقرأ به هايدجر، هو ذلك الغريب عن المستوى الوجودي وينتمي إلى العالم المثالي، أي إلى ذلك المجال الذي لا يمكن الوصول إليه إلا عبر تعليل منعزل وذاتي.
ما الذي يحدث عندما نستبدل التعلم البراغماتي بالتعلم الرياضي؟
التعلم الرياضي يتعامل مع الأشياء “رياضيًّا” أي بوصفها أشياء قابلة للتعلم (=معروفة مسبقًا جوهريًّا، بمعنى أنها مبدئيًّا مسوَّغة ويجب كشفها (لا اكتشافها) عن طريق التساؤل)، على حين أن “التعلم البراغماتي” يعالج محتواه (بما فيه المحتوى الرياضي على وجه التحديد، أي الأرقام وما إلى ذلك) على أنه شيء ينبغي التعامل معه. إذا تمكنا من بناء المشروع الليبماني بأكمله (نسبة إلى ليبمان) “بطريقة براغماتية”، أي بصفته وسيلة لوضع الفلسفة موضع التنفيذ، والتعليم من أجل ممارسة الفلسفة، فإن القضية التي يجب أن نستقصيها أخيرًا هي ماذا يحدث عندما يُطَبَّق هذا الفهم للفلسفة في صفوف الرياضيات لتدريس هذه المادة على وجه التحديد التي يبدو أنها الأقل عرضة لأي تعلم “براغماتي”، للدرجة التي تُعامل فيها على أنها تمثِّل نموذج الهروب من الوجود إلى مجال التجريد في الأكاديمية.
لقد تحدثت في الفقرة (1) عن النهج “القيمي” للرياضيات، وهو النهج الذي يستكشف عن طريق التساؤل الفلسفي معنى الرياضيات في وجود الفرد. وفي هذه الفقرة طُرِحَت فكرة التعلم البراغماتي. لقد حان الوقت الآن لتوضيح كيف يمكن لاستعمال التساؤل الفلسفي أن يؤثر في دروس الرياضيات من منظور “قيمي-براغماتي”.
- دموع فيليبا: الحوار الفلسفي ودروس الرياضيات
في نعيه لرورتي (Rorty) أشار عالم الرياضيات الإيطالي جورجيو باني (Georgio Bagni) (2007) إلى أهمية فلسفة رورتي لتعليم الرياضيات عن طريق الإصرار على مناهضته للأفلاطونية:
في الواقع، لا يمكن التعبير عن النهج الأفلاطوني بطريقة غير نقدية في الممارسة التعليمية […] الارتباط بين المعرفة والممارسة الاجتماعية هو قضية حاسمة حقًّا من وجهة نظر التعليم […] أكد ريتشارد رورتي بشدة على الأهمية الحاسمة للمجتمع بصفته مصدرًا للسلطة المعرفية […]. (ص 2).
ملاحظات باني بديعة لأنها تسمح لنا بتحديد خصوصية النهج الليبماني في الرياضيات. حتى نكون أكثر تحديدًا يمكننا القول إن ليبمان يحتل موقعًا وسطًا بين أفلاطون ورورتي، متجنبًا عيوب كلا النهجين. بينما يمكن الاستمرار بالقول -وكان هذا هو الموضوع من الفقرات السابقة- إن الموقف غير الأفلاطوني تجاه الفلسفة والرياضيات يمكن أن يكون مكسبًا كبيرًا لتعليم الرياضيات، فمن غير الواضح ما إذا كان التركيز الرورتي النموذجي على التضامن بدلًا من الموضوعية (رورتي، 1991) سيمثِّل تقدُّمًا حقيقيًّا في تعليم الرياضيات.
وللتوضيح، فبينما يتحمس باني في السطور القليلة التي يمتدح فيها فلسفة رورتي حول احتمالات انفتاح الأخير على تعليم الرياضيات، أودُّ أن أُشير إلى أن تركيز رورتي على المجتمع يختلف اختلافًا عميقًا عن تركيز ليبمان، ففي حين يستطيع ليبمان أن يضيف إلى معنى ومغزى تعلم/تعليم الرياضيات، فإن رورتي يخاطر بتدميره. إن قبول رورتي لمجتمع التساؤل موضع شك لتخوُّفه من مفهوم التساؤل، فعلى الأرجح كان سيجده مرهونًا للغاية بسلوك “موجه نحو الموضوعية”، كما لو أن قيمة المجتمع وسبب وجوده خارجان عنه وعن مبدأ التضامن. وكما قال سيلفا بذكاء (Silva, 2010)، فإن رورتي وليبمان يمثلان تفسيرين خاطئين -بالمعنى البلومي (1973، 1975)- لإرث ديوي، وأنا أميل إلى القول: كما أن ليبمان يقدر على إعادة بناء ممارسات تعليم الرياضيات، يمكن لرورتي تقديم اقتراحات مفيدة في الجانب التفكيكي، على حين أن تأثير الأخير في الجانب البنائي ضئيل.
في الواقع، فإن جوهر إصرار رورتي على التضامن هو أن ما يهم هو الحوار فقط، وليس ما يُوَجَّه نحوه الحوار. الخطر الكامن في هذا المنظور بنظري هو أنه لا يمثِّل سوى المعارضة المناهضة لنموذج الأكاديمية الذي صوَّرته. إذا كان المجتمع في الأكاديمية مُهمل -كما يجسده البحث النظري عن الحقيقة- فإن البحث عن الحقيقة في نظام رورتي مُهمل أيضًا. إن مفهوم “المحادثة” يجسد هذا التغيير في المنظور تجسيدًا باهرًا. إذا كانت إمكانية حدوث إضافة مستمرة إلى مخزون المعاني في مجتمع متضامن ظاهرةً بوضوح (وهي بالفعل علامة على ازدهار المجتمع)، فإن هذا ليس نتيجة تساؤل يبحث عن الحقيقة. على العكس من ذلك، كما جادلت سوزان غاردنر بشكل ممتاز، “إن التقدُّم نحو الحقيقة أمر حيوي لممارسة التساؤل و… إذا لم يُحَقَّق هذا التقدُّم، فإن مصطلح “مجتمع التساؤل” يصبح مصطلحًا خاطئًا” (غاردنر، 1995/ 1996، ص102).
التداعيات التربوية لهذه الفروق (المحادثة ≠ الحوار، مجتمع روتري ≠ مجتمع ليبمان) هي أنه في نهج المحادثة الذي يبحث في تطوير التساؤل في الصف الدراسي (أو حلقة الفلسفة للأطفال) يمكن التغاضي عن الحقيقة لأن مجرد التقدُّم في المحادثة كاف ويمكن أن يساهم في تعزيز تضامن المجتمع. على الناحية الأخرى فمن المهم أن يكون تماسك المجتمع في مجتمع التساؤل ملتزمًا بالبحث عن الحقيقة. يُعَدُّ تجاهل هذا البحث أمرًا كارثيًّا بالنسبة لحلقة الفلسفة للأطفال (يدرك الكثير منا بألم كيف أن ما يحدث في الصفوف الدراسية لا يكون في كثير من الأحيان جلسة فلسفة للأطفال بل محادثة لطيفة تبدأ من نصوص ليبمانية (نسبة إلى ليبمان) وتلتزم ببعض إجراءاته). ستظل الأمور على حالها إذا أردنا توظيف هذا النوع من مجتمعات التساؤل ضعيفة المحادثة لتعليم الرياضيات.
إن البحث عن الحقيقة دون أن يكون استسلامًا لـ«الموضوعية الأفلاطونية» يزوِّد المجتمع بتوجه تساؤلي، ويُعنى التوجه التساؤلي هذا بأن يشكِّل العلاقات التي تحدث فيه (ما يسميه غادامر (1960) logos)) الحوار). يشرف المعلم على هذا الاتجاه عن طريق المساهمة في تنسيق مختلف جدائل الحوار (وما فيه من الأقوال المختلفة للطلاب، والتي لا ينبغي اختزالها في التوافق في الرأي بينهم) في وحدة حوارية تجمع الاختلافات.
أُصرُّ على فكرة الحوار الموجَّه إلى الحقيقة (غير الأفلاطونية) لإعداد منصة مفاهيمية لمناقشة مهمة التساؤل الفلسفي في صفوف الرياضيات بتوضيح كلا الطريقتين التي يحدث فيها التساؤل الفلسفي، وذكر تجارب أخرى في تعليم الرياضيات وخصائصها التي في رأيي تسمح بتجنب بعض المآخذ.
ركز بول إرنست (1994) على الطبيعة الحوارية للرياضيات نفسها، موضحًا كيف أنها “تقع على مفترق طرق بين تيارين سائدين في الفكر الحديث: التقليد الفلسفي الحديث في فلسفة الرياضيات المتعلق بالقابلية للخطأ (اللامعصومية Fallibilism)، والاستعمال متعدد المجالات للمحادثة وعملها (أي المحادثة) استعارةً أساسية تكمن فيها معرفة الإنسان وتفاعله” (ص33). أما التيار الأول، فإن سِمته الأساسية تتمثل في رفض الأطروحات الأربع التالية:
- هناك أساس متين وثابت للحقيقة تقوم عليه المعرفة الرياضية.
- هناك استنتاجات منطقية موثوقة تمامًا للنظريات الرياضية مبنية على مقدمات واضحة.
- المعرفة الرياضية المطلقة المبنية على براهين لا تشوبها شائبة هي مثل أعلى يمكن تحقيقه.
- الخصائص المنطقية للبرهان الرياضي تكفي وحدها لتأسيس المعرفة الرياضية دون الرجوع إلى الفاعلية البشرية أو المجال الاجتماعي.
تدعم هذه الأطروحات وجهات النظر المطلقة التقليدية للمعرفة الرياضية وتؤسِّس لطابعها الأحادي. وهي أيضًا افتراضات مركزية للعقلانية الديكارتية والحداثة القائمة عليها. (المرجع نفسه، ص 35).
صحيح أن هذه الأطروحات تنتمي إلى العقلانية الحديثة، ولكن كما حاولت أن أوضح أعلاه، فإن جذورها تعود إلى النموذج الأكاديمي (أكاديمية أفلاطون).
أما التيار الثاني الذي ذكره إرنست فهو يستدعي مفكرين مختلفين، مثل: رورتي وفيتجنشتاين وغادامير. من أجل إطلاق بديل للتقليد المونولوجي (الحوار الأحادي الإتجاه) في تعليم الرياضيات، قد يكون من المناسب عرض مثل هذه المجموعة من الفلسفات، ومع ذلك فإنني أميل إلى عَدِّ الجديلة “المحادثاتية” لهذا التقليد الحواري الجديد ليست واعدة للغاية بالنسبة لصفوف الرياضيات. حتى لو تخلصنا من وجهة النظر المُطلقة، فمن المهم أن نضع في اعتبارنا أن التساؤل ضمن الرياضيات أيضًا يتطلب الاتجاه نحو الحقيقة، ولهذا فإن بعض “الفلسفات الحوارية” أكثر ملاءمة من غيرها من أجل التجديد في تعلم/تعليم الرياضيات.
يوضح إرنست أيضًا كيف أن الطبيعة الحوارية للرياضيات “تشمل أساسها النصي، وبعض مفاهيمها، وأصول الإثبات فيها وطبيعته، والعمليات الاجتماعية التي بواسطتها تُنشأ المعرفة الرياضية وتُحَصَّل وتُتَعَلَّم” (المرجع نفسه، ص 44-46). وبصرف النظر عن الشكوك حول فكرة المحادثة، فإنني أتفق مع النقطة الأساسية التي ذكرها إرنست. ولكن إذا سمحت لنا حججه بإيجاد استجابة في مجال تعليم الرياضيات للتأملات (الفلسفية التربوية) التي أجريت في هذه الورقة، فإنها لا تشكِّل في حد ذاتها “دليلًا” على أن شيئًا مثل التساؤل/الحوار الفلسفي هو أمر ضروري ومفيد لصفوف الرياضيات.
للحديث بمفردات الفلسفة للأطفال، سأخلص لمناقشة التالي: إذا كان ينبغي لتعليم الرياضيات أن يكون دائمًا ذا طبيعة حوارية (بما يتماشى مع الطبيعة الحوارية للرياضيات نفسها)، فمتى ولماذا ولأي غاية وبأي شكل يكون الحوار الفلسفي النموذجي مفيدًا؟
على مدى السنوات الماضية استقصت نادية ستويانوفا كينيدي قضايا مشابهة وتحدثت عن “الانقطاع” بالاعتماد على فكرة بييستا (2006 ، 2010). ما انقطع هو “النظام الاعتيادي” الذي يحكم الممارسة التربوية في الصفوف الدراسية، وقد يكون هذا الانقطاع “مباشرًا كحث الطلاب على التشكيك في فهمهم الخاص لمفهوم يُنَاقَش، للتفكير فيما يعرفونه وما لا يعرفونه، وللتشكيك في فهم أقرانهم للمفهوم” (NS Kennedy، 2012a، p. 261).
ومن المفهوم إذن أن هذا الانقطاع يُعَدُّ حركة شبه سقراطية تشبه الطوربيد وتمنع الطلاب من الوقوع في جمود “المجال”، أي المخاطرة بأخذ مفاهيم فنٍّ معين على أنها أمر مسلَّم به (كما أخذ زملاء سقراط في المواطنة أعراف مدينتهم على أنها أمور مسلَّم بها). ويسمح هذا الانقطاع للأفراد بإعادة ربط تعلم هذا التخصص بالسياق الأوسع لوجودهم في العالم (البعد الأخلاقي لتعلم الرياضيات، بالمعنى الموضَّح أعلاه).
من المهم أن نُقدِّر الإشارة المميزة في فكرة “الانقطاع”: إذ إنها لا تشير إلى اقتحام من الخارج، ولكن تشير إلى العمل على الفجوات الموجودة في بُنى المجالات، وإضعاف الانغلاق المونولوجي (الأُحادي الإتجاه) الذي يتربص دائمًا بكل تخصص، مما يفتح مجالًا للنقاش والحوار. هذا النوع من الانقطاع هو شرط الـ”فائدة”، وهو مفهوم بوجوده في المنتصف (عند الباب) باستعمال المجاز الذي كنت قد بدأت به.
إذا فتح التساؤل الفلسفي مجالًا للحوار الذي يعيد ربط الرياضيات في طبيعتها الحوارية بمعاملات الإنسان مع العالم، فإنه يُمَثِّل أيضًا تطرفًا في الطبيعة التساؤلية للرياضيات نفسها. لقد تحدث جون ماسون (2002، ص 109) بشكل جميل عن “جو التخمين” الذي يدعم تعلم الرياضيات. وفي سياق مماثل يقول ديريك هولتون (1997) بالبناء على فكرة ليجراند حول المناظرة العلمية:
بموجب ( الجدل العلمي le débat scientifique) […] يُنظر إلى الطلاب على أنهم مشاركون في مجتمع علمي تشتمل أساليب تطويره على التخمينات والبراهين واللوائح. يمكن أن ينشأ الجدل العلمي بعفوية كما هو الحال عندما يطرح الطالب سؤالًا، أو يمكن إثارته عمدًا. تشمل المبادئ التوجيهية للجدل العلمي ما يلي:
– الاضطراب: يجب على الطلاب مواجهة الصراع والتعامل معه.
– الشمولية: يجب أن تُتاح للجميع الفرصة لفهم ما نحاول تدريسه.
– الجماعية: يُظهر الحل الجماعي للقضايا كيفية التعامل مع التناقضات واحترام آراء الآخرين.
والآن قد يبدو من الغريب أن ما يسمى بـ “العلمي” يتمتع بمثل هذا الأساس الاجتماعي القوي. ربما يُفَسَّر ذلك بالإشارة إلى أن الهدف من التمرين هو السماح للطلاب بالمشاركة في “الجدل العلمي”. وهذا يتطلَّب جوًا يُدعم فيه التخمين حيث يشعر الطلاب بالحرية في طرح أفكارهم، وحيث لا يشعرون بالحرج من ارتكاب الأخطاء، وحيث يشعرون أنهم قادرون على تعديل أفكار الآخرين (ص 4).
لقد اقتبست هذا المقطع بإسهاب لأنه يشير إلى ديناميكيات اجتماعية معرفية تشبه إلى حد كبير تلك الموجودة في مجتمع التساؤل الفلسفي: ما خصوصية مجتمع التساؤل الفلسفي إذًا؟ إذا كان يجب على البعد الفلسفي أن يكون أكثر من مجرد محتوى، فيجب أن يُمَثِّل بالأحرى اختلافًا في تلك الديناميكيات.
لفهم هذه النقطة علينا أن نعود إلى فكرة مجتمع التساؤل الفلسفي. أخذ ليبمان العبارة من بيرس (دي. كينيدي، 2010، ص. 15)، ولكن مع إضافة مهمة تُعبِّر عنها صفة “الفلسفي”. في فلسفة بيرس يُدفع التساؤل بشكٍّ “حقيقي”، أي بما يقع في أنفسنا ويُعيد تشويش معتقداتنا. الشك الأصيل هو “تردد حقيقي -مهما قصُر- في تصرفاتنا” (باستخدام عبارة بيرس)، وهو بالطبع يختلف تمامًا عن نوع الانقطاع الذي ينتجه التساؤل الفلسفي. ولهذا -وبناءً على كلام ليبمان في نهاية المطاف- فإن مجتمع التساؤل الفلسفي غير بيرسي ومنفصل عن كيفية عمل المجتمع العلمي وغير قادر على أن يؤثر في التساؤلات المتعلقة بالعلم (وكذلك الرياضيات على سبيل المثال).
لكن في الواقع الأمور أكثر تعقيدًا، وبفهم المعنى الذي يكون فيه ليبمان مخلصًا بحق لبعد واحد من تراث بيرس، يمكننا أيضًا تقدير المساهمة التي يمكن أن يقدمها مجتمع التساؤل الفلسفي لصفوف الرياضيات. وكما أشار براوننج (1991)، في 1905:
لقد أدرك بيرس شكلاً مهمًّا من التساؤل الفلسفي الذي لم يملك نقطة بداية للشك الأصيل والحقيقي. […] إن الشكل المفضل للاستقصاء الفلسفي هو […] ذلك الذي يؤدي إلى الشك الحقيقي ويشجعه، ويستمر بمجرد ظهور هذا الشك في تدميره عن طريق الإيمان. لكن لم تعد نقطة البداية للاستقصاء الفلسفي هي الشك الحقيقي في وجهة النظر هذه كونها تحتل الآن نقطة وسطًا في الاستقصاء. يبدو أن نقطة البداية الجديدة هذه على الرغم من عدم إشارة بيرس إليها بأي تفصيل تتكون من نوع من الفعل الاختياري الذي “يضع فيه المرء نفسه” للتفكير في بعض معتقداته وفحصها (ص20-21).
تكمن براعة ليبمان، دون أن يكون لديه على الأرجح فهم دقيق لفكر بيرس، ومع ذلك فقد كان قادرًا على فهم عنصر مهم في نظرية المعرفة لدى بيرس وترجمته إلى أداة تعليمية قوية، وهو مجتمع التساؤل الفلسفي. حين يُوظَّف مجتمع التساؤل الفلسفي لتعلم/تعليم التخصصات بصفته منهجًا تربويًّا يمكنه أن يثير شكوكًا فلسفية (خطوة 1)، فيثير “شكًّا حقيقيًّا” (خطوة 2)، لا يمكن لتساؤل حقيقي (خطوة 3) أن ينشأ دونه.
بلا شك فإن تشجيع برامج التساؤل (غير الفلسفية) غالبًا ما يكون غير كافٍ، لأنها قد تظل محصورة في مجال التخصص. من المرحب به دومًا استخدام أي استراتيجية تدريس تحول دون وقوع الطلاب في الفخ الذي أسماه لايبتنيز “الببغائية” في إعادة ترديد الدروس. لكن على الرغم من مزايا الأساليب القائمة على التساؤل، فإنه ليس بإمكانها تفادي هذا الخطر دائمًا. فحينما لا يكون التساؤل ناتجًا عن شك حقيقي -حتى لو بدا رائعًا ومثيرًا للاهتمام- فقد يعاني من قلة نجاعة الفهم الحقيقي للموضوع. يخاطر الطلاب بأن ينحوا نحو كوهنيان (1970) في حل الألغاز أكثر من أن يكونوا متسائلي بيرس. ولهذا يمكن/ينبغي أن تكون الخطوة المهمة للمعلم هي تعزيز ظهور شك حقيقي عبر تعزيز التساؤل الفلسفي، وفقًا لنموذج بيرس-ليبمان.
سأعطي مثالًا موجزًا لما أعنيه، حدث في إيطاليا أنه كان على تلاميذ في الصف الرابع أن يرتِّبوا القياسات التالية بترتيب تصاعدي: (7.50 ديسيمتر – 8.1 ديسيمتر – 7.8 ديسيمتر – 7.09 ديسيمتر – – 8.15 ديسيمتر)، ودار الحوار التالي (انظر سورزيو، 2013، ص 143-144):
1) توماسو: سبعة فاصل تسعة أصغر… بسبب الصفر.
2) جوليا: لأن الصفر ليس له أي قيمة، يمكنك أن تقول 7.9.
3) أندريا: ولكن هناك أيضًا 7.8.
4) توماسو: هذا صحيح 7.8 لأن تسعة هي المليمتر.
5) المعلمة: من يوافق؟
6) الكل: نعم!
7) المعلمة: فلتعطوني سببًا وجيهًا إذًا.
8) سيلفيا: لأن 7 هو ديسيمتر، 0 هو سنتيمتر، 9 هو مليمتر.
9) المعلمة: 0 ليس سنتيمترًا، بل صفر سنتيمترات. و7.8، ما هو؟
10) الكل: 7 ديسيمترات، 8 سنتيمترات.
11) المعلمة: إذن، لماذا 7.09 أصغر، هل يمكنك شرح ذلك جيدًا؟
12) سيلفيا: لأن السنتيمترات أكبر من المليمترات.
13) جوليا: لا!
14) (تُظهر سيلفيا السنتيمترات والمليمترات على المسطرة).
15) المعلمة: لماذا هو أصغر؟
16) توماسو: لأنه يحتوي المليمترات… لأن الصفر ليس له أي قيمة… فالصفر هو الذي يشير…
17) المعلمة: لا، لا، ليس لأن الصفر ليس له قيمة… بل لأن الصفر يشير إلى …
18) الكل: السنتيمترات.
19) المعلمة: 7 يشير إلى الديسيمترات، والصفر يخبرنا أن هذا القياس هو 0 سنتيمترات و9 ملليمترات، والآخر هو 8 سنتيمترات، وبعد ذلك…
20) توماسو: 7.9.
21) سيلفيا: 7.09.
22) المعلمة: ثم ما الرقم التالي؟
23) توماسو: 7.8.
24) المعلمة: هل أنت متأكد؟
25) جوليا: نعم، لأننا نرجع خطوة صغيرة إلى الوراء.
26) المعلمة: لا، فكر.
27) أندريا: 7.50.
28) المعلمة: لماذا؟
29) أندريا: لأن 5 سنتيمترات أصغر من 8 سنتيمترات.
30) المعلمة: من يوافق؟ من يختلف؟
(كثيرون يختلفون).
31) توماسو: 5 أصغر من 8 لأن 0 ليس له أي قيمة.
32) المعلمة: لا ينبغي أن ترى الصفر أصغر بل شيئًا يدل على عنصر أصغر.
33) سيلفيا: هذا 0 يجب أن يكون 0 ملليمتر، 0 ملليمتر ليس موجودًا على المسطرة، ولهذا فإن المليمترات ليست موجودة لأنه إذا كان 0 فلن تكون هناك.
34) المعلمة: إذن، 8.1 و8.15، أيهما أصغر؟
35) توماسو: 8.15 أصغر لأن لدينا هنا المليمترات.
36) المعلمة: ولهذا السبب هل هو أصغر؟
37) (توماسو في حيرة وبعض الطلاب يختلفون).
38) أندريا: 8.1 و8.15 سيكونان 8 ديسيمتر و1 سم، و8.15 هو 8 ديسيمتر و1 سم و5 مم.
(يبدأ الآخرون بالموافقة).
– وتكمل أندريا: هنا لدينا سنتيمتر واحد ويتقدم بمقدار 5 مم.
ويوشك الحوار هنا إلى التحول إلى نوع من حل الألغاز. عوضًا عن ذلك، يمكن أن يشير “منطق” الانقطاع، أنه في الخطوة (17) كان بإمكان المعلمة “توسيع” تدخلها إلى المستوى الفلسفي وفتح المجال لنوع مختلف من الأسئلة، بدلًا من الإشارة تقريبًا إلى الإجابة الصحيحة حينما أشارت إلى كلمات توماسو في (16).
كان بإمكانها أن تتساءل قبل العودة إلى المشكلة الرياضية: ما “قيمة” الصفر؟ ماذا تقصد بقولك إن الصفر ليس له قيمة؟ هل الصفر واللا شيء هما نفس الشيء؟ عندما يكون لدينا صفر، هل نشير إلى لا شيء؟ ما اللا شيء؟ هل هو نفس الصفر؟
ومن الواضح أن إحدى قضايا الحوار (وإن لم تكن الوحيدة) تتعلق بفكرة أن الصفر له قيمة/ليس له قيمة، وأن ذلك يمثِّل نوعًا من “العائق المعرفي” (باشلار، 1938) لفهم كيفية ترتيب القياسات. البقاء فقط ضمن إطار رياضي بحت، أي ضمن مناقشة بحتة داخل التخصصات، يمكن أن يؤدي في النهاية إلى الإجابة الصحيحة ولكن دون “فهم” كامل للمفاهيم. يمكن أن يوفر هذا الانقطاع الفلسفي الفرصة لتحسين فهم بعض المفاهيم وإنشاء منصة نظرية للعودة إلى التساؤل الرياضي بمزيد من الوعي.
