مجتمع التساؤل وأخلاقيات المسؤولية

روبيرتو فرانزيني تبالديو

جامعة تورينو، إيطاليا

This article first appeared as Tibaldeo, Roberto Franzini: Community of Enquiry and Ethics of Responsibility. Philosophical Practice: Journal of the APPA, Volume 4, Number 1, March 2009: 407-418. Translated into Arabic and re-published with permission of the American Philosophical Practitioners Association. https://appa.edu

تُرجمت المقالة بعد الحصول على الإذن الخطي من المؤلف.

ترجمة: نوار فخري عزي

تدقيق: سارة العطية

تحرير : منى عبدالله

مراجعة : علوي السقاف

“جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن المؤلف وليست مسؤولية معهد بصيرة أو دار بصيرة للنشر أو أي جهات أخرى متصلة بها من الجهات والهيئات الثقافية التنظيمية أو المانحة وغيرها”.

الملخص

 

يفترض المقال أن نموذج ليبمان (Lipman) للفلسفة للأطفال (P4C) بصفتها مجتمع التساؤل (CI)- قادر على توسيع نطاق الممارسات الفلسفية وفوائد تفكُّر المجتمع الفلسفي لتشمل حياة الجماعة، ويدرس المقال على وجه الخصوص المساهمة الممكنة للفلسفة في الجوانب العملية والأخلاقية لما يُتداول في الأوساط العامة في الوقت الحاضر. مفهوم ليبمان لمجتمع التساؤل يساعدنا في تفسير سياقات مشابهة، ولذلك يبرزُ في المقال فهم مجتمع التساؤل في مجال أخلاقيات المسؤولية.

الكلمات المفتاحية

مجتمع – مسؤولية – الفلسفة للأطفال – تساؤل فلسفي – تعليم الديمقراطية – أخلاقيات عامة – المداولات.

المقدمة

 

نفترض في هذا المقال أن نموذج الفلسفة للأطفال لماثيو ليبمان (Matthew Lipman) ما زال ذا صلة بعصرنا الحاضر على الرغم من أنه نشأ في السبعينات من القرن العشرين. يتجاوز نموذج ليبمان مجال الطفولة، واليوم هناك جوانب إشكالية في الحياة الديمقراطية لم تُحَل بعد وتحتاج إلى مناقشة ومراجعة دوريتين، كالتالي: تدريس مفهوم الحريات المدنية، والمشاركة المسؤولة والحوار التعددي، وتحقيق حياة مدنية جامعة تستند إلى قواعد وإجراءات وحوار متعقل مشترك. ومع العولمة وما نتج عنها على الصعيد السياسي والاجتماعي/الثقافي- زادت الحياة (تعقيدًا) (Carletto-Franzini Tibaldeo, 2004).

قد تساهم الفلسفة في إرشادنا إلى كيفية تعاملنا مع مشكلات هذا العالم (المعقد). وأحاول هنا توضيح وجهة نظر ليبمان في مجتمع التساؤل لبيان أهمية هذا المفهوم وأثره في الأخلاقيات العامة (أخلاقيات المسؤولية تحديدًا). أعتقد أن بيان هذا يساعد في توضيح أهمية دور الحوار الفلسفي

والعلاقات المتكوِّنة في مجتمع التساؤل في تهذيب أخلاقيات الفرد والجماعة فيما يتعلق بالمسؤولية.[i]

مجتمع التساؤل  (CI)عند ليبمان

 

يبدأ بحث ليبمان الفلسفي والتربوي بالمقولة التالية: «تكمن خيبة الأمل الكبرى في التعليم التقليدي في إخفاقه في تنشئة أشخاص يقاربون النموذج المثالي للمعقولية» (Lipman, 1988, it. tr. p. 17)، ولا يعني هذا أن النموذج المثالي للمعقولية غير واقعي أو خارج نطاق التعليم، ولا يعني ليبمان التشكيك في مبدأ المعقولية، إنما يعني أن ما هو واضح وإشكالي هو أن التعليم التقليدي ليس له فاعلية في نشر الفضائل المدنية وترسيخها بين المواطنين (Lipman, 2003).

يهدف ليبمان إلى تجاوز الفكرة الحالية للنظام التعليمي مبتدئًا بالمقدمات النظرية المقاربة للبراغماتية وللبنائية، ومستفيدًا من الأفكار التأويلية القارِّية المعاصرة (contemporary continental hermeneutics) وإبستمولوجيا التعقيد (epistemology of complexity) (Lipman, 2003; Cosentino, 2002b; Cosentino, 2005b)[ii] للبحث عن فلسفة ونموذج تربوي جديد لفهم التكوين العام لتصرفات الفرد وسمات المواطن.[iii]

لا يمكن بأي حال من الأحوال الفصل بين التعليم والديمقراطية. ولديوي (Dewey) الذي كرس مقالات عديدة مهمة لهذا الموضوع- الفضل، فقد أثَّر في ليبمان (Dewey, 1916; Cives, 2004). يعتقد ليبمان -كديوي- أن المساق الديمقراطي هو المقدمة التي لا غنى عنها والهدف المنشود في آن واحد، وأن الديمقراطية هي الهدف الذي لا يمكن تحقيقه كما ينبغي لنظام تعليمي متجدد، حيث يهدف هذا النظام التعليمي المتجدد إلى تعزيز التفكير الانعكاسي المستقل الناقد وانتشاره، كما يهدف إلى تعزيز الحوار وتصحيح الذات والتساؤل حتى يميت «العوامل التي تؤدي إلى العنف والجهل والظلم»[iv](Striano-Oliverio, 2007, p. 264). الديمقراطية بتعريف ليبمان هي المساحة والبيئة السياسية التي تحدث فيها العلاقات الإنسانية ويمكن أن تتضمن العلاقات التعليمية أيضًا. وفي السياق الديمقراطي يتحقق جانبان مهمان: الأول: كفاءة البحث الذي يتميَّز باللامعصومية من الخطأ والقابلية للنقد الذاتي. والثاني: إقرار المواطنين بقيمة الإجراءات واحترامها.

يذكر ليبمان مبدئين تنظيميين في تعريف النموذج التربوي السياسي الجديد. المبدأ الأول: الديمقراطية التي يتعيَّن عليها توجيه نمو البنية الاجتماعية. والمبدأ الثاني: المعقولية التي يتعين عليها توجيه نمو البنية الفردية لكل طفل (أي مواطني المستقبل) (Sharp, 2005, p. 33; Lipman-Sharp, 1978; Lipman, 2003, pp. 23 ff.).

لا يكتمل هذا النسق دون الدلالة على مهمة الفلسفة في هذا الشأن. يقتبس ليبمان مرة أخرى من ديوي في قوله: «لا يمكن لمجتمعنا أن يكون متحضرًا بالكامل ولا يمكن أن تكون مدارسنا مرضية تمامًا […] حتى يعتنق الطلاب التساؤل، فيستعدوا للمشاركة في مجتمع ملتزم أيضًا بالتساؤل كأنه الطريقة السيادية للتعامل مع مشكلاته» (Lipman, 2003, p. 34).

يستخدم ديوي مفردة (التساؤل) بمعنى التساؤل العلمي(Dewey, 1933; Dewey, 1938; Peirce, 1935-58; Lipman, 2003, p. 20; Cosentino, 2005c, p. 75; Striano, 2002, pp. 139 ff.). ولكن ليبمان يتوسع في فكرة (التساؤل الفلسفي) بالإشارة إلى أن تصورًا ما عن الفلسفة يُعَدُّ ممارسة فلسفية،[v] وبهذه الطريقة يُعَرِّف ليبمان التساؤل بأنه: «الدأب على التساؤل لتصحيح الذات عند الأسئلة الإشكالية وذات الصلة»

(Lipman, 1988, p. 19).جدير بالذكر أن مثل هذه الممارسة الفلسفية تحدث فقط في مجتمع مع أشخاص لديهم نفس الرغبة في المشاركة في التساؤل الفلسفي.

لذلك فإن مجتمع التساؤل يبدأ بهذه الرغبة الجامعة. إن المشاركين يجب عليهم أيضًا الالتزام بهدف معين وهو إرادة إجراء تساؤل فلسفي، أي «الالتزام بالمعقولية وهي عقلانية يحكمها حسن التقدير» (Lipman, 2003, p. 111)، والإقرار المتبادل بهذه الالتزامات، والحاجة إلى مشاركة الجماعة. إن جوهر ووسيلة التعبير عن هذا التساؤل عند ليبمان هو الحوار الفلسفي الذي يختلف عن المحادثة والمناظرة والتواصل البحت (Lipman, 2003 pp. 87-93)[vi]. الحوار الفلسفي يتسم بالحجاجية، ولكنه في نفس الوقت لا يقتصر على الحجاج.[vii] إن ما يحدث في مجتمع التساؤل هو ما يؤثر في المشاركين، وهذا أمر معقد يصعب وصفه. جمع ليبمان صفات مجتمع التساؤل في قوله:

إن لدى كل مجتمع تساؤل وعيًا محددًا    [1](Prägnanz) يوجِّهه، فكل مشارك

في مجتمع التساؤل يشترك في ذلك الحضور النوعي الذي وصفه ديوي بالتعليم العالي، وهي سمة يُعَدُّ امتلاكها أسهل من وصفها، وما لم تكن موجودة أو مصرَّحًا بها، فإن المشارك يفقد أي معيار للملاءمة (Lipman, 2003, p. 86).

ليس كل مجتمع مجتمع تساؤل، وليس كل تواصل حوارًا فلسفيًّا ولا تساؤلًا، لأن مجتمع التساؤل يجب أن ينطوي على التزامات ومعايير وإجراءات ومسؤوليات مُقَرَّة ومشتركة.

هذا ما يُعَرِّف مجتمع التساؤل. ولكن ما الأثر الخاص لمجتمع التساؤل في أعضائه؟ ما اختلافه النوعي؟ إلى أي مدى من الممكن -بافتراض أن السؤال منطقي- التحدث عن (منفعة) مجتمع التساؤل للسياق الديمقراطي الذي يعمل ويساهم فيه؟

يُعنى السؤال الأخير على وجه التحديد بمفهوم الفلسفة على نطاق أوسع. يميل ليبمان إلى عَدِّ الفلسفة (تفلسفًا)، أي طريقة معينة للتفاعل مع العالم عمليًّا، فالفلسفة ملزمة بالتساؤل عن المفهوم والمعنى، وهذا هو الأفق الذي يحدده تصوُّر ليبمان المؤيد للمعقولية ويعتمد تطويره على نوعية التفلسف الذي يعضده. تُظهِر هذه الجوانب أهمية الفلسفة للتعليم وللمجتمع الديمقراطي بأكمله.[viii]

لتحديد تأثير المشاركة في مجتمع التساؤل على الفرد يوضح ليبمان بعض المواصفات الرئيسية التي تدل على الشخص والمواطن العقلاني الحق، تتضمن هذه المواصفات ما يلي: الاستقلالية – التفكُّر – التفكُّر الذاتي – التصحيح الذاتي – الاستجابة للسياق – القدرة على التفكير الناقد – القدرة على النقد الذاتي – القدرة على التفكير الإبداعي – القدرة على التفكير الرعائي (Caring Thinking) – الكفاءة في الحجاج – تعليل أسباب الاختيارات الشخصية والأفعال والمعتقدات(Lipman, 2003, pp. 25-27). هذه المواصفات لا تشير فقط إلى السمات الرئيسية لنموذج ليبمان الجديد، بل تكشف أيضًا عن صفات «اجتماعية وجماعية متكاملة» لأنها ذات أهمية أساسية للفرد وللمجتمع على حد سواء (Ibid. p. 25).

مجتمع التساؤل والديمقراطية والأخلاقيات العامة 

يرتبط أي مجتمع تساؤل ارتباطًا وثيقًا بالقيم وبالتساؤل عن مفهوم القيم، ويُعزى هذا إلى التفكير الرعائي كونه مُنصَبًا على مفاهيم قيمية، ويعُزى كذلك إلى التفكير المنطقي/النقدي والتفكير الإبداعي، وتتيح أنواع التفكير هذه ممارسة (تفكير أعلى رتبة) في الحوار الجمعي وتتيح للفرد هذه الممارسة (Lipman, 1995, p. 29)، من المهم كذلك أن نذكِّر بأهمية ([ix](Prägnanz (الذي قلنا إنه ما يوجِّه عملية التساؤل)[2] وهو ما يمثل الفرق بين مجتمع التساؤل الفلسفي وما سواه من المجتمعات عند ليبمان. بسبب ((Prägnanz يمتلك المجتمع وأعضاؤه معيارًا اُكتُسِب بواسطة التساؤل المشترك، وهذا المعيار يمكنهم من تقويم ما هو ذو صلة وتمييزه عمًّا ليس له صلة. وأخيرًا فإن التساؤل الفلسفي المستمد من الالتزام الجمعي يكون -على هذا النحو- موجَّهًا إلى الفعل والعمل سلفًا ولذلك هو ذو صلة أخلاقيًّا، وذلك لأن حوار المجتمع قد نضج عن طريق المشكلات التي ظهرت في أثناء الممارسة الحوارية، ومن المتوقع أن تؤدي هذه المشكلات إلى التوصل إلى حل أو إلى تفكير أعلى رتبة.

هناك جانب ثانٍ ذو طابع أخلاقي في تأملات ليبمان حول مجتمع التساؤل، وهو العلاقة بين الفرد والمجتمع أي بين القيم الفردية والقيم المشتركة. يمكن طرح سؤال مماثل عن حرية الفرد مقابل المجتمع الذي يقرر الفرد المشاركة فيه. تقول التجربة إن الإجابة عن هذه القضايا تكمن عادة في مجموعة من الحلول الموجودة بين نقيضين، فمن ناحية هناك رفض لاختزالية الفرد وتهميشه، ومن ناحية أخرى هناك إهمال للفرد في سبيل موضوع جماعي جديد ومُعتبَر أي أنه يفترض جوهرية هذا المجتمع وتفرده.

يعالج ليبمان المشكلة بتفادي النقيضين، فوفقًا لطريقته التربوية المتجددة الوفية للتعقيد (أي اعتماده على إبستمولوجيا التعقيد)[3] فحله يتجاوز أي إجابة تتبع التبسيط الثنائي. يصرح ليبمان أن العالم والبيئة الاجتماعية يسبقان فردية الشخص، وذلك نتيجة لحركة أولية تنطلق من المجتمع نحو الفرد،[x] ومع ذلك فلا يغفل ليبمان عن الإشارة إلى أن العلاقة بين الفرد والمجتمع تُظهِر جدلية الحرية، هذه الديناميكية تتحاشى تصدع العلاقات الاجتماعية وتدرك في نفس الوقت التوتر والاحتكاك الجدلي الناشئين عن هذه المقومات وتدرك أن لا مفر منهما. كما يرى ليبمان فإن جدلية الحرية تتجنب فناء الفرد في الوضع (الجماعي) لكنها في الوقت ذاته تبيِّن كيف أن كل فرد ينتمي إلى سياق تاريخي محدد ويوجد فيه -كما تعبِّر التأويلية المعاصرة- ضمن أفق استيعاب مسبق ضروري لإقامة أي علاقة إنسانية. ويرفض ليبمان نمذجة المجتمع على أنه كيان جوهري مستقل على حين يؤكد في الوقت ذاته أن المجتمع يتميز أيضًا بصفات (ضمنية)، فالمجتمع يتجاوز مجموع أفراده بما فيه من احتمالات لأعضائه. ويصر ليبمان على أن ضفيرة حرية الفرد والمسؤولية لا تتجلى أبدًا للإدراك الواعي والناقد أو الناقد للذات إذا انفصلت عن السياق الاجتماعي. وعلى الرغم من ذلك فلا ينوي ليبمان إنكار حرية الفرد أو إلغاء مسؤوليته عن سلوكه.

ويمكن أيضًا تطبيق المفتاح التفسيري (للتوتر) و(الاحتكاك) المُثمرَين اللذين يحركان مساحة حرية الإنسان في جوانب أخرى في تأمل ليبمان، فعلى سبيل المثال يمكن أن يُطبَّق في العلاقة بين فكرة (المجتمع) بوصفه إطارًا اجتماعيًّا/ثقافيًّا محددًا يفتح إمكانية إقامة علاقات وتساؤلات- وفكرة (التساؤل) بوصفه تصحيحًا ذاتيًّا وتساؤلًا ناقدًا متعدد المنطق والمنظور. كما يمكن تطبيقه في العلاقة بين المنطق والإبداع، وفي العلاقة بين العقلانية والوجدانية (Lupia, 2005, p.77)، وفي العلاقة بين الديمقراطية والتساؤل.[xi]  إن العلاقات الإنسانية التي على هذا النحو بما فيها من دفء توضح ضمنيًّا مصدر هذه الطاقة الإنتاجية التعاونية -جزئيًّا على الأقل- التي تفسر جوهر هذه العلاقات.

يركز ليبمان فيما يتعلق بالقضايا الأخلاقية الواضحة على علاقتها بالصفتين اللتين تحددان التعليل العملي: التصحيح الذاتي والاستجابة للسياق. وبناءً على ذلك فقد وضع نهجين محتملين مهمين لأي تساؤل جمعي: «أخلاقيات تحقيق الذات» و«أخلاقيات الأسباب الوجيهة» (Lipman, 2003, p. 54)، ولكن هذين نموذجين محتملان للموضوعات الأخلاقية التي يجب وضعها بعين الاعتبار مع الخصائص الأخرى للعقلانية عن البشر كالسمة المعيارية للتفكير الرعائي التي بفضلها يمكن مقارنة ما هو كائن بما يجب أن يكون (أي الخاصية التنبؤية).[xii]

إن الوجه الأخلاقي للعقلانية الإنسانية الذي ذكرناه يتآلف مع الوجه الأخلاقي في مجتمع التساؤل، ويدل أحدهما على الآخر حتمًا بطريقة متفاعلة، فمن ناحية يبدو نتاج التساؤل الجمعي وثيق الصلة بأخلاقيات الفرد (بسبب مشاركة أعضائه النشطة والمحفزة للمسؤولية) ومن ناحية أخرى، فإن الفرد -نظرًا لأساسه العلائقي والاجتماعي- دائمًا ما يتفكَّر ويقوِّم ويفعل في سياق حواري ضمن مجتمع تساؤل. وكون مجتمع التساؤل يُبدي قصدية التساؤل الأخلاقي الذي يتجاوز المواقف الأخلاقية البحتة لأعضائه، فهذا يعني أهميته للأخلاقيات العامة.

إن تطبيق مفهوم «الأخلاقيات العامة» على مجتمع التساؤل يتطلَّب -وينتهي إلى- إعادة تشكيل شاملة لذات المفهوم تأخذه إلى ما هو أبعد من معناه المستعمل، فالالتزام الأخلاقي العام للتساؤل الفلسفي الذي يعمل مجتمع التساؤل بمقتضاه لا يُقام على التصور الداعي لإعادة إنتاج السمات الأساسية لما يُسمى «الأخلاقيات العامة» (Da Re, 2001, p. 43)، ولا يمكن كذلك اختزال (فلسفة الأخلاقيات العامة) لمجتمع التساؤل في قالب (الأخلاقيات العامة). إن مجتمع التساؤل مهتم بمناقشة أسئلة أصيلة عن المعنى تُعرِض عنها الأخلاقيات العامة. في حين يتشارك كلا المفهومين بعض الأحكام النظرية، وهي: تعددية القيم – التوتر المحتمل بين القيم – احتمال ألا تتواجه الخيارات المطروحة بعقلانية للتوصل إلى حل عادل معقول للوصول للغاية العامة (محاولة التعامل مع التعددية القائمة) – الاختيار ضمن إجراء ديمقراطي قائم على المواجهة العقلانية.

إن الاختلاف الأصيل في كلتا الحالتين هو الإجراء (العملية): في حالة (الأخلاقيات العامة) فإن أكثر ما يهدف إليه الإجراء هو مواجهة حجاجية منطقية ورسم سياسة تتحكم في التعددية وتوجهها حيث تتوسطها المصالح بالدرجة الأولى. وأما في حالة مجتمع التساؤل فإن ما يهدف إليه الإجراء يشمل بحث مشروع التفكير بأكمله، وإجراءات مشتركة تكون فيها قيم كل عضو على المحك للوصول إلى نتيجة مثمرة، وأن يكون وسيلة تتيح إمكانية التوسط والمفاوضة، والعمل على التنظيم الذاتي والتهيئة لاتخاذ أفضل خيار.

