ماذا يحدث في النصوص الفلسفية: نظرية وممارسات ماثيو ليبمان للنص الفلسفي بوصفه نموذجًا.

داريل إم دي مارزيو.

جامعة سكرانتون.

De Marzio, D.M. 2011, ‘What happens in philosophical texts: Matthew Lipman’s theory and practice of the philosophical text as model’ Childhood & Philosophy

Vol.11, no.13, pp.19-36.

ترجمة: شيماء مرزا.

تحرير: داليا تونسي.

تدقيق: منى عبد الله.

المقدمة:

بدأ ماثيو ليبمان عند اقتراب نهاية مسيرته المهنية بالتفكر في مخاوف وتحديات قد تواجه مكانة ومستقبل الرواية الفلسفية، وبالتحديد الروايات الفلسفية المستعملة في برامج تعليم الفلسفة للأطفال.

لم يكن ليبمان قلقًا بشأن مكانة ومستقبل رواياته مثل:

Harry Stottlemeier’s Discovery, Pixie, Kio and Gus وما شابهها من الروايات الأخرى إذ أدرك تمامًا أنها ليست روائع أدبية خالدة، لأن المصطلحات المستخدمة في الروايات في منتصف السبعينيات الميلادية لإثارة تفكير الأطفال الفلسفي لم تعد متداولة في زمننا الحالي. لذلك شجَّع ليبمان الجميع على الارتياح لتغيير محتوى الروايات الفلسفية لجعلها ملائمة للثقافة المحلية للأطفال كي تصبح مرجعًا يصلح أن يكون مثيرًا فلسفيًّا لتعليم الفلسفة للأطفال على مدى الأزمنة المختلفة. وعلى الرغم من ذلك فلم يكن محتوى الروايات الفلسفية هو السبب الرئيسي لقلق ليبمان بل صيغة الروايات ومكانتها في المستقبل.

 في أحد آخر مقالاته المنشورة في مجلة Thinking، يناقش ليبمان مخاوفه المتعلقة بالقصص الفلسفية. كتب في المقال: “إذا سُئلت عن أبرز وأفدح العيوب الموجودة في القصص الفلسفية الموجهة للأطفال التي اطلعت عليها في السنين الأخيرة فسيكون جوابي: بعضها تتمحور حول محتوى القصة فحسب ولا تستهدف إثارة التفكير الفلسفي عند الطفل، وبعضها الآخر تركز على إثارة التفكير الفلسفي عند الطفل ولكنها لا تهتم بمحتوى القصة وطريقة سردها”.

وأضاف ليبمان بأسلوبه “الليبماني” الساخر: “يُخفي بعض الكُتَّاب الفلسفة في النص ببراعة فيتطلب استنتاجها مجهودًا من القارئ، ويُظهر بعض الكُتَّاب الفلسفة بطريقة سهلة جدًّا من المستحيل تفويتها حتى إن أي طالب في الصفوف الأولية يعاني من صعوبات في القراءة سيلاحظها ببساطة”.

تبدو كتابة الروايات الفلسفية أمرًا بسيطًا أشبه بمعادلة سهلة الحل. فلكي نحصل على رواية فلسفية جيدة نحتاج إلى الكم الكافي من الفلسفة (غالبًا ما يعني ليبمان بكلمة الفلسفة التفكير الفلسفي لا تاريخ الفلسفة) والكم الكافي من السرد.

ومع ذلك فلم يكن ليبمان من الروائيين الرائعين في المجال الفلسفي، بل كان رائدًا بارعًا في صنع معادلة النص الفلسفي. لماذا؟ لأن ليبمان كان يمتلك رؤية واضحة وفريدة في فهم المعادلة التي تنتج النص الفلسفي الجيد، وذلك لأنه عرف المقدار المطلوب من “الفلسفة” و”السرد” لتشكيل الهيكل التنظيمي للنصوص الفلسفية. كما فهم ليبمان أن شكل السرد من السمات الأساسية للتفكير الفلسفي، لذلك فعندما يتعلق الأمر بإظهار التفكير الفلسفي فإن ليبمان يستحضر مشاهد متعددة، مثل: طلاب في صف دراسي أو عائلة تجلس على مائدة الطعام أو طفل يتفكر بمفرده، عوضًا عن تضمين التفكير الفلسفي في النص. حيث إن مجتمعات التساؤل المتخيلة تلك، هي نقاط انطلاق (أو منصات وثب) ونماذج لقراء النص.

في هذه الورقة العلمية، أود أن أستكشف فكرة اعتبار النص الفلسفي (نموذجًا) ولن أقتصر فقط على روايات ليبمان مثالًا على ذلك، لكني سأحلل وجهة نظر ليبمان عن كيفية عمل النص كنموذج. كيف فهم ليبمان للنص كنموذج؟ وهل جعله هذا الفهم قادرًاعلى التمرس في كتابة الروايات الفلسفية كما ذُكِرَ أعلاه؟  في رأيي، أُفضِّل أن أستهدف فكرة ليبمان في استخدام النص كأنموذج بدلًا من مناقشة فكرة ليبمان في استعمال النص الفلسفي نقطة انطلاق للتساؤل في منهج مجتمع التساؤل، وذلك لسببين رئيسيين: السبب الأول هو أن ليبمان يُطوِّر فكرة النص الفلسفي عن طريق مفهوم النص كنموذج، ويُعرِّف النص الفلسفي الجيد بأنه نص منطقي وإبداعي، أي أنه مزيج من الإيضاح والخطاب السردي. على الرغم من أن التقاء الأبعاد المنطقية والإبداعية للتفكير هو سمة شهيرة لنظرية ليبمان في التفكير الأعلى رتبة فأنا أعتقد أن هناك جانبًا غير معترف به في وجهة نظر ليبمان عن النص الفلسفي، وذلك الجانب هو محاولته التوفيق بين الإيضاح وأشكال السرد. في هذه الورقة العلمية، سأحلل بعض نصوص ليبمان التي يشير فيها إلى أن الشكل الإيضاحي والشكل السردي كليهما مطلوبان لتشكيل النص الفلسفي. لكنني في نهاية المطاف، لا أعتقد أنه توجد توليفة حقيقية لتصوُّر ليبمان عن الإيضاح والسرد وأنه سيميل دائمًا إلى السرد الذي يتميز به خطابه الفلسفي.

السبب الثاني لتركيزي على فكرة استخدام النص الفلسفي كنموذج، هو أنه مع هذا الفهم للنص، أرى اتصال ليبمان بتقليد فلسفي ضائع يعمل فيه النص كأداة تحويلية.  ظلَّ هذا التقليد منسيًّا لقرون عديدة ثم بدأ بالعودة تدريجيًّا منذ منتصف القرن الماضي عن طريق بعض الأعمال الهامة في تاريخ الأفكار وهو تقليد يفهم النص الفلسفي على أنه دعوة للتفكير كما وصفه ميشيل فوكو وبيير هادوت بأنه “تقنية للذات technology of the self” و”تمرين روحي”، أي أن القارئ يتماهى مع أسلوب التفكير الموجود في النص بحيث يتغير أسلوبه الخاص. ما سأقترحه هو أنَّ فهم ليبمان للنص كنموذج، يتماشى جيدًا مع هذا التقليد القديم.

في الجزء الأخير من هذه الورقة العلمية، سأربط بين وجهة نظر ليبمان للنص الفلسفي واللحظة “الديكارتية” في التاريخ الغربي للكتابات الفلسفية التي وصفها ميشيل فوكو بأنها لحظة اختبرت فيها الفلسفة الغربية نزاعًا عميقًا عرقل الكتابة الفلسفية إذ إنها لم تعد تهتم بتغيير تفكير القارئ أو كاتب النص، بل أصبحت تمثِّل صياغات إيضاحية وتتمحور حول تفصيل طريقة عرض المعرفة وتنظيمها. ولكن مثلما ربط ليبمان فهمه للنص الفلسفي بماضٍ ضائع، أرى أيضًا أن وجهة نظره تدعو لترميم النص الفلسفي بوصفه مشروعًا يخدم المستقبل. وفي هذا الصدد، يأمل ليبمان أن يوازن النص الفلسفي بين السرد والإيضاح مما يطرح تحديًّا كبيرًا للفلاسفة والمعلمين.

وجهة نظر ليبمان للنص كنموذج.

للتأكيد، يستخلص ليبمان فكرة النموذج في النص الفلسفي مباشرة من فهمه لمجتمع التساؤل، بل يمكننا القول أن من منظور ليبمان، طريقة تشكيل الصف ليكوِّن مجتمع تساؤل فلسفي (Cpi) هو شرط أساسي في انبثاق الفلسفة للأطفال (p4c) وقد حدد ليبمان عملية انبثاق مجتمع التساؤل الفلسفي بدءًا من أبسط صورة ممكنة إلى أهم عامل في تشكيل هذا المجتمع وأكَّد أن طريقة عرض النص هي إحدى الخطوات الأولى في هذه العملية. يظهر النص الفلسفي في روايات ليبمان بوصفه نموذجًا لمجتمع التساؤل الفلسفي فالأطفال في الروايات يجتمعون لتكوين مجتمعهم التساؤلي الخاص بهم، وفي الآن ذاته يحتوي النص الفلسفي على إشكالات تصلح أن تكون نقطة انطلاق للتساؤل الفلسفي.

يفهم ليبمان جيدًا أن إمكانية استخدام النص كنموذج ليست هي السبب في جعله ضروريًّا لمجتمع التساؤل وإنما يكمن المفتاح في كيف ولماذا يُستخدم هذا النص كنموذج. إن جميع النصوص تُعَدُّ نماذجَ محتملة لبعض أشكال التفكير والسلوك، رغم أن كُتَّاب هذه النصوص لم ينووا ذلك عند كتابتها. لنأخذ على سبيل المثال نوعين من النصوص هما: الشكل السردي والشكل الإيضاحي. يحتوي كلا النصين على احتمالية وجود نماذج للتفكير. وسنستكشف لاحقًا عن طريق المزيد من التفاصيل كيف يرى ليبمان الرواية الفلسفية تجميعًا فريدًا من نوعه.

 يقتضي الشكل الإيضاحي شرحًا ووصفًا واقعيًّا للعالم من حولنا، وهذا النموذج يُمثِّل المنطق عن طريق منهجيته المنظِّمة للقواعد والحقائق. وعلى الرغم من أن الشكل الإيضاحي قد يكون أُلِّف بلا نية في نمذجة هذا الأسلوب في التفكير، فإنه ما يزال يصلح أن يطَّلع عليه المهتمون بتعلم هذا الأسلوب. بمعنى آخر، يتضمن الشكل الإيضاحي نمطًا معينًا من التفكير بإمكاننا تصنيفه شكليًّا بـ”المنطقي”، ولهذا يحتمل أن يخدم بوصفه نموذجًا للمنطق الصوري.

وبالمثل فإن السرد ذا الخصائص الأدبية يتضمن هو أيضًا أسلوبًا ونموذجًا للتفكير قد نصنفه بـ”الإبداعي”. فعلى الرغم من أن عملًا أدبيًّا عظيمًا مثل رواية جورج إليوت  “Middlemarch” لم يكن يقصد به التأثير على طريقة تفكير قرائه بأي طريقة كانت، فإن أعمالًا من هذا النوع تتضمن أنماط تفكير تُعدُّ “صورية”. بمعنى آخر، عندما يقرأ المرء روايات من هذا النوع، قد يتمكن من الكتابة الأدبية وقد يتمكن أيضًا من سرد قصصه الخاصة. هناك ملاحظة غريبة فيما يخص هذا الأمر، فعندما نفكر في أحدث أساليب تدريس الأدب الإنجليزي نجده يُعلَّم عن طريق قراءة النصوص الأدبية ونقدها لإنتاج نصوص شارحة. وأيضاً في برامج الكتابة الإبداعية المتقدمة، لا يقرأ الطلاب عادةً النصوص الأدبية لتعلم كيفية الكتابة، بل يصقلون مهاراتهم الكتابية في بيئة ورش العمل. في كلتا الحالتين يفقد السرد إمكانية تمثيل نموذج صوري جيد للتفكير الإبداعي.

بالنسبة إلى ليبمان، تحتوي كل من النماذج الإيضاحية والسردية على صيغ للتفكير -بطريقة منطقية وإبداعية- وهما المكونان الأساسيان للتفكير الفلسفي الأعلى رتبة. وإذا أردنا استخدام نصوص للترويج للتفكير الفلسفي للأطفال، فإن النصوص المثالية هي تلك التي تحتوي على المزيج الصحيح من المنطق والإبداع. أي أنها يجب أن تكون نماذج جيدة للتفكير المنطقي والإبداعي. السؤال المطروح هو: أين نجد مثل هذه النصوص؟

إنها اللحظة المواتية (لحظة البحث عن النصوص الفلسفية الصحيحة للأطفال) التي تجعلنا نأخذ منهجية ليبمان بجدية ونعيد بناءها من جديد بوصفها نموذجًا يُحتذى به. هذا لأن موقف ليبمان القبلي يتمظهر في رواياته على أنها نقد عام للمنهج التقليدي. يؤمن ليبمان أن المناهج التعليمية قد فشلت في تعزيز التفكير الفلسفي لدى الأطفال وذلك لأن المنهج إما أن يركز على المنطق على حساب الإبداع وإما أن يركز على الإبداع على حساب المنطق. والحقيقة، طالما شكك المنهج التعليمي التقليدي في نجاعة السرد وقمع الإبداع وضيَّق المنطق واختزله إلى حد أنه أصبح مفرَّغًا تمامًا من أي حس إبداعي. لذلك فإن ما ينقص النصوص الفلسفية هو منهج مقصده تشكيل تفكير فلسفي لدى الأطفال يتضمن المنطق والإبداع معًا، ويقدم الأشكال الإيضاحية والسردية بانسجام. ما نحتاجه حقًّا هو روايات ليبمان الفلسفية.

يقول ليبمان: في مجتمعنا المعاصر تُعطى المدارس أولوية عظيمة وتأتي قبل كل شيء كونها مكانًا تُكتسب منه المعرفة، لذا فإننا مستمرون في إنشاء نصوص نعتقد أنها تكشف وقائعَ حقيقية للطلاب. هذا الشكل الإيضاحي هو الرائج في جميع مراحل المنهج التعليمي، بدءًا من تقديم صوت ضمير المتكلم في النص للطفل كأنه صوت ينبع من الداخل، صوت ملمٌّ بما حوله، يعرف كل شيء، مطلق المنطقية، محايد، متحكم، صوت مشرِّع.

تعتمد ثقافتنا بنسبة كبيرة على الشكل الإيضاحي في التعليم، لذلك يبهجنا أن نقنع أنفسنا أن هذا موقف إبستمولوجي، أليس الهدف الرئيسي من التعليم هو أن تُحَصِّل المعرفة عن العالم على أي حال؟ إذن فالطريقة المضمونة للوصول إلى هذا الهدف هي التعلم عن طريق الإيضاح.

ولكن ليبمان يُورِد بطريقة مثيرة للاهتمام عللًا أخلاقية لتفضيلنا الشكل الإيضاحي. إننا نثق في إمكانية النموذج الصوري للإيضاح -وذلك لا يتوفر في السرد- لأن هذا الشكل أثبت فعاليته في الحفاظ على القيم والعادات الاجتماعية المتعارف عليها. كتب ليبمان -إلى الشخص الأرِق المتزمت بداخلنا: “إن ما يقدمه لنا الأدب هو أكثر من مجرد توفير عوالم أخرى لنتعمق فيها، بل يقترح علينا طرقًا أخرى للعيش والتفكير في العالم الذي نعيش فيه -طرقًا قد تخالف الذوق العام والاستقامة على العرف”.

 بناء على ذلك، كما هو مستخدم في المنهج التقليدي، فإن الشكل الإيضاحي يتميز بالقدرة على توضيح العالم من حولنا كما هو، أما الشكل السردي، كما ذكر ليبمان، فيقدم لنا طرقًا بديلة للعيش في العالم. لذا فإن السرد يظهر النقد والتساؤل. بهذا المعنى، يُعَدُّ السرد مثيرًا جيدًا للتساؤل. إن الشكل في السرد هو الذي يدعم استجواب العالم واختباره واختبار حيواتنا

داخله، بخلاف التأويلات المنظمة في الشكل الإيضاحي والمشيدة لتعزيز النمط السائد والترويج له.

هذا التوتر بين الشكل الإيضاحي والشكل السردي يصاحبه توتر بين المنطقية التي تظهر اهتمامًا بعرض الحقائق عن العالم بطريقة منظَّمة والإبداعية التي تظهر اهتمامًا بمساءلة العالم من حولنا واستكشاف البدائل. ولكن ليبمان يأشكل محاولة تبسيط التمييز بينهما. في المنهج التقليدي، يقول ليبمان: “لا يمكن تصوُّر قصة تخدم كما لو كانت نصًّا إيضاحيًّا”. والسبب هو أننا عادةً نعرِّف التفكير إما بوصفه طريقة للاشتغال المنطقي في صيغة نصية “تسعى لتطويق نفسها بالمونولوج”، وإما بوصفه طريقة للاشتغال الإبداعي “يستعرض نفسه بالدايالوج” (الحوار).  ولكن ليبمان يعترض بأن مستويات التفكير الأعلى رتبة “تقتضي تنقلًا مستمرًا بين الصيغتين، حوارًا مستمراً بين المنطق والإبداع”. ويؤكد قدرة النص على تجاوز هذا الانشطار، لأن كل حركة فكرية يمكن رؤيتها بوصفها مساهمة تعاونية ومكملة لأخرى. المونولوج والدايلوج والمنطق والإبداع كل ذلك هو نسيج ولحمة بُنى التفكير.

لتحقيق التفكير الأعلى رتبة يصرِّح ليبمان: “نحن بحاجة إلى نصوص تحتوي وتنمذج كلًّا من المنطق والإبداع”.

يبدو أن ليبمان يسعى لتجاوز هذا التوتر بين الإيضاح والسرد، وبين المنطقية والإبداعية -انشطارات عزَّزها المنهج التقليدي-   بالإشارة إلى شكل ثالث للنص، شكل يحتوي على مزيج من شطري التوتر. بناءً على هذه القراءات، يمكننا أن نَعُدَّ الرواية الفلسفية لليبمان شكلًا افتراضيًّا نبع من نقيضه السابق أو بتجاوزه. ولكنني لا أعتقد أن هذا ما فكر به ليبمان في فهمه للرواية الفلسفية. أؤمن -كما ذكرتُ سابقًا-أن ليبمان يدرك أن النص الفلسفي خليط من المنطق والإبداع، ومن الإيضاح والسرد، ولكن إلى أي مدى سيختفي هذان النوعان ويمهدان الطريق لنوع جديد تمامًا؟ بالأحرى، مثل ثلاثي الروح في “جمهورية أفلاطون”، حيث المنطقي والروحاني والحسي كلها عناصر حاضرة وتتكون بين كل منها علاقات خاصة من أجل الوصول إلى: الفضيلة والعدالة – المنطق والإبداع – الإيضاح والسرد، عندما تتحد هذه العناصر تبدأ نشأة النص الفلسفي. ومثل ما ذُكِر في قصة أفلاطون عن ثلاثي الروح، حيث يقف أحد العناصر (المنطقي) الذي يُعَدُّ من العناصر المميزة، كذلك يقترح ليبمان عنصرًا واحدًا يميز الرواية الفلسفية حتى تحظى بمكانة عالية. في رأيي، هذا العنصر المميز هو عنصر الإبداع أو عنصر السرد للنص. لماذا؟

دعونا نلقي نظرة من كثب على أحد المقاطع التي استشهدت بها من ليبمان. يقول -من أجل نشأة التفكير الأعلى رتبة: “نحتاج نصوصًا تتضمن وتنمذج كلًا من المنطق والإبداع”. سبب احتياجنا لمثل هذه النصوص هو أن التفكير الأعلى رتبة في حد ذاته “يتضمن تنقلات مستمرة إلى الأمام والخلف وحوارًا مستمرًا بين المنطق والإبداع”.

لقد ميزتُ عبارة “حوار مستمر”(a constant dialogue) ، لأنه كما رأينا أن الحوار يُظهر الثنائي الإبداعي والسردي، عكس المونولوج ( monologue الذي يُظهر الثنائي المنطقي والإيضاحي. إذن فحتى تتطور مهارات التفكير الأعلى رتبة، فإنه يجب أن تنشأ علاقة حوارية بين الجانبين المنطقي والإبداعي. يعتبر هذا النوع من العلاقة الحوارية شكلاً يمثل الجانبين الإبداعي والسردي. وهكذا فالنص الفلسفي هو النص الذي يجمع بين المنطق والإبداع، وبين الإيضاح والسرد، ويحولهم إلى حوار بصورة إبداعية وسردية.

بهذا المعنى، أعتقد أن ديفيد كينيدي (أحد نقَّاد ليبمان) مصيبٌ في وصفه لتعليم التفكير الفلسفي للأطفال على أنه عملية بناء شاملة للفلسفة، أي أن السرد عند ليبمان قد حل محل الإيضاح في فهمنا للسياق الفلسفي، وهو كذلك مصيبٌ في قوله إن مجتمع التساؤل الفلسفي يجسد سياقًا سرديًّا تحضر فيه الحقيقة بوصفها أفضل قصة محظية من بين استطراد تتعدد فيه القصص دائمًا. لو كان بوسعي تعديل وجهة نظر كينيدي، لكنت سأقترح أنه بدلًا من تصوُّر أن ليبمان قد استبدل السرد بالإيضاح، أرى أن السرد قد استعاد امتيازه ومكانته في العلاقة مع الإيضاح. وهو ما سيساعد في زيادة التركيز على موقع تعليم التفكير الفلسفي ((P4Cفي تاريخ الفلسفة، إذ إن تعليم التفكير الفلسفي ((P4C أعاد تصور السرد على أنه شكل له امتياز في الخطاب الفلسفي.

في الجزء الختامي لهذه الورقة العلمية، سأربط بين استدعاء ليبمان للنص الفلسفي عن طريق تلك اللحظة التاريخية التي أثر فيها النص السردي على النصوص الفلسفية. وسأتطرق إلى توقعات ليبمان لمستقبل النص الفلسفي. ولكن قبل ذلك، أود مناقشة البعدين السردي والإبداعي للنص الفلسفي والتركيز على نمذجة النص الفلسفي. إذن، كيف يصبح النص الفلسفي نموذجًا كما يراه ليبمان؟ وما تعريف النص الفلسفي عند قرائه؟ لقد بدأنا بتجميع بعض الأجوبة عن السؤال السابق. أولًا: يفترض أن يكون النص نموذجًا للتفكير المنطقي والإبداعي، وهذا يعني أنه أيضًا ينمذج التفكير الفلسفي والتفكير الأعلى رتبة. ثانيًا: يهدف النص الفلسفي إلى خلق مجتمع تساؤل فلسفي (cpi). ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: كيف للنص الفلسفي أن يفعل هذا؟ كذلك يجب تحديد أمثلة من نماذج لنصوص فلسفية. بمعنى آخر، ما المحتوى الفلسفي الذي يراه ليبمان في نصوصه ونصوص الآخرين؟

في هذه المرحلة قد يكون مفيدًا أن نوضح معنى مصطلح “النموذج” الذي يستعمله ليبمان. فأحيانًا يستعمله بصيغة الاسم، وعندما يفعل ذلك فإنه يشير إلى النص الفلسفي كنموذج من حيث إنه وصف تخطيطي مصغر لظاهرة أكبر ذات تنظيم منطقي معقد، وهذه “الحالة الاسمية” لمصطلح “نموذج” تشير إلى “ماهية” النص الفلسفي.

بينما في أحيان أخرى يستعمل ليبمان مصطلح “نموذج” بصيغة الفعل وفي هذه الحالة فإنه يعني عمل النموذج على مساعدة قرائه في تشكيل أنماط سلوكهم وتفكيرهم. هذه “الحالة الفعلية” لمصطلح “نموذج” تشير إلى “كيفية” النص الفلسفي وإلى أساليبه الأدائية الخاصة.

لأمثلة أكثر تحديدًا، أعتقد أن ليبمان يرى النص الفلسفي بوصفه نموذجًا لظاهرتين. الظاهرة الأولى: هي ما قد نعتبره مغايرًا لـ”مفاهيم التفكير” concepts’ of thinking)) وهو “مخططات التفكير” (schemata’ of thinking) . و”المخطط” هو تنظيم مرتب ومنطقي للحقائق عن العالم، بخلاف “المفهوم” الذي يميل للجمود والحشد الهائل للمعلومات، المخطط نموذج ينمو طبيعياً وديناميكي التنظيم. لتوضيح الفرق بين المفهوم والمخطط، لنأخذ على سبيل المثال المؤرخ عندما يريد أن يسلط الضوء على حياة شخصية مهمة. النموذج المفاهيمي في هذا المثال سيكون بأن يستعرض المؤرخ الأحداث عن طريق ترتيبها التعاقبي زمنيًّا -كالتحدث عن إنجازات الشخص كل عقد من الزمن- إنجازات عام 1970- 1980-1990… إلخ وهذا مفيد بالطبع. أما التنظيم التخطيطي فسيكون باستعراض الأحداث عن طريق حكاية قصة، وستساعد هذه الطريقة المؤرخ على التقاط توجهات ومسارات هذا الشخص في حياته.  

كما يذكر ليبمان: “في القصص، بوصفها أفضل مثال للمخططات، جميع التفاصيل مهمة وتُقدِّم شيئًا مفيدًا للصورة الكلية”. وبذلك، فإن مخططات التفكير تخدم في ترتيب وتنظيم النص الفلسفي، ففي نصوص ليبمان الفلسفية السردية نراه يلجأ إلى استعمال نسق المخططات لترتيب ومَرحلةْ القصص وحشد التفكير في أي مجتمع تساؤل، كما أن مخططات التفكير تساعد على التفكر والتساؤل في المجتمع الفلسفي. مثال على ذلك: قصة “Pixie” مخطط لها أن تتمحور حول العلاقات، وقصة “Harry’s Stottlemeier’s Discovery”   تتمحور حول القوانين الرسمية وغير الرسمية، وLisa”” تتمحور حول الأخلاقيات. مرة أخرى، النصوص ليست منظمة باستعمال أنساق مفاهيمية واضحة من السهل على القارئ قراءتها والتعرف على ما تتمحور عليه بسهولة، بل إن النصوص منظمة بطريقة مخطط لها لتساعدنا على الاستنتاج والتعبير والتفكير والتساؤل حتى نصل إلى التفكير الفلسفي. هذا يعني أن مخططات ليبمان في كتابته للنصوص تشكِّل جانبًا واحدًا من ماهية النص الفلسفي. أي أنها الشيء الذي يمكن أن يُنظَّم النص بواسطته بالإضافة إلى المحتوى الذي سيُتعلم منه. كنموذج لمخططات التفكير، يلعب النص الفلسفي لليبمان دور النص الإيضاحي أي أنه يوضح ويعلل ظواهر معينة، ولكنه يفعل ذلك بطريقة سردية حتى تحتفظ تلك الظواهر بديناميكيتها الدافعة وتوجهها الفكري.

الجانب الرئيسي الثاني لماهية روايات ليبمان الفلسفية يكمن في تاريخ الفلسفة نفسها. ولكن، كما ذُكِرَ أعلاه، فإن تاريخ الفلسفة في نصوص ليبمان يعامل على نحو تخطيطي وليس على نحو مفاهيمي، أي أنه لا يستعرض التحقيب الزمني للفلسفة: (الفلسفة العريقة – الفلسفة المعاصرة – ما بعد الفلسفة المعاصرة)، ولا يستعرض تسلسل مخططات المدارس الفلسفية: (المثالية المطلقة – العقلانية – التجريبية)، ولا يستعرض توجهات أهم الفلاسفة: (أفلاطون – ديكارت – كانط). بل إن نصوص ليبمان الفلسفية هي خير مثال على أخذ المفاهيم الأساسية من تاريخ الفلسفة وإعادة صياغتها إلى لغة مبسطة. اللغة المبسطة توثق أهم اللحظات التاريخية بطريقة واضحة وممتعة في نصوصه الفلسفية. مثال على ذلك: “Elfie” يتضمن إحدى تأملات ديكارت:

“استيقظت ليلة البارحة في منتصف الليل، وهمست إلى نفسي:

“Elfie هل أنتِ حقًّا نائمة؟” ثم لمست عينيَّ وكانتا مفتوحتين، فقلت: “لا لست نائمة.” ولكني قد أكون مخطئة. ربما ينام المرء وعيناه مفتوحتان. ثم قلت لنفسي: “في هذه اللحظة، هل أفكر؟” إنني أتساءل حقًّا. ثم جاوبت نفسي: “إذا كنت تتساءلين، فأنتِ حقًّا تفكرين!”. وإذا كنت أفكر، إذًا أنا بالفعل حقيقية رغم ما يزعمه Seth.”

في المقطع السابق، أُعيد بناء تاريخ الفلسفة، ولكن ليس عن طريق مقاربة دقيقة لخطاب ديكارت الفعلي واستعراض ديكارت (الحقيقي)، بل إن التفكير والتساؤل على نمط ديكارت كانا حاضرين بلغة بسيطة. بهذه الطريقة نُميِّز تاريخ الفلسفة كأسلوب خطابي وأسلوب تفكيري.  وكما يذكر ليبمان: “النص الفلسفي الموجه للأطفال ينبغي أن يمثل نمط التفكير الذي ضبط حقبة تاريخية فلسفيًّا”.

وكما رأينا، فإن النصوص التي تمثل التفكير الفلسفي تستعمل الشكل السردي، بينما النص الذي يمثل خطابًا فلسفيًّا يعمل حصريًّا في المجال الإيضاحي.  على الرغم من ذلك فإن التاريخ الفلسفي كونه محتوى لتعليم الفلسفة حاضر في نصوص ليبمان الروائية. بهذه الطريقة يمكننا رؤية مدى فعالية العناصر الإيضاحية -التي نُظمت بتخطيط منطقي عبر إعادة بناء أنماط التفكير الفلسفي تاريخيًّا- إذا صيغت بالشكل السردي.

العودة إلى المستقبل: اللحظة الديكارتية والسرد الفلسفي.

في الجزء السابق من الورقة العلمية، رأينا كيف استخدم ليبمان تأملات ديكارت الفلسفية في روايته Elfie   وكيف أن هذه الرواية تُعدُّ مثالًا لأسلوب ليبمان في إعادة بناء تاريخ الفلسفة بوصفه نمط تفكير ضمن الشكل السردي للنصوص الفلسفية؟

الآن أود أن أنتقل إلى قراءة فريدة من نوعها لكتاب تأملات ديكارت قدمها ميشيل فوكو من أجل وضع النص الفلسفي في روايات ليبمان في منظور تاريخي أكبر. سأحاول أن أُبيِّن نظرة ليبمان للنص الفلسفي – بوصفه نصًّا يجسد كلًا من: الجانب المنطقي والإبداعي، والجانب الإيضاحي والسردي من أجل تغيير طرق تفكير القارئ. هذه النظرة تقارب قراءة فوكو لنص “التأملات” الديكارتي والتي أَوَّل فيها فوكو نص ديكارت بأنه تجسيد لكل من “البرهنة” (demonstrative) و”التقشف”(ascetic)  .  لم يكتفِ فوكو بمجرد تقديم اجتهادات تأويلية حول التأملات، بل ذكر أنها لحظات تمزق في تاريخ الفلسفة. سأختم باقتراح نظرة ليبمان للنص الفلسفي بوصفه نموذجًا “للعودة إلى المستقبل”  (back to the future) لأضع القارئ مرة أخرى عند مفترق الإيضاح والسرد.  لإثبات ذلك، سيكون مفيدًا أن نتفكر في مقالة My Body, This Paper, This Fire”” والتي يُقدِّم فيها فوكو تفسيرًا لتأملات ديكارت عن طريق الرد على نقد جاك دريدا لقراءاته السابقة لديكارت في “History of Madness”. نبذة مبسطة عن محاضرات فوكو عام 1982 -بعد 10 سنوات من نشر المقال الأصلي عن ديكارت- سنسلط الضوء على الأهمية التاريخية المذكورة أعلاه لتأملات ديكارت.

وجزء من الرد على دريدا هو أن النقطة الأساسية التي ستكون محور النقاش ستشمل حجة فوكو التي تنص على أن التأملات تنقسم على صورتين من النص. كتب فوكو: “نص ديكارت يتكون من مجموعة من الافتراضات التي تشكل نظامًا يجب أن يمر على كل قارئ حتى يتمكن من معرفة الحقيقة. بهذه الطريقة قد نعتبر التأملات نصًّا “برهانيًّا”، أي نصًّا يمكن قراءته كسلسة أحداث مرتبط بعضها ببعض وفقًا لعدد معين من القواعد والقوانين. في النص البرهاني، يكون التنظيم المنطقي محكومًا بـ”القواعد الرسمية” كما يقول فوكو وموضوع النص “محايدًا”.  يمثل النص البرهاني صوت المؤلف، ويضع القارئ في وضعية الاستسلام، وكلا الأمرين متضمنين في صيغ البرهان في النص.  النص البرهاني في نظر فوكو يشابه النص الإيضاحي في تصنيف ليبمان أي أن كليهما لا يعبران عما ينبع من الداخل، بل يمثلان ما يظهر في الخارج.

والبرهنة والإيضاح كما يصف ليبمان هي صيغ تعبر عن “فيما يتعلق، أو هذا، أو بالمجمل” ويعبر عنها بشكل غير شخصي كـ”أحدهم، أو هم، أو الجميع”. الكتابة والقراءة في النصوص الفلسفية لا تُعنى بالموضوع بنفس درجة اهتمامها بالبراهين والحقائق التي يمثلها الموضوع.  ولكن، يقول فوكو إنه: ” بإمكاننا تفسير تأملات ديكارت أيضًا على أنها “مجموعة من التكيفات البرهانية التي تشكِّل تمرينًا يجربه كل قارئ ويؤثر فيه إذا أراد أن يعبر عن هذه الحقائق ويمثلها بذاته”.  فالتأملات هي نص متقشف إذ إنها توحي بذات قارئة “نموذجية وقابلة للتحول بالتأثير الخطابي للأحداث في النص”.

 هذه القراءة للتأملات الديكارتية بوصفها نصًّا متقشفًا يُغيِّر القارئ لكونه نصًا يشكِّل نمطًا من التمارين أو التساؤلات، يشبه فهم ليبمان للشكل السردي الذي ينمذج للقارئ نمط التفكير الفلسفي المتضمن فيه. ولكن بالإضافة إلى التفكير في تينك الصورتين المختلفتين للنص الديكارتي: البرهانية والمتقشفة، يذكر فوكو أن تأملات ديكارت تتطلب من الشخص أن يعيد قراءتها مرارًا وتكرارًا “لأننا بوصفنا قراءً يتحتم علينا أن نقف حيث يتقاطع شكلا النص، وفي مثال تأملات ديكارت، يُغيِّر التمرين من الذات القارئة ويلزمها بتوالي الافتراضات من أجل السيطرة على تباعد التقاطعات بين البراهين المختلفة”.

يستعير ليبمان وصف جريجوري وماري باتسون حيث يسميان موضعة القارئ في نقطة التقاء البرهنة والتقشف بالقدرة الما فوق منطقية للنص، وهي سعة النص لموضعة القارئ بشكل يجعل الحدث السردي يجسد المحتوى في النص. يعلل ليبمان: في الرواية الحوارية المثالية، في مناقشة فلسفية، على سبيل المثال، ستجسد الخيانة شخصيات تظهر سلوكًا سيئًا، مثل هذا التجسيد سيؤثر كثيرًا في المتعلم مما سيؤثر في تحليله للنص، لأنه يحقق توازنًا معرفيًّا عاطفيًّا مثاليًّا. نموذج النص الفلسفي سواء كان في تأملات ديكارت أو ذلك الذي اُستخدم في رواية ليبمانElfie  المبنية على تأملات ديكارت، كلاهما يمارسان السعة الما فوق منطقية عبر الإيضاح والبرهنة كنماذج من التفكير (متجذرة في تاريخ الفلسفة) لكن في شكل سردي واستعراض متقشف يجعل الذات القارئة قابلة للتغير والتبديل والنمذجة لذات النمط من التفكير المتمثل في السرد ليصبح هذا النمط جزءًا من الذات القارئة.

إن السبب الذي جعل فوكو يرى أن ديكارت شخصية مهمة في تاريخ الفلسفة لم يكن إحداث ديكارت لثورة في الفلسفة المعاصرة لإنشائه شكلًا جديدًا من الخطاب يجعل موضوعات الكتابة والقراءة ما عادت تُفعِّل الشكل السردي المتقشف على حساب الشكل الحصري للنص البرهاني الإيضاحي. بل على الأصح، يرى فوكو أنه عن طريق ديكارت، أو تحديدًا في هذه اللحظة الديكارتية المحددة بـ”التأملات”، لم يعد يُطلب منا بوصفنا قراء للنص الفلسفي أن نتغير أو نعدل من ذواتنا كجزء من التمرين الذي تحققه القراءة الفلسفية. يذكر فوكو في محاضرته عام 1982 أن بإمكان القارئ التعرض ببساطة للحقيقة التي يستعرضها النص “دون أي جهد يطلب منه أو أن يتغير وجوديًّا بوصفه ذاتًا قارئة”. هذا لا يعني أن القراء لم يعودوا معرضين لأي حالات تسمح لهم أن يتعرفوا على الحقيقة في النص أو الشروط الذاتية للمعرفة أو الشروط الثقافية لكون القارئ متعلمًا…  إلخ. بل إن القارئ لن يكون طرفًا مشاركًا بوصفه ذاتًا متفاعلة في تمرين التفكير الفلسفي الذي ينمذجه النص المقروء.

    النص الفلسفي بصفته تقنية لتمرين التفكير الفلسفي، وبصفته أداة بذاته نستخدمها للتفكير فلسفيًّا، عوضًا عن التعرض فقط للتفكير الفلسفي – ذاك هو الإرث الحقيقي لمشروع روايات ليبمان.  وبعودته للوراء، لتلك اللحظة الديكارتية، اللحظة التي بدأ فيها الخطاب الفلسفي والمنهج التقليدي مسيرتهما في اتجاه الإيضاح والبرهنة، فقد أوصلنا ليبمان أيضًا للحظة فارقة، لحظة مستقبل النص الفلسفي ومستقبل المنهج.

يكتب ليبمان:

“نص المستقبل ينبغي أن يكون شكلًا جديدًا لهجين (ليس جديدًا بالكلية إذا وضعنا في الاعتبار حوارات أفلاطون)، وينبغي أن يكون عملًا فنيًّا بمهمة محددة: أن يصلح للاستهلاك في توفير خبرة تمكِّن القارئ من التفكر، وأن يكون أداة توفر مسارات تعبر بالقارئ نحو المعقولية والحكمة اللتان هما من سمات الفرد المتعلم”.

مهما تقدمت الأزمنة ستبقى روايات ليبمان نصوصًا مخلدة للمستقبل. وستحيا سيرة المؤلف في نصوصه عند رحيله، إذ إنه لم يقدم لنا أعمالًا كاملة، بل ترك لنا مهامًا يجب علينا إتمامها. تلك المهام ستكون الاستمرار في كتابة نصوص فلسفية للمستقبل، نصوص تكون نماذج للتفكير الفلسفي، وأساسًا لحياة يزدهر فيها مجتمع التساؤل.

 

حمل مقالة :ماذا يحدث في النصوص الفلسفية