ألف عالم ومعلم الرياضيات النيوزيلندي بيل بارتون قصة مثيرة للاهتمام، أُدرجت في كتابه “لغة الرياضيات”، وتهدف قصته إلى القول بأن “الرياضيات خلق بشري [وإظهار] ذلك في أصول الرياضيات وأنه أمكن للبشر إنشاؤها بطريقة مختلفة عمَّا فعلوه” (بارتون، 2009، ص 73). يبني بارتون على مفاهيم أتوافق معها، كالدور المركزي للتواصل واللغة (انظر أيضًا Devlin, 2000)، وأهمية الاستعارة والتجسيد (انظر أيضًا Lakoff & Nunez, 2000)، والحاجة إلى إعادة ربط الرياضيات بالخبرة، ولكنه يعطي هذه المفاهيم نقلة ثورية، وهو في رأيي متأثر جدًّا بجدائل التفكير ما بعد الحداثي ونظرية المعرفة، في حين أنني أفضِّل وضعها ضمن اتجاه ديوي بعد- ما بعد حداثي (Hickman, 2007; Oliverio, 2013). لكن هذا موضوع نقاش يتجاوز موضوع هذه المقالة.
في القصة الخيالية (Barton, 2009, pp. 73-77) يطرح المعلم هذه المشكلة: “1/4 + 3/8 =؟” ويتلقى أربع إجابات مختلفة:
– جوني: 1/4 + 3/8 = 4/12
– مير: 1/4 + 3/8 = 5/16
– توم: 1/4 + 3/8 = 3/32
– فيليبا: 1/4 + 3/8 = 5/8
يبرع بارتون في وصف تفسيرات جوني ومير وتوم المذهلة (المترسخة في نهاية المطاف في إمكانية أنواع أخرى من الرياضيات وشرعيتها)، ولهذا يبرع في إيصال وجهة نظره أن “الطرائق الأربع لـ “الإضافة” (أي جمع) الكسور كلها صالحة في سياقاتها” (ص 77)، لأن الرياضيات حساسة للغة والثقافة، ولهذا فإن على المعلم “أن يكون أحرص بشأن استخدام كلمات مثل “صحيح” و”خاطئ”، مفضلًا عوضًا عن ذلك ذكر الاصطلاحات، أو شرح سياق المفاهيم الرياضية” (المرجع نفسه).
وكما سبق أن ذكرت، فأنا لن أُؤيد شطط ما يقول، لكنني مهتم هنا بما حصل مع فيليبا، التلميذة الوحيدة التي أعطت الإجابة “الصحيحة” (وفقًا لبارتون). وهي تشرح هنا سبب حصولها على هذه النتيجة بعد شرح زملائها في الصف:
رفضت فيليبا التجاوز. قالت (وهي تبكي): “وحدي من أخطأ”. “اعتقدت أنني تعلمت الطريقة الصحيحة، ولكن عندما أنظر إليها، لا معنى لها. أفهم كتابة الربع بكونه ثُمُنين، لكن لا يوجد سبب لإضافة الأرقام العلوية فقط وليس الأرقام السفلية. هذا لا يبدو صحيحًا. لماذا نفعل ذلك؟ جميعهم يملكون سببًا لفعل ذلك إلا أنا“. تعلمت فيليبا الطريقة التي درَّسها المعلم لطلاب الصف، ولكن لم يكن لديها مثال لتوضيح ذلك، ولم يكن هناك سبب منطقي لأسلوبها. كانت ذكية بما يكفي لفهم الأساليب التي استخدمها الآخرون، وكانت منطقية بالنسبة لها. لم تكن طريقتها منطقية، وبغض النظر عمَّا قاله المعلم، كانت فيليبا تشعر بحرج شديد لدرجة أنها لم تتجاوز ذلك (بارتون، 2009، ص 76-77. تحته خط).
في حين أن جوني ومير وتوم كانوا على استعداد لتقديم الأسباب، لأن إجاباتهم ترتكز في نهاية المطاف على تجاربهم ضمن حياتهم، فإن فيليبا لم تنجح في تقديم هذا النوع من التسويغ، ولهذا أصابها اليأس والحزن وبدأت تراودها الشكوك حول كفاءتها في الرياضيات (وفي الأخير، تعتقد أنها مخطئة، على الرغم من أنه عليها أن تعلم أن الحسابات التي أجرتها كانت صحيحة). على نقيض نية الكاتب، فإنني أفسر هذه القصة ليس على أنها مثال عن تعدد العوالم الرياضية، بل بكونها اعتذارًا مضيئًا حول مدى الحاجة إلى الفهم “الوجودي” للإجراءات والمفاهيم والأساليب الرياضية وما إلى ذلك، إذا أردنا معرفة تامَّة بالرياضيات. وهذا يتطلَّب تعلمًا «غير رياضي» ولكن «براغماتي» للرياضيات مستخدمين مفردات هايدجر. هناك حاجة لإحالة الرياضيات مرة أخرى إلى (Lebenswelt=عالَم الحياة=Lifeworld) (هوسرل، 1959) من أجل مقارنة “اغتراب المعنى” للصيغ الرياضية (المرجع نفسه، § 9f) وميكانيكيتها (المرجع نفسه، § 9g). إن ما يُعَدُّ -عند هوسرل- سردًا عظيمًا حول مصير الحضارة الغربية يحدث مرارًا على نطاق أصغر في كل صف دراسي.
في قصة بارتون أجّلت المعلمة شرح سبب كون فيليبا “على حق” حتى الدرس القادم و”شعرت بموجة من الارتياح عندما رن الجرس، وانطلقت لتعيد التفكير فيما كانت تفعله في الرياضيات” (بارتون، 2009، ص 77). لم تتمكن المعلمة من مواساة فيليبا. ومن المؤكد أن الاعتماد على ترسانتها التربوية في تدريس الرياضيات قد يكون غير فعال. لم تبكِ فيليبا الافتقار إلى الكفاءة في جمع الكسور، بل في فهم ذلك. علاوة على ذلك، كيف للمعلمة أن تعزز التعلم التحويلي حقًّا transformative learning(بمعنى شبه ميزوري (1991)) في جوني ومير وتوم، ولا تقتصر على تقديم تفسير رياضي لهم دون نقل المعنى الذي يجعلهم يتخلون عن نظرياتهم المرتكزة على تجربتهم؟ دون الدفع بالتساؤل الفلسفي، قد لا تتمكن المعلمة من وقف دموع فيليبا.
تعقيب
في حين أن الشعار الموجود عند مدخل الأكاديمية يشير إلى الهندسة إلا أنه يمكن أن يمتد إلى الرياضيات. في هذه المقالة، سآخذ بعين الاعتبار المصطلح (/Geometric
Aγεωμέτρητος) ليعبِّر عن “الشخص الذي لا يعرف الرياضيات”. ولا أستطيع أن أُقَدِّم هنا تسويغًا أكثر تحديدًا لمثل هذه الخطوة (انظر هوسرل، 1959).
المراجع
Agamben, G. (2008), Signatura rerum. Sul metodo, Torino: Bollati Boringhieri.
Arendt, H. (1965), On Revolution, New York: Viking Press.
Bachelard, G. (1938), La formation de l’ésprit scientifique, Paris: Librairie philosophique J. Vrin.
Bagni, G.T. (2007), Richard Rorty (1931-2007) and his legacy for mathematics educators, Educational Studies
in Mathematics, 67(1).
Barton, B. (2009), The Language of Mathematics. Telling Mathematical Tales, Berlin and New York: Springer. Berti, E. (2010), Sumphilosophein. La vita nell’Accademia di Platone, Roma-Bari: Laterza.
Biesta, G. (2006), Beyond Learning. Democratic Education for a Human Future, Boulder and London:
Paradigm Publishers.
Biesta, G. (2010), Good Education in an Age of Measurement. Ethics, Politics, Democracy, Boulder and
London: Paradigm Publishers.
Bloom, H. (1973), The Anxiety of Influence. A Theory of Poetry, New York: Oxford University Press.
Bloom, H. (1973), A Map of Misreading, New York: Oxford University Press.
Browning, D. (1994), The Limits of the Practical in Peirce’s View of Philosophical Inquiry, in E. C. Moore,
- S. Robin (eds.), From Time and Chance to Consciousness: Studies in the Metaphysics of Charles
Peirce, Oxford: Berg Publishers
Davis, P.J., Hersh, R. (1986), Descartes’ Dream. The World According to Mathematics, Mineola, NY: Dover
Publications.
Devlin, K. (2000), The Math Gene. How Mathematical Thinking Evolved and Why Numbers Are like Gossip,
New York: Basic Books.
Dewey, J. (1917), The Need for a Recovery of Philosophy, in The Middle Works, 1925-1953, vol. 10 (1916-
1917), edited by J.A. Boydston, Carbondale: Southern Illinois University Press, 1980. Dewey, J. (1929), The Quest for Certainty, in The Later Works, 1925-1953, vol. 4 (1929), edited by J.A. Boydston, Carbondale: Southern Illinois University Press, 1984.
Dewey, J. (1933), How We Think: A Restatement of the Relation of Reflective Thinking to the Educative
Process, in The Later Works, 1925-1953, vol. 8 (1933), edited by J. A. Boydston, Carbondale: Southern
Illinois University Press, 1986.
Dewey, J. (1938), Logic: The Theory of Inquiry, in The Later Works, 1925-1953, vol. 12 (1938), edited by J.A. Boydston, Carbondale: Southern Illinois University Press, 1986.
Ernest, P. (1994), The Dialogic Nature of Mathematics, in P. Ernest (ed.), Mathematics, Education and
Philosophy: An Internationl Perspective, London and Washington D.C.: The Falmer Press.
Gadamer, H.-G., Wahrheit und Methode, Tübingen: J.C.B. Mohr
Gardner, S. (1995/1996), Inquiry is no Mere Conversation (or Discussion or Dialogue). Facilitation of Inquiry
Is Hard Work!, Analytic Teaching, Vol. 16, No. 2.
Hadot, P. (2002), Exercices spirituels et philosophie antique, Paris: Éditions Albin Michel. Heidegger, M. (1936), Die Frage nach dem Ding, Tübingen: Max Niemeyer Verlag,1987. Hickman, L.A. (2007), Pragmatism As Post-Postmodernism, New York: Fordham University Press.
Hildebrand, D. (1996), Genuine Doubt and the Community in Peirce’s Theory of Inquiry, Southwest Philosophy Review, Vol. 12, No. 1.
Holton, D. (1997), Personal thoughts on an ICMI study, retrievable on http://www.maths.otago.ac.nz/ICMI_ Study (last access June, 10th 2013).
Husserl, E. (1959), Die Krisis der europäischen Wissenschaften und die transzendentale Phänomenologie, L’Aja: Martinus Nijhoff’s Boekhandel.
Kennedy, D. (1995), Philosophy for Children and School Reform. Dewey, Lipman and the Community of Inquiry, in J. P. Portelli & R. F. Reed (eds), Children, Philosophy, and Democracy, Calgary, Alberta (Canada): Detselig Enterprise Ltd.
Kennedy, D. (1997), The Five Communities, Inquiry: Critical Thinking across Disciplines, 16(4). Kennedy, D. (2004a), Communal Philosophical Dialogue and the Intersubject, International Journal of Applied Philosophy, 18(2).
Kennedy, D. (2004b), The Role of a Facilitator in a Community of Philosophical Inquiry, Metaphilosophy, 35(4).
Kennedy, D. (2010), Ann Sharp’s Contribution. A Conversation with Matthew Lipman, Childhood &
Philosophy, 6(11).
Kennedy, D. (2012), Lipman, Dewey, and the Community of Philosophical Inquiry, Education and Culture, 28(2).
Kennedy, N.S. (2012a), Interrogation as Interruption in the Mathematics Classroom, in M. Santi, S. Oliverio (Eds.), Educating for Complex Thinking through Philosophical Inquiry. Models, Advances, and
Proposals for the New Millennium, Napoli: Liguori.
Kennedy, N.S. (2012b), Lipman, Dewey, and Philosophical Inquiry in the Mathematics Classroom, Education and Culture, 28(2).
Kuhn, T.S. (1970), The Structure of Scientific Revolutions (Chicago and London: The University of Chicago Press, 1996).
Lakoff, G., Nunez, R. (2000), Where mathematics comes from, New York: Basic Books.
Landsberg, P. (1923), Wesen und Bedeutung der Platonische Akademie, Bonn: Verlag von Friedrich Cohen. Lipman, M. (1988), Philosophy Goes to School, Philadelphia: Temple University Press.
Lipman, M. (1991), Thinking in Education, Cambridge: Cambridge University Press.
Lipman, M. (2003), Thinking in Education, Cambridge: Cambridge University Press.
Lipman, M. Sharp, A.M., Oscanyan, F.S. (1980), Philosophy in the Classroom, Philadelphia: Temple
University Press
Mason, J. (2002), Generalisation and algebra: Exploring children’s powers, in L. Haggerty (Ed.), Aspects of
Teaching Secondary Mathematics: Perspectives on Practice, London: Routledge Falmer.
Mezirow, J. (1991), Transformative Dimensions of Adult Learning, San Francisco: Jossey-Bass Inc.
Oliverio, S. (2012b), Accomplishing Modernity: Dewey’s Inquiry, Childhood and Philosophy, Education and
Culture, 28(2).
Oliverio, S. (2013), La costellazione post-postmoderna. Educazione, filosofia e scienza tra Rorty e Neurath
(e Dewey), in E. Corbi, S. Oliverio (Eds.), Oltre la Bildung postmoderna? La pedagogia tra istanze
costruttiviste e orizzonti post-costruttivisti, Lecce: PensaMultimedia.
Rorty, R. (1991), Solidarity or Objectivity, in Objectivity, Relativism and Truth. Philosophical Papers, Vol. I, Cambridge: Cambridge University Press.
Sharp, A.M. (1987), What is a Community of Inquiry?, Journal of Moral Education, 16(1).
Sharp, A.M. (1996), Self-Transformation in the Community of Inquiry, Inquiry: Critical Thinking Across the
Disciplines, 16(1).
Silva, H. (2010), Notas sobre a filosofia da educação de Matthew Lipman a partir do pragmatismo de
John Dewey e do neopragmatismo de Richard Rorty: um exercício de desleitura, in Anais do V
Colóquio International de Filosofia da Educação, UERJ, 7-10 settembre 2010.
Sorzio, P. (2013), Il curricolo come ambiente diincontro tra schemi cognitivi individuali e oggetti simbolici.
Un approccio realista al costruttivismo, in E. Corbi, S. Oliverio (Eds.), Realtà tra virgolette? Nuovo
realismo e pedagogia, Lecce: PensaMultimedia.
Splitter, L., Sharp, A.M. (1995), Teaching for Better Thinking. The Classroom Community of Inquiry,
Melbourne: Australian Council Educational Research (ACER).
Vlastos, G. (1994a), The Socratic elenchus: method is all, in Id., Socratic Studies, New York: Cambridge
University Press.
Vlastos, G. (1994b), Socrates’ disavowal of knowledge, in Id., Socratic Studies, New York: Cambridge University Press.
[1] community of philosophical inquiry
حمل مقالة نحو تعلم غير رياضي للرياضيات