لنفترض على سبيل المثال أن مجموعة من الأفراد (كأعضاء مجلس المدينة) ينوون مناقشة ما يجب فعله بقطعة أرض معينة تنتمي للمجتمع، ولنفترض أن المشاركين -كما يحدث غالبًا- ذوو مصالح مختلفة ومحددة وأنهم غير قادرين على التوصل إلى قرار مشترك، ولنستطرد بأنهم وافقوا بعد نقاش طويل على بناء حديقة عامة على هذه الأرض. في هذه الحالة عُثر على الحل عن طريق التوسط بين العديد من المصالح والمداولات التي أدت إلى حل المشكلة الأولية. قد نسأل في هذه المرحلة: هل استعنَّا بنموذج مجتمع التساؤل؟ هل يمكن اعتبار هذه المناقشة مثالًا ملموسًا على مجتمع التساؤل؟ الإجابة هي النفي على كلا السؤالين. إن الهدف في مجتمع التساؤل الفلسفي لا يتضمن توسط المصالح، بل يتضمن حوارًا حول ما تعنيه كلمة (مصلحة) مثلًا. ديمقراطية مجتمع التساؤل تختلف عن مفهوم (ديمقراطية المصالح)، والطريقة الديمقراطية التي يعمل بها مجتمع التساؤل تمثل مصفاة تتيح درجة أعلى من التوسط، فليس الهدف من مجتمع التساؤل البحث حصرًا ومباشرة عن اتفاق، إن الهدف هو السؤال في حد ذاته.[xiii] يختلف مجتمع التساؤل في هذا الصدد بالتأكيد عن مسائل الخطابات أو أخلاقيات الاتصال.

والاختلاف الثاني بين مجتمع التساؤل والأخلاقيات العامة يتحدد في نطاق التطبيقات المحتملة، فإن التساؤل الفلسفي يكون ممكنًا فقط في نطاق المجتمع (المنسجم) ويمكن التعبير عن ذلك بمصطلح (Gemeinschaft) (Lipman, 2003, p. 95) على حين أن الأخلاقيات العامة تُطبَّق في نطاق اجتماعي أيضًا لكن العلاقات في هذا النطاق تراتبية وهي أوسع غالبًا، وقائمة على عوامل التنافس أو القوة ويعبَّر عن هذا المجتمع بـ(Gesellschaft).[xiv]

الاستنتاج بأن الأخلاقيات العامة ومجتمع التساؤل لا علاقة بينهما استنتاج غير صائب، بل على خلاف ذلك، ففيما يتعلق بالتطبيقات فهما يتكاملان، فالالتزام الأخلاقي العام باحتياجات المجتمع حين يكون ضمن أفق علائقي أوسع قد يثير التساؤل الدائم الذي يجنِّب المجتمع الانحسار إلى قشرة أيديولوجية. ومن ناحية أخرى لا يمكن لأي مجتمع ديمقراطي -والمجتمع الديمقراطي العالمي بأكمله- في أي ظرف من الظروف الاستغناء عن الجماعات ودوافعها العلائقية القوية.تساعد هذه النمذجة في تفادي مخاطر الوقوع في أشكال الحوكمة القائمة على الإجراءات البيروقراطية فقط.

مجتمع التساؤل وأخلاقيات المسؤولية

من الضروري العودة إلى مواصفات مجتمع التساؤل لفهم كيفية وصول أي مجتمع تساؤل فلسفي إلى نتاج معين.[xv] وتبعًا لما ذُكر آنفًا يجب توضيح أن هذا النتاج نتج عن معرفة عامة، أي أنه بناء تعاوني وعملية تداولية حول المعنى يشارك فيه كل عضو في المجتمع (Striano, 2005, p. 56-58; Lupia, 2005, p. 76). وهذا النتاج يُناقش عن طريق الحوار المستمر لما في مجتمع التساؤل من صفات لا تنفك عنه كاللامعصومية من الخطأ والقابلية للمراجعة والتصحيح الذاتي. إن ما ينتج عن هذا التساؤل «كونه نوعًا من التسوية أو الحكم» (Lipman, 2003, p. 83) هو نتيجة (مداولات) تحدث في المجتمع (لتقويم) تعليلات وأسباب محددة.[xvi]

يَظهر أن التساؤل الذي يَنتُج عن المجتمع يُتجاهل فيه التنفيذ الفعال للإجراءات والقرارات المحددة، فلا تكون أولوية في أهدافه أو في تخصيص النظر فيها والتخطيط لها. فبينما يهدف المنطق الذي يوجِّه استراتيجيات حل المشكلات إلى مناقشة سؤال محدد لغاية وحيدة تتمثل في الوصول إلى مداولات محددة للتطبيق العملي النهائي، فإن الحوار الفلسفي يتبع منطقًا مختلفًا، فالحوار الفلسفي في مجتمع التساؤل  -كما يذكر أنطونيو كوسينتينو (Antonio Cosentino) الذي قدم نموذج ليبمان إلى إيطاليا في بداية التسعينات من القرن العشرين- «نوع من المعرفة لا يتفق مع نموذج المعرفة الآلية (اكتساب المعلومات ومعالجة البيانات وحل المشكلات)، بل يركز تركيزًا أساسيًّا على آفاق المفهوم والقيم والنماذج الإدراكية وطرائق تفسير الواقع والمواقف العالمية تجاه التجربة» (Cosentino, 2005b, p. 42; Lipman, 2003, p. 26). لحلِّ مسألة مُشكِلة، وهذا هو الهدف الضمني من فكرة (التساؤل) كما ذكرنا سابقًا، فالتساؤل الجمعي ينطلق من ظروف فردية ومشكلات محددة لكن عملية التفكُّر الفلسفي تتسم بنزعة مضمرة (غير ظاهرة) فيما يتعلق بهذه الحالة، فهي تصف خصوصية التساؤل الفلسفي وطريقته التي تُوجب مواجهة المشكلة بتوسيع سياقها وأفقها أولًا ليتسنى بعد ذلك فحص الأدوات الفلسفية المستخدمة سابقًا بعمق (كالمصطلحات والأفكار والمفاتيح التفسيرية وما إلى ذلك) والنتيجة المنطقية لذلك: فحص المشكلة الأولية بمنظور جديد وفي سياق متجدد. لهذا أعتقد أن (المداولات) (أي نتاج التفكير المشترك) قد يتبعها تعديل عملي ضمن فعالية المجتمع وأعضائه، لهذا يمكن توقع (منفعة) من مجتمع التساؤل كما يقول كوسينتينو: «تُعَيَّن المنتجات المنطقية للتساؤل من أجل استعادة ترتيبها العام وتحسين ظروف الوجود والحياة اليومية» (Cosentino, 2005b, p. 29).

يمكن تلخيص الأمر على النحو التالي: يبدأ التفكُّر في مجتمع التساؤل بمشكلة معينة لكنه لا يهدف إلى التوصل إلى إجابة محددة فحسب. ومع ذلك، فإن النتيجة المتوقعة -التي بطبيعتها تستثمر الممارسة العملية- تتطلَّب تدخل ملَكة عُليا من ملكات التساؤل الإنساني. ونتيجة لذلك فإن حل المشكلة سيقع في نطاق هذه الممارسة التفكُّرية. هذه العملية تحدث عبر مستوى خفي مقارنةً بالعملية التي صرحت بالمشكلة منذ البداية.

حتى نتَّبع نهج ليبمان في النفور من أي نوع من التفسير الثنائي من المهم الآن تجنب التورط في شكل من أشكال الثنائية في هذه النقطة الحساسة لتأويل مجتمع التساؤل. كافح ليبمان من أجل التوفيق بين الواقع النظري والتطبيق العملي، لذا يجب بذل نفس الجهد عند ملاحظة (تأثيرات) الممارسة التفكُّرية في الإجراءات أو الاختيارات المحددة التي يقوم بها المجتمع (أو أفراد المجتمع) بعد عملية التفكُّر الفلسفي. إن لم يؤدِ التفكُّر الفلسفي إلى إحداث تأثير ما في الممارسات اليومية لأعضاء مجتمع التساؤل فهذا أمر يدعو للإحباط ودليل على عدم الترابط المنطقي. قد تظهر نفس المشكلة في الحالات التي لا تؤثر فيها الممارسة (الجماعية) في الممارسة (الاجتماعية) بأكملها.

كما بيَّنا فإن قضايا وأسئلة محددة (إجراءات) تتيح فرصًا للممارسة الحوارية والبحث الجماعي. لقد حان الوقت لتحليل أي الحركتين المتعاكستين هي الأنجح لتحقيق الممارسة التفكُّرية عن طريق أفعال/مداولات بعينها (تُوصِّل إليها عن طريق الجولات والمداولات الجمعية)، وهذه الأفعال/المداولات مفترضة ملموسة ونُفِّذَت فرديًّا أو جماعيًّا.[xvii] في هذا الصدد يكون السؤال: كيف يمكن لهذا النوع من مجتمع التساؤل أن يُنَفِّذ، هل يُنَفِّذ بهذا المسار: تأمل دقيق (الجولة التداولية رقم 1) ثم أنشطة وإجراءات أو قرارات محددة (الجولة التداولية رقم 2) تنفذ بشرط أن لا يخسر مجتمع التساؤل خصوصيته (أي طابعه  الفلسفي التفكُّري)؟ هل هذا هو الترتيب المساري المناسب؟ أم هل الترتيب المساري المناسب هو العكس: أن نقول ما الأنشطة والإجراءات أو المداولات (الجولة التداولية رقم 2) القادرة على التأكيد والمحافظة على خصوصية مجتمع التساؤل التفكُّرية التأملية الفلسفية دون اختزاله (الجولة التداولية رقم 1).

هذه الأسئلة ذات دلالة لأنها مهمة لتوضيح النقاط التالية: أولًا: ما حدود قدرة الممارسة التفكُّرية الجماعية (الجولة التداولية رقم 1) على أن تحدث فرقًا واضحًا في الممارسة العملية اليومية في نطاق كل من الحياة الاجتماعية والوجود الفردي ( الجولة التداولية رقم 2)؟ ثانيًا: إلى أي مدى يمكن لمجتمع ما قد قرر مواجهة إشكالات محددة (اطلع على فكرة ديوي عن التساؤل) بهدف إيجاد حل ملموس (الجولة التداولية رقم 2) أن يَعُدَّ نفسه مجتمع (تساؤل)؟ (الجولة التداولية رقم 1). حل الإشكالية الثانية وثيق الصلة بمحاولة توسيع نطاق الممارسة الفلسفية لمجتمع التساؤل، فيجب إشراك الهيئات السياسية/الإدارية والجمعيات الثقافية والمهنية ومنظمات الأعمال في مثل هذه التجارب لالتزامها بحل المشكلات واتخاذ قرارات محددة. لهذا التطبيق الأوسع نتائج منطقية على المجتمع وأعضائه وعلى السياق (الاجتماعي) بأكمله.

أعتقد أن هذه الأسئلة يمكن توضيحها بتأمل الفكرة الأخلاقية الفلسفية للمسؤولية. يعضد أهمية هذا التأمل ما في مفهوم المسؤولية من قدرة على النظر في كل من نتائج السلوك الإنساني المؤثر والأفق المفاهيمي الأوسع العويص الذي تحدث تبعًا له وفيه الإجراءات والنتائج.[xviii] بفضل فهمٍ لبراغماتيات المجتمع (the community pragmatics) في سياق أخلاقيات المسؤولية نصل إلى خلاصة مهمة: أولًا: يمكن الآن الوصول إلى تفسير شامل لمغزى النشاط الإنساني. ثانيًا: يمكن النظر في نتائج الأفعال. ثالثًا: يمكن للممارسة التفكُّرية لمجتمع التساؤل أن تُحدث تأثيرات حسنة في الممارسة الاجتماعية.

لأن التصريح الأخير يتطلَّب مزيدًا من البحث سأقتصر هنا على تبيان تبعات افتراضية لما يحدث على أرض الواقع عندما يبدأ مجتمع التساؤل. لنفترض أن مجموعة من الأشخاص (كمجلس المدينة أو لجنة حي اعتيادية أو مديري أعمال) يعتزمون إقامة حوار فلسفي (الجولة التداولية رقم 1)، بشأن موضوع أو فكرة معينة للوصول إلى مداولات ثابتة يمكن تطبيقها لاحقًا (الجولة التداولية رقم 2). ولنفترض أن هذه المجموعة المقيدة بموضوع الحوار تهدف إلى أن تحاكي مجتمع التساؤل (قصير الأجل)، من هنا يُمكن اقتراح سلسلة من الاعتبارات: أولًا: يوضح المثال إمكانية الممارسة الاجتماعية والتفكُّر كون المجتمع قد قرر إدارة الحوار تبعًا لإجراء معين (تحديدًا الإجراء الذي يميز مجتمع التساؤل). يعتمد هذا القرار على القبول المبدئي الحر من أفراد المجتمع، ويرافق هذه الموافقة التزام مُفترض حرٌّ (أي التزام يتعهد به أفراد المجتمع) بالإجراء. ثانيًا: يترتب على ما سبق نتائج عملية مثل أن المشاركين في المجتمع (تُعَلَّق) مواقفهم الاجتماعية الاعتيادية لأن نقاش المواضيع المختارة سيأخذ طابعًا (فلسفيًّا) يتطلَّب قواعد محددة. ثالثًا: في الحالات التي تنجح فيها هذه التجربة من المعقول افتراض أن هناك نتائج منطقية ستتبع ذلك، على سبيل المثال من المحتمل جدًّا أن ينتفع المشاركون من الوعي التفكري الانعكاسي الشخصي، ومن المحتمل كذلك أن هذا الوعي سيزيد إذا أُتيحت له فرص أكثر ليُزاول (وهذا هو أثر التعزيز)،[4] وأن هذه الطريقة المكتسبة للتساؤل وزيادة الوعي التفكري الانعكاسي ستُتَّبع في تطبيقات أخرى -ربما في ذات مجتمع التساؤل- في مواضيع أخرى قد لا تكون معروفة أو متوقعة مسبقًا. رابعًا: من المحتمل أن يؤدي نمو المهارات التفكرية داخل مجتمع التساؤل وأعضائه إلى تحسين مهارات أخرى مثل القدرة على تقويم الأسئلة (الجولة التداولية رقم 1)، وتخيل حلول ممكنة بالتعاون مع الآخرين، وتصور سيناريوهات بديلة، والتنبؤ بالنتائج المنطقية المحتملة في الممارسة العملية، ومراقبة تنفيذ القرارات المفترضة (الجولة التداولية رقم 2). وأخيرًا بناءً على النجاح الفعال لمجتمع التساؤل فإنه من المتوقَّع أن يحصل الأعضاء من هذه التجربة على حافز شخصي أكبر لمزيد من التساؤل المشترك.

تكشف التجربة الذهنية لـ(مجتمع التساؤل قصير الأجل) عن مزايا عديدة، فهي: أولًا: تُطرح بوصفها مسار تساؤل محدد يقع ضمن أفق أوسع للمعنى، لذلك يبرهن التساؤل على الصفات الأصيلة لهذا المعنى العام بأكمله، كإشكالاته وجوهره العلائقي وتكوينه العملي. ويكشف أفق المعنى المتداول عن قضايا أخرى مثل القبول الحر لإجراء معين، ومشاركة الأفراد، والالتزام بالتساؤل، وبناء المشاورات حول المعاني، وتمييز الكيانات الأخرى، والحساسية في تقدير العقلانية، وإدراك القوة التحررية للممارسة الفلسفية (الجماعية)، وغير ذلك.

 ثانيًا: قد تبني التجربة الذهنية نموذجًا أوليًّا للتفاعلات التي تربط الممارسة التفكُّرية بالممارسة العملية الاجتماعية، وتربط التفكير الانعكاسي بالفعل الاستراتيجي المؤثر (Lupia, 2005, p. 76)، وتربط التساؤلات/المداولات الجمعية (الجولة التداولية رقم 1) بتنفيذ خيارات معينة (الجولة التداولية رقم 2). وتشير هذه التجربة الذهنية إلى الطابع الاستكشافي الذي بواسطته يمكن لمجتمع التساؤل وأخلاقيات المسؤولية أن يوضِّح كل منهما الآخر تبادليًّا، فتعرض أخلاقيات المسؤولية تفسيرًا مترابطًا منطقيًّا موحَّدًا للتفاعلات العملية الفلسفية لمجتمع التساؤل في حين يتيح مجتمع التساؤل فهمًا للمستويات المتعددة للمسؤولية.

إن أول ما ينتج عن هذا التوضيح المتبادل هي نقطة التواصل الأصيلة بين فكرتيْ الحرية والمسؤولية، فكل منهما تتطلَّب الأخرى. لا شك أن الحرية الشخصية لا تتحقق إلا بتحقق حرية الآخرين ووفقًا للعلاقة التبادلية بين الطلب والاستجابة (أي تحمل المسؤولية تبادليًّا)[xix] اتجاه الآخرين. هذا يعني أنه قبل البحث عن الإنجاز الفردي والخاص، تكون الحرية والمسؤولية ضمنيًا حرية (بالمشاركة) ومسؤولية (بالمشاركة). وبذلك، تكشف العلاقة بين الحرية والمسؤولية عن طور أولي مفاهيمي وجوهري يتألف من أفق شامل للمعنى والاحتمالية والوجود. فمن جهة تجد كل من الحرية ومسؤولية الأفراد وعملية تساؤل المجتمع مساحة ووجودًا ضمن هذا الأفق الأساسي الجوهري، ومن جهة أخرى فإن هذا الأفق عرضة لإعادة القبول وإعادة التشكيل المستمرين المُتحققين نتيجة لحرية ومسؤولية الأفراد ومجتمع التساؤل.

تظهر نتيجة ثانية عندما يختار الشخص بوعي المشاركة في مجتمع التساؤل، فالاختيار الحر يتزامن مع القبول المسؤول للحدود، وهذه المشاركة تفتح مساحة (عامة) للتفاعل والإنتاجية من أجل التواجد والتساؤل.[xx] هذا القبول المسؤول يجعل الفرد مسؤولًا عمَّا يلي: أ) أفعاله ونتائجها. ب) أعضاء المجتمع الآخرين (المسؤولية بوصفها رعاية). ج) عملية تساؤل المجتمع (المسؤولية المعرفية) (Striano, 2005, p. 51).  د) الجودة الفلسفية لنتائج التساؤل الجمعي (الجولة التداولية رقم 1). هـ) الآثار المحتملة لتنفيذ القرارات الجماعية (الجولة التداولية رقم 2(. من المهم ملاحظة أن تحقيق النقاط (ج) و(د) و(هـ) لا يعتمد حصرًا على حسن نية أحد أفراد المجتمع، بل يتطلَّب قبول المجتمع للالتزام بالتساؤل.

الخاتمة

في هذا المقال افترضتُ ضمنيًّا مقدِّمتين: أ) صلة (السياسي) أو (العام) بالفلسفة كونها ممارسة تفكُّرية، و(منفعة) الفلسفة من أجل ازدهار الحضارة. ب) الاعتقاد الراسخ بالفائدة الكبيرة لنموذج ليبمان للفلسفة للأطفال وبأن مجتمع التساؤل يساهم في توسيع نطاق الممارسات الفلسفية، أي فوائد تفكُّر المجتمع الفلسفي في الحياة الاجتماعية. لم أركز على مسألة ما إذا كان نموذج ليبمان هو الأفضل لهذا الغرض، وأقر بأنه من الضروري إجراء المزيد من الأبحاث للوصول إلى مثل هذا الاستنتاج، لكني بدلًا من ذلك حاولت تطوير المقدمتين المذكورتين أعلاه بهدف مناقشة المساهمات المحتملة للفلسفة في التفاعلات العملية والأخلاقية التي تتصف بها العديد من السياقات العامة العلائقية والتداولية، فقد طبَّقتُ مفتاح ليبمان التفسيري لمجتمع التساؤل في هذه السياقات، بعد ذلك حاولتُ تفسير مجتمع التساؤل جوهريًّا من منظور أخلاقيات المسؤولية التي تلتزم بهدفين: إعطاء صورة واحدة (وغير ثنائية) للنشاط الإنساني ولجديلتي الحرية والمسؤولية من جهة، وإعادة تفسير القضايا الفلسفية الأصيلة مثل القوة التحررية للممارسة الفلسفية للفرد، وواجب الفلسفة في التساؤل عن أسباب المشاركة في الديمقراطية، والمساهمة التي قد تقدمها هذه الممارسة التفكُّرية لاستيعاب التوترات المُثمرة للفرد ووجود المجتمع من جهة أخرى.

[1] كلمة ألمانية تعني البروز والإيجاز والانتظام. (المحرر).

[2] (المحرر).

[3] تُعنى إبستمولوجيا التعقيد بفهم ما هو معقد وفهم تفاعله واستيعاب الصورة الشاملة عوضًا عن الاختزال، لذلك وضَّحنا مقصد الكاتب بأن طريقة ليبمان وفية للتعقيد بما بين القوسين في أنها تعتمد على إبستمولوجيا التعقيد كما ذُكر في بداية المقال. (المحرر).

[4] يُقصد هنا مصطلح علم النفس (Reinforcement Effect) الذي يعني تعزيز سلوك معين. (المحرر).

 

ملاحظات

 

 

[i]

في هذا الصدد تكون المقارنة فرصة لتظهر تفرد التصور، فقد طوَّر ليبمان فكرة (مجتمع التساؤل) ضمن سياق المدرسة ولم يكن يهدف إلى نشرها للمجتمع بهذا الشكل

وأعتقد أن هناك أسبابًا عجيبة تدعم هذه الاحتمالية.(Lipman, 2003)

 

[ii]

لاحتمالية إيجاد نقاط اهتمام مشتركة مع التأويل المعاصر اطلع على:

Da Re, 2001, pp. 115-117.

للعلاقة بين النظرية التربوية وإبستمولوجيا التعقيد اطلع على:

Morin, 1973; Morin 1985; and Morin, 1991.

[iii]

يعتقد ليبمان أن النظام التعليمي الحالي دفع الطلاب إلى الإعراض عن التعامل مع الكفاءات المنطقية، اطلع على سبيل المثال على:

Lipman, 2003 and Striano-Oliverio, 2007.

 

[iv]

للعلاقة بين الديمقراطية وانخفاض العنف اطلع على:

Lipman, 2003, pp. 105 ff.

 

[v]

لتعريف (الممارسة الفلسفية) اطلع على:

Volpone, 2004, pp. 158, 163 ff. and 177.

 

[vi]

الفرق بين مجتمع تساؤل ليبمان وأخلاقيات خطاب هابرماس

(Habermas’ discourse ethics)

اطلع على:

Laverty, 205, pp. 158, 163 ff. and 177.

 

[vii]

للتعرف إلى عقلانية الإنسان لدى ليبمان اطلع على:

Lipman, 1995, p. 37 and Lipman, 2003.

 

[viii]

«وإذا غَلبت المعقولية في الصف الدراسي فغدًا عندما يصبح تلاميذ اليوم بالغين وآباء فستغلب أيضًا في البيت، مع الوقت ستتحول المؤسسات الأخرى بطريقة مماثلة، لذا يجب أن تكون البداية في المدارس».

.(Lipman, 2003, p. 123)

 

Prägnanz [ix]

يعني ليبمان بهذا المفهوم قدرة مجتمع التساؤل على تمييز ما هو ذو صلة وما فيه قيمة للحوار الجماعي.

.(Lipman, 2003, p. 86)

 

[x]

هذا الحراك يوضح نمو القدرة المنطقية لدى الفرد، وصفاته النفسية، وقدراته الإدراكية، وكيفية نشوء التفكُّر من الحوار.

.(Lipman, 2003; Lupia, 2005, pp. 74-75 and p. 76)

يتضح جليًّا أن تفسير ليبمان متأثر بفيجوتسكي.

.(Vygotskij, 1934)

 

[xi]

ديوي قد لاحظ سلفًا في هذا الصدد أن الديمقراطية والتساؤل قد لا يكونان متوافقين بطبيعتهما، لذا رأى ليبمان حتمية أن يُبذَل جهد من أجل أن يتآلفا

. (Lipman, 2003, pp. 35-36)

 

 

[xii]

لمعيارية التفكير الرعائي اطلع على:

.Lipman, 2003, pp. 34-35 and Sharp, 2005b, pp. 41-52

تصف الخاصية التنبؤية العقلانية، ولفهم الشيء نحتاج إلى تمييز علاقته بالظروف والأسباب التي أنتجته وتمييز آثاره.

.(Striano-Oliverio, 2007, p. 259; Cosentino, 2002b(

واضح جدًّا أن هذه الفكرة مستوحاة من البراغماتية الأمريكية.

 

[xiii]

ومع ذلك -كما سأجادل أكثر- أعتقد أن هذا التساؤل (مهتم) بإنجازاته الخاصة وبالتأثير في التصرفات.

 

[xiv]

للتمييز الخلافي والمعقد بين (community) و(society) اطلع على:

. اطلع أيضًا على:Tönnies, 1887 and Reidel, 1975

. وأخيرًا، اطلع على:Esposito, 1998, Viola 1999 and Donati, 2006

Esposito, 2002 and the meditations of P. Coda, R. Mancini,M. Signore, و S. Zamagni, in Signore-Scarafile, 2005.

لصلة فكرة ليبمان بهذه المناظرة اطلع على:

.Lupia, 2005, p. 72

 

[xv]

كما يذكر ليبمان فإن لدى كل مجتمع تساؤل هدفًا ما، فهو «عملية تهدف إلى الوصول إلى منتج بناء على تسوية أو حكم بغض النظر عن جزئيته أو كونه مؤقتًا»

.(Lipman, 2003, p. 83)

 

[xvi]

يعرِّف ليبمان (المداولات) بأنها: «استعراض البدائل واختبار الأسباب التي تدعم كل خيار، وعادةً تحدث للاستعداد لإصدار حكم، فنحن نتكلم عن العملية لـ(تقويم) الأسباب والبدائل»

.(Ibid. p. 96)

 

[xvii]

المشكلة الفلسفية في (إدراك/إنجاز) الممارسة التفكُّرية اُصطلح على تسميتها (المداولات)، ومصطلح (مداولات) يفترض عادةً معنيين: الأول: معنى يشير إلى عملية (باطنية) لتقويم الأسباب لتكوين حكم (الجولة التداولية 1)، ويستخدمها ليبمان بهذا المعنى.

. (Lipman, 2003, p. 96)

والمعنى الثاني: من الاستعمال اليومي للعبارة، ونشأ هذا المعنى كـ (لأي سبب)، والتقدير التداولي لا يكون أبدًا على الحياد، ولكنه يهدف إلى الإنجاز العملي فيكون دائمًا متأهبًا للتجاوب مع النتائج المحتملة من الإدراك (الجولة التداولية 2). من المهم ملاحظة أنه في مجتمع التساؤل تُدرك (الجولة التداولية 1) عن طريق (الجولة التداولية 2) التي تَستخدِم معيارًا معينًا أو وصية أو مقياسًا، ويجب ألا تنحصر أبدًا في عملية  التكوين (poietic) أو في العملية التقنية فقط، بل تشمل كذلك الإنجاز العملي (بالمعنى الفلسفي). وفي هذا المقال لا أستطيع الخوض في أسئلة العلاقة بين المداولات الفردية أو الخيار البين-شخصي أو الجمعي. هناك مؤلفات تستعرض هذه المشكلة حسب رؤية أرسطو.

Bubner, 1976; Arenas-Dol`, 2006; Totaro, 2006))

 

[xviii]

اطلع على أفكار هانز جوناس حول التقويم الكامل لفكرة المسؤولية التي تتجاوز الاعتبارات المحضة لنتائج أفعال الإنسان

.(Jonas, 1979)

 

[xix]

كلمة “مسؤولية”

Responsibility

مشتقة من الأصل اللاتيني

)Respondereو(  )responsum dare(

وهاتان الكلمتان توحيان إلى حد ما بتصور الالتزام بإعطاء الإجابة، ومن العجيب أن تلاحظ أن الكلمة الألمانية “المسؤولية” وتحديدًا

Verantwortung

قد احتفظت بهذا المعنى المتفاعل.

.(Antwort = answer)

 

[xx]

اطلع في الأعلى على التوتر/الاحتكاك المنتِج للعلاقات الإنسانية.

 

References

Arenas-Dolz, F. (2006) Il concetto di deliberazione nella filosofia di Aristotele. Etica, retorica ed ermeneutica (http://amsdottorato.cib.unibo.it/172/).

Bevilacqua, S. (2007) L’esperienza della Philosophy for Children (for community) in Comunità per tossicodipendenti (San Benedetto al porto di Genova) (published at the website www.filosofare.org).

Bubner, R. (1976) Handlung, Sprache und Vernunft: Grundbegriffe praktischer Philosophie (Frank- furt am Main, Suhrkamp).

Carletto, S.-Franzini Tibaldeo, R. (eds.) (2004) Il globo e spada. Scenari futuri dell’Europa unita (Milano, Medusa).

Casarin, P. (2005) ‘Valenze formative e potenzialità emancipative delle pratiche filosofiche’, in A. Cosentino (ed.), Pratica filosofica e professionalità riflessiva (Napoli, Liguori, pp. 104-122).

Cives, G. (2004), Dewey e la democrazia, Studi sull’educazione, VII, 2, 13-32.
Cosentino, A. (ed.) (2002a) Filosofia e formazione. 10 anni di Philosophy for children in Italia

(1991-2001) (Napoli, Liguori).

Cosentino, A. (2002b) Costruttivismo e formazione (Napoli, Liguori).
Cosentino, A. (2004) Effetti emancipativi della comunità di ricerca, Pratiche filosofiche, II, 1, 45-

50.
Cosentino, A. (ed.) (2005a) Pratica filosofica e professionalità riflessiva (Napoli, Liguori). Cosentino, A. (2005b), ‘La pratica del filosofare per lo sviluppo di una professionalità riflessiva’,

in A. Cosentino (ed.) Pratica filosofica e professionalità riflessiva (Napoli, Liguori, pp. 9-45). Cosentino, A. (2005c), ‘Teoria e pratica nella formazione dei docenti. Il modello della “P4C”’, in M. Santi (ed.) (2005) Philosophy for Children: un curricolo per imparare a pensare (Napoli,

Liguori, pp. 63-80).

Da Re, A. (2001) ‘Figure dell’etica’, in C. Vigna (ed.), Introduzione all’etica (Milano, Vita e Pensiero, pp. 3-117).

Dewey, J. (1916) Democracy and Education: an Introduction to the Philosophy of Education (New York, Macmillan).

Dewey, J. (1929) The Quest for Certainty: a Study of the Relation of Knowledge and Action (New York, Milton-Balch).

Dewey, J. (1933) How we think (Boston, Heat).
Dewey, J. (1938) Logic: the Theory of Inquiry (New York, Holt, Rinehart and Winston).
Donati, P. (2006) ‘Comunità’, in Enciclopedia filosofica (Milano, Bompiani, vol. 3, pp. 2112-2114). Esposito, R. (1998) Communitas. Origine e destino della comunità (Torino, Einaudi).
Esposito, R. (2002) Immunitas. Protezione e negazione della vita (Torino, Einaudi).
Jonas, H. (1979) Das Prinzip Verantwortung. Versuch einer Ethik für die technologische Zivilisation

(Frankfurt am Main, Insel).
Laverty, M. (2005) ‘Dialogo filosofico ed etica: ricerca, virtù e amore’, in M. Santi (ed.), Philoso-

phy for Children: un curricolo per imparare a pensare (Napoli, Liguori, pp. 157-179). Lipman, M.-Sharp, A. M. (1978) Some educational presuppositions of Philosophy for Children,

Oxford Review of Education, 4, 1, 40-58.
Lipman, M. (1988) Pratica filosofica e riforma dell’educazione. La filosofia con i bambini, it. tr. in

Bollettino SFI, 135, now in A. Cosentino (ed.) (2002a).
Lipman, M. (1995) Orientamento al valore (caring) come pensiero, Inquiry, XV, 1 (it. tr. in

Comunicazione filosofica, 3).
Lipman, M. (2003) Thinking in Education (second edition, Cambridge, Cambridge University Press). Lupia, M. (2005), ‘Il curricolo di M. Lipman e la “comunità di ricerca”’, in A. Cosentino (ed.)

(2005a), pp. 65-103.
Martens, E. (1999) Philosophieren mit Kindern. Eine Einführung in die Philosophie (Stuttgart,

Reclam).

Morin, E. (1973) Le paradigme perdu: la nature humain (Paris, Seuil).
Morin, E. (1985) Le vie della complessità, in G. Bocchi-M. Ceruti (eds.), La sfida della complessità

(Milano, Feltrinelli).
Morin, E. (1991) Introduction à la pensée complexe (Paris, ESF).
Peirce, C. S. (1935-58) ‘The Fixation of Belief’, in Id., Collected Papers (Cambridge, Harvard

University Press).
Reidel, M. (1975) ‘Gesellschaft, Gemeinschaft’, in O. Brunner-W. Conze-R. Koselleck (eds.),

Geschichtliche Grundbegriffe. Historisches Lexikon zur politisch-sozialen Sprache in Deutschland

(Stuttgart, voll. II, pp. 804-805).
Riva, F. (2007) Partecipazione e responsabilità. Un binomio vitale per la democrazia (Troina,

Città aperta).
Santi, M. (1995) Ragionare con il discorso (Firenze, La Nuova Italia).
Santi, M. (ed.) (2005) Philosophy for Children: un curricolo per imparare a pensare (Napoli,

Liguori).
Sharp, A. M. (2005a) ‘Filosofia per i bambini: educare un giudizio migliore’, in M. Santi (ed.)

(2005), pp. 29-44.
Sharp, A. M. (2005b) ‘La “comunità di ricerca”, educazione delle emozioni e prevenzione della

violenza’, in A. Cosentino (ed.) (2005a), pp. 46-64.
Signore, M. (1995) Questioni di etica e di filosofia pratica (Lecce, Milella). Signore, M.-Scarafile, G. (eds.) (2005) Libertà e comunità (Padova, Messaggero). Striano, M. (1999) Quando il pensiero si racconta (Roma, Meltemi).

Striano, M. (2002) ‘Insegnare a pensare. Un’esperienza di formazione a pensare il pensiero’, in A. Cosentino (ed.) (2002a), pp. 137-147.

Striano, M. (2005), ‘Filosofia e costruzione della conoscenza nei contesti di formazione’, in M. Santi (ed.) (2005), pp. 45-61.

Striano M.-Oliverio S. (ed.) (2007) A. M. Sharp. “Philosophy for Children”, un percorso educativo attraverso la filosofia, Iride, XX, 51, 249-269.

Tönnies, F. (1887) Gemeinschaft und Gesellschaft (7th edition, 1912, Berlin, Curtius).
Totaro, F. (2006) ‘Deliberazione’, in Enciclopedia filosofica (Milano, Bompiani, vol. 3, pp. 2633-

2634).
Viola, F. (1999) Identità e comunità: il senso morale della politica (Milano, Vita e Pensiero) Volpone, A. (2004) Oltre le pratiche filosofiche, Pratiche filosofiche, II, 1, 11-25. Vygotskij, L. S. (1934), Thought and Language (it. tr. Roma-Bari, Laterza, 1990).

correspondence: roberto.franzinitibaldeo@unito.it

 

حمل مقالة مجتمع التساؤل وأخلاقيات المسؤولية