نموذج للحوار الفلسفي في الصف الدراسي

فيليب كام

Cam, F. 2021, “A Model of Philosophical Discussion in the Classroom,” Analytical Teaching and Philosophical Praxis Vol. 41, No 1, pp. 27-42.

 

تُرجمت المقالة بعد الحصول على الإذن الخطي من المؤلف.

 

ترجمة: نوار فخري عزي

تحرير وتدقيق: منى عبد الله

مراجعة: علوي السقاف

 

“جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن المؤلف وليست مسؤولية معهد بصيرة أو دار بصيرة للنشر أو أي جهات أخرى متصلة بها من الجهات والهيئات الثقافية التنظيمية أو المانحة وغيرها”.

 

الملخص

يُطبَّق مفهوم عام للحوار وعلاقته بنمو التفكر الانعكاسي في التساؤل الفلسفي في الصف الدراسي. ويُنظر فيما يختص به الحوار الفلسفي لتبيين نوعية التفكير فيه ثم يُوظَّف ضمن نموذج حواري في الصف الدراسي مصمم لإشراك الطلاب فيه. كما تُعرض مجموعة من أدوات الاستفهام والاستكشاف المفاهيمي والتعليل التي يمكن استعمالها في منهج التساؤل الفلسفي ومن شأنها تحسين ملَكَة التفكير الناقد والإبداعي لدى الطلاب. إنها لمعضلة أن يُطلَب مني الكتابة عن مساهمتي في الفلسفة في المدارس. لقد تراوحت اهتماماتي بين تأليف كتب القصص الفلسفية للأطفال مع التمارين والتدريبات المصاحبة لها، وكتابة الكتب للمعلمين وإقامة ورش عمل، علاوة على قضاء قدر كبير من الوقت في الكتابة عن مسائل في النظرية التربوية للتعليم لها سحرها الأكاديمي بلا ريب [1]. لا يسهل تلخيص كل ذلك، إنما يمكن تضمين ما في خبرتي من مزج بين النظرية والممارسة فيما أريد إيصاله. لأعيد صياغة ما قاله إيمانويل كانط هنا: دون الممارسة التربوية للتعليم لا نملك ما يمكن التنظير حوله، لكن غياب النظرية يعني عدم وجود فكرة مفترضة عن ماهية التعليم. إن نظرية تربوية للتعليم دون ممارسة هي نظرية فارغة، وممارسة تعليمية دون نظرية هي ممارسة عمياء[2].

 

يعبِّر هذا عن المغزى العام لمقالي ولكن يجب أن أملأ ما بين السطور بتفاصيل محددة. اخترت أن أركز على الطرائق التي يعمل بها التفكُّر والحوار في التساؤل الفلسفي التعاوني بما أنني كنت مهتمًّا بذلك منذ مدة طويلة. سيعطي ذلك إطارًا نظريًّا إلى حد ما للمقال، لكنني لن أكتفي بذلك، إذ أعمل بهذا الإطار النظري على أنه تتمَّة سؤال “كيف تستخدم طرائق التفكير

 

[1] لقد أدرجت بعض هذه الكتب في المراجع. قائمة الكتب والمقالات كاملة موجودة في موقعي https://www.philipcam.com

 

[2] «دون عقل لا نعي الموضوع، ودون فهم لا نقدر على التفكير في أي موضوع. الأفكار دون محتوى فارغة، والحدس دون مفاهيم أعمى» إيمانويل كانط، نقد العقل المحض. (Kant, Critique of Pure Reason, A 51, B 75).

 

والحوارت على أحسن وجه في الصف الدراسي؟” آمل أن ما أذكره في هذا الشأن يمكِّن المعلمين من فهمه ومعرفته ليوجِّهوا الطلاب في هذا الموضوع.

 

أبدأ بمفهوم عام للحوار وعلاقته بالتفكر الانعكاسي ثم أركز على ما يجعل الحوار فلسفيًّا وعلى أنواع التفكير التي ينطوي عليها. أُتبع ذلك بتطبيق هذه المفاهيم العامة في التساؤل الفلسفي في الصف الدراسي وأوضح كيف تعمل مختلف العمليات الإدراكية والأفعال اللغوية فيه. بعد ذلك أبيِّن مجموعة من أدوات الاستفهام والاستكشاف المفاهيمي والتعليل التي يمكن استعمالها لتعزيز النتائج التعليمية.

 

الحوار وتنمية التفكر الانعكاسي

 

قد نَعُدُّ الحوار محادثة تداولية تتناول سؤالًا أو إشكالية بطريقة منهجية. دعونا نتأمل في مصطلحات هذا التعريف. أولًا: لدينا محادثة وهي عبارة عن تبادل لفظي بين شخصين أو أكثر. تتضمن المحادثات تبادل الأخبار أو الآراء أو الملاحظات أو الأفكار حول موضوع واحد أو أكثر. في بعض الأحيان تكون المحادثات التي ننخرط فيها تداولية. في هذه الحالات نبذل قصارى جهدنا في التحقيق وإعمال النظر. قد نفعل ذلك عند التخطيط لمسار عمل على سبيل المثال، أو عند إرادة التوصل إلى حكم مدروس. عندما تكون المحادثة التداولية مركَّزة ومنظَّمة بما يكفي لتصبح تحقيقًا منهجيًّا لسؤال أو إشكالية ما فحينئذ أسميها (حوارًا).

 

 

لطالما ذكُرت الصلة بين المحادثة التداولية والمداولات الفردية ويعود هذا الربط إلى زمن أفلاطون على أقل تقدير. ففي الثياتيتوس يروي أفلاطون عن سقراط: «وكأنما الروح عندما تفكر تحدِّث نفسها طارحةً أسئلة ومجيبةً عنها، مؤكدةً ونافيةً» فهي «محادثة تجريها الروح مع نفسها عند تدبر أي شيء» .(Plato, Theaetetus 190a) واستدعت هذه الصلة تكهنات عن أصول التفكر الانعكاسي فها هو جون ديوي يقول:

 

 

لا توجد عملية أكثر تكرارًا في التاريخ من نقل ما يحدث من عمليات بين أشخاص مختلفين إلى ساحة

الوعي الفردي للشخص. إن الحوار الذي بدأ بتبادل أشخاص مختلفين أفكارهم بأن تتحدى تلك الأفكار بعضها بعضًا وتخضع لمقارنة نقدية وقرار انتقائي- أصبح أخيرًا عادة الفرد مع نفسه. لقد أصبح الفرد وحده تجمُّعًا اجتماعيًّا مصغرًا حيث تتصارع محاسن ومساوئ القول من أجل الظفر بالاستنتاج النهائي. هكذا نتصور كيف يُولد التفكُّر

.(Dewey, 2004, p. 123)

 

 

عندما يتعلق الأمر بنمو التفكر الانعكاسي للفرد، فمن الجدير بالذكر أن هذه الفكرة ما هي إلا حالة خاصة من الافتراض المركزي لعلم نفس النمو لفيجوتسكي (Vygotskian Developmental Psychology)، وهو أن الإدراك في جميع أشكاله العليا هو استبطان للتفاعلات الاجتماعية:

 

كل سمة من سمات النمو الثقافي للطفل تظهر مرتين: أولًا، على صعيد اجتماعي، وفيما بعد على

صعيد فردي. أي أولًا بين الناس (بين-نفساني) interpsychological)) ثم في داخل الطفل (داخل-نفساني)

(intrapsychological). وهذا ينطبق أيضًا على الاهتمام الطوعي (voluntary attention)

والذاكرة المنطقية وتكوين المفاهيم. فجميع الوظائف النفسية العليا تنشأ من علاقات واقعة بين الأفراد

(Vygotsky, 1978, p. 57).

 

إن المضمون التعليمي لما ذُكر واضح. إذا أردنا أن ينمّي الطلاب القدرة على التفكير في الأشياء بأنفسهم، فنحن بحاجة إلى إعطاء الأولوية للحوار. من باب التوضيح سنستعرض النقطتين التاليتين: إن إشراك الطلاب في الحجاج وتبادل الأسباب في الحوار يهيئ أفرادًا يستقصون ما ينشأ في أذهانهم ويُعملون النظر في محاسنه وسيئاته، ويعين تأمُّل وجهات نظر الأشخاص المختلفة في أثناء الحوار الطلاب على اعتياد النظر إلى الأمور من وجهات نظر مختلفة في تفكيرهم الفردي.

 

بعد أن حددت ما أعنيه بالحوار وربطته بالقدرة على التفكُّر وعرَّجت على أهميته في التعليم، دعونا ننتقل الآن إلى ما يجعل الحوار فلسفيًّا وإلى أنواع التفكير التي ينطوي عليها.

 

الحوار الفلسفي وأنواع التفكير التي ينطوي عليها

 

كما هو الحال مع الحوار عامة فالحوار الفلسفي يتناول إشكاليات أو أسئلة، ولتحديد ما الذي يجعل الحوار فلسفيًّا ننظر في المواصفات العامة لهذه الإشكاليات والأسئلة. اطَّلع على أي مقدمة نموذجية للفلسفة وستجد إشكاليات وأسئلة تتعلق بأشياء مثل: المعرفة والوجود والمجتمع والأخلاقيات والجمال والدين. الإجراء العام لمعالجة الإشكاليات الفلسفية هو التعامل مع الأسئلة التي تثيرها. لنضرب مثالين تقليديين: الأول هو أننا قد نحاول حل إشكالية العقل والجسد بالتعامل مع سؤال ما إذا كان من الممكن ربط الحالات العقلية بالحالات الدماغية، والمثال الثاني عن إشكالية حرية الإرادة والحتمية التي من الممكن معالجتها بالبدء بالسؤال: هل كان بإمكان الشخص أن يفعل خلاف ما فعله.

 

 

في حين أن إشكاليات الفلسفة وأسئلتها تختلف كثيرًا في موضوعها إلا أنها تتعلق باهتمامات إنسانية راسخة. إن ما يشكِّل المعرفة وما يفرقها عن الاعتقاد والرأي على سبيل المثال- يهمنا جميعًا وهو ليس بالأمر الهين لأن ادعاءات المعرفة دائمًا ما تواجهنا. وهذا يمتد كذلك لجميع نطاقات اهتمامنا ومحاولاتنا لاكتشاف المعرفة عن العالم عن طريق العلم والدين والأدب والفن. ويمكن تطبيق نفس الفكرة فيما يتعلق بمجال الأخلاقيات والمجال القانوني. إن السؤال حول ما إذا كان يجدر بنا أن نحكم على تصرفات شخص حسب نيته أو حسب عواقب تصرفاته أو حسب معايير أخرى- له تأثير عميق في الأحكام التي نصدرها في حياتنا اليومية علاوة على تلك التي تصدر في الأجهزة الرسمية كالقانون مثلًا.

 

 

من المهم أن نتنبه إلى أن هذه الأمور لا تُسوَّى بمجرد التماس المعطيات أو استخدام أحد الأساليب العلمية. هذا لا يعني أن مثل هذه الوسائل ليست مناسبة، فمن المؤكد أن نتائج علم النفس وعلم الدماغ ذات صلة بإشكالية العقل والجسد مثلًا، ولكن لا يُحكم على تأثيرها دون الكثير من التحليل والجدل. وبالمثل فمن الممكن أن يكون لعدم التحديد الفيزيائي على المستوى الكمي تداعيات على التفكير في منابع الفعل الإنساني الحر، ولكن لا يوجد طريق مختصر من النظرية الفيزيائية إلى تسوية تلك الإشكالية الدائمة.

 

 

هذا لا يعني أن أي جواب جيد كالآخر. كما هو الحال في غير ذلك قد تكون أجوبتنا واضحة ومتبصرة أو مشوشة وبليدة. ومع ذلك فحتى عندما تصل أقوالٌ ما إلى مكانة الآراء المقبولة، فإنها تظل عرضة للتحدي لأن قبول الآراء التي اتفقت عليها الأجيال السابقة حول مثل هذه الإشكاليات الراسخة قد يعني التعايش مع أفكار عفى عليها الزمن. إن الرأي الذي كان مقبولًا على نطاق واسع بأن العقل هو كيان متميز ميتافيزيقيًّا عن الجسد أصبح محل نزاع على أقل تقدير، كما هو الحال مع الاعتقاد بأن البشر لديهم حرية التدخل في النسيج السببي للعالم كما لو أن هذا النسيج خارج عنهم في الأساس.

 

 

يقودنا هذا إلى حالتين تتطلَّب فيهما الإشكاليات والأسئلة الفلسفية عادةً ردًا. الأولى: تدعو إلى تحرٍّ مفاهيمي، فبصرف النظر عن الأسئلة المفاهيمية المباشرة الشائعة في الفلسفة، فإن الحاجة إلى الاستكشاف المفاهيمي تشمل خصوصًا المصطلحات التي تُطرَح فيها الإشكاليات والأسئلة الفلسفية. نحن بحاجة إلى أن نكون واضحين بشأن ما نفهمه عن (العقل) أو الحالات والعمليات العقلية حتى نقدِّم براهين تعضد إشكالية العقل والجسد. أما فيما يتعلق بالاقتراح القائل بأن اللاحتمية الكمية (quantum indeterminacy) قد تساعدنا في حل مسألة حرية الإرادة والحتمية (freewill and determinism)، فما مدى وضوح مفهوم الاختيار الحر لفعل شيءٍ ما بناءً على فهمنا لشروط الاحتمية (indeterminacy)؟ ما لم تكن المصطلحات التي نطرح بها أسئلتنا وإشكالياتنا مضبوطة من الناحية المفاهيمية فلن نتمكن من تحقيق تقدم كبير.

 

 

والشيء الآخر الذي تتطلَّبه الإشكاليات والأسئلة الفلسفية عادة هو القدر الكبير من التعليل الدقيق. إن تتبع مضامين النظريات والاقتراحات لمعرفة مدى نجاحها يُعَدُّ مسألة تقصٍّ منهجي ويُعَدُّ بنفس القدر مسألة تساؤل علمي. فعلى سبيل المثال، إن الادعاء بأن الوعي قد يكون عملية فسيولوجية تحدث في الدماغ يحتاج إلى مواجهة الاعتراضات الواردة في قدر كبير من المؤلفات. ويتطلَّب تقديم حجة مقنعة حول تدعيم مبدأ عدم التحديد الكمي لمسألة حرية الفعل- حججًا دقيقة من النظرية الفيزيائية عبر علم النفس الفسيولوجي وما نعرفه عن منابع الفعل الإنساني.

 

فطبقًا لما ذُكر يجب ألا يكون مفاجئًا أن الفلسفة قد قدمت الكثير لتعزيز هاتين الوسيلتين للاستقصاء. إن الاستكشاف المفاهيمي قديم قِدَم محاورات أفلاطون (Plato’s Dialogues)، في حين أن الاهتمام المنهجي بالتعليل يعود إلى أرسطو. لقد نمت هذه الوسائل عبر تاريخ الفلسفة وأصبحت أدواتًا مفاهيمية ومنطقية لها تطبيق واسع النطاق ليس محصورًا في الفلسفة. وهذه نقطة ذات أهمية خاصة، ومن وجهة نظري فإن فائدتها واسعة النطاق هي التي تمنحها قيمة خاصة عندما يتعلق الأمر بالتعليم العام. ففي نهاية المطاف لا يقتصر التعليم على اكتساب المعرفة بالموضوع فحسب، بل يتعلق بتعلم التفكير فيه. إنه تدريب عملي على تعلم كيفية استخدام أدوات الفكر للقيام بالمهمة التي وُجدت هذه الأدوات من أجلها.

 

على الرغم من أن استعمال هذه الأدوات واسع النطاق، فإن أفضل طريقة لاكتسابها هي الانخراط في التساؤل الفلسفي حيث يكون تطبيقها بارزًا. ومع الأخذ في الاعتبار ما قيل حول العلاقة بين الحوار ونمو التفكر الانعكاسي، يجب أن نركز على الحوار الفلسفي بالتحديد. هذه هي الطريقة لتنمية القدرات العامة للتفكير التي يمكن تطبيقها في المنهج الدراسي كاملًا.

 

قبل أن أواصل عليَّ توضيح المسلك المناسب في المسائل الفلسفية. كنت أركز على طبيعة الإشكاليات والأسئلة الفلسفية في حين كان التساؤل الفلسفي يعتمد معاملتها بطريقة فلسفية. ففي النهاية، من الممكن انتهاج سلوك مختلف تجاه أنواع الإشكاليات والأسئلة التي تتعامل معها الفلسفة. فيمكن للمرء أن يَعُدَّ مثل هذه الأمور قد أُجيبَت بالرجوع إلى جهة مسؤولة على سبيل المثال. قد يعني ذلك الرجوع إلى الآراء السائدة أو الهدي الديني أو القيم العائلية أو المعلم للبحث عن (الإجابة الصحيحة)، ويختلف ما نرجع إليه باختلاف المسألة.

 

انتهاج سلوك فلسفي في بعض الأمور يكون مناسبًا عندما يمكِّنُنَا ذلك من فهمها كما يجب، أي بصفتها مفتوحة للحوار ولتطبيق المنهج الفلسفي. وفي حين أن إشكاليات وأسئلة أخرى تستدعي تعاملًا مختلفًا (كالمجالات العلمية والجمالية)، فإن معرفة متى يجب انتهاج تعامل فلسفي هي في المقام الأول مسألة قدرة على التعرف إلى الإشكاليات والأسئلة الفلسفية عبر الصفات المذكورة أعلاه.

 

 

التطبيق في الصفوف الدراسية

 من الأفضل وضع أدوات التساؤل الفلسفي في سياق استخدامها من أجل فهم كيفية عملها. ويعني لنا هذا الحوار الفلسفي في الصف الدراسي. يجب علينا أن لا نغفل عن الصيغة الأصلية لأي حوار أيًّا كانت التعقيدات والفوضى التي قد تطفو على سطحه. لنلقي نظرة موجزة ونحدد خطوات عملية الحوار والوسائل المستخدمة في كل مرحلة فيه:

 

يقول جون ديوي إن التساؤل يبدأ (بصعوبة محسوسة) تنشأ من حالة إشكالية، سواء أفي الحياة اليومية كان أم في المساعي الفكرية (Dewey, 1991)[1]. مهما كان موضوع الحوار في الصف الدراسي، فمن المرجح أن يتطلَّب ذلك من المعلم عرض بعض المواد المثيرة المناسبة. وهذا يعني مادة تقوم بأشكلة مسألة ما في المنهج الدراسي بهدف إثارة (الصعوبة المحسوسة) felt difficulty)) التي يتكلم عنها ديوي من أجل تحفيز التساؤل.

 

[1] إن تفسير ديوي للتساؤل في كتابه (كيف نفكر؟) هو إعادة صياغة لفهمه للتساؤل العلمي، وهو موجه للمعلمين. ومقالي نفسه إعادة صياغة لأغراض الحوار الفلسفي في الصف الدراسي لديوي. لإلقاء نظرة عامة على نموذج ديوي، اطلع خصوصًا على الصفحات (72 – 78) من كتاب (كيف نفكر).

(How We Think).

 

الإشكالية أو القضية شيء وصياغتها شيء آخر. بعد الوعي بأن هناك ما يستحق النظر فيه فإن الخطوة الأولى في التعامل معه هي تحديد طبيعة الإشكالية أو معرفة ماهية موضوع القضية. ففي نهاية المطاف نحن بحاجة إلى معرفة ما الذي نتساءل عنه. إن الفشل في فهم طبيعة الإشكالية أو رؤية ماهية موضوع القضية هي طريقة أكيدة لارتكاب الأخطاء. وبصرف النظر عن كون الطلاب جزءًا لا يتجزأ من التساؤل فمن المهم أن يكونوا قادرين على تحديد المشكلات بأنفسهم وألَّا يصبح المعلمون والكتب هم المحددون الدائمون لها كما لو أنها تأتي جاهزة من خارج الحدود المصطنعة للصف الدراسي.كما ذكرنا سابقًا فإن الطريقة النموذجية لبدء التساؤل عن إشكالية أو قضية هي معرفة ما يجب السؤال عنه من أجل التعامل معه. مثل هذه الأسئلة تكون بحثًا في نطاق المشكلة، ولذلك فإن طرح الأسئلة وترتيبها جيدًا هو جزء من تحديد محاور الحوار في الصف الدراسي.

 

 

الأسئلة تتطلَّب إجابات، ولكن ليس بطريقة الأسئلة التي يطرحها المعلمون عادةً. واحد من الأسباب هو أنه يجب البحث عن الإجابات بين الاحتمالات التي تطرح نفسها. وهذا يعني أن محاولات الطلاب المبدئية للإجابة عن الأسئلة التي تشكِّل إطار تساؤلاتهم يجب أن يُنظر إليها على أنها اقتراحات وليست إجابات. يمكن أن تظهر الاقتراحات في صيغ عديدة: فكرة مطروحة أو تعبير عن رأي أو تقديم مبادرة أو تشكيل فرضية. قد نتوصل إلى اقتراحات فورًا أو بعد معاينة المعطيات ونحن نلاحظ الأشياء التي قد تساعدنا في مسعانا.  وحتى عندما ننتقل مباشرة من سؤال إلى اقتراح هناك أسباب موجودة في خلفية الموضوع. فالطلاب الذين يقومون بانتقال مباشر من هذا النوع يُتوقع أن يُطلب منهم ذكر أسباب لدعم ما يقولونه. بمعنى آخر فإنه من المفترض أن الطالب قد استوعب مسبقًا بعض المعطيات أو سمات القضية ووضعها في عين الاعتبار عند تقديم الاقتراح.

 

وهذا يقودنا إلى العملية المعقدة للتعليل والتحليل. تهدف هذه الأنشطة في النهاية إلى تقويم الاقتراحات بتحليل الأفكار والتدقيق في الافتراضات واستخلاص المضامين وإثارة الأمثلة المضادة وتقديم أدلة جديدة لتدعيمها. معظم أدوات التساؤل الفلسفي حاضرة هنا. فيتضمن التعليل كلًا من عمليتي الاستنتاج وبناء الحجة وتقويمها، أما التحليل فيشمل مجموعة كاملة من العمليات بدءًا من التصنيف والتمييز والتعريف مرورًا بالمقارنة والتباين وصولًا إلى استكشاف المعايير التي تحكم تطبيق المفاهيم المعقدة. إن التعقيد الذي ينطوي عليه استكشاف الاقتراحات وتقويمها يرجع جزئيًّا إلى أنها لا تكون عادةً تسلسلًا متدرجًا من خطوة واحدة، ومن المرجح أنه عند تعقب العملية سنجد أننا نتقدَّم إلى الأمام ثم نخطو إلى الوراء عندما تواجه الاقتراحات صعوبات وتُقَدَّم اقتراحات أخرى، أو عندما نتداول حول مزايا وجهات النظر المتنافسة. يمكن أيضًا أن توجد تساؤلات داخل التساؤلات مما يزيد من التعقيد، ومع ذلك فإن نفس العملية تتكرر مثلما تتكرر أنماط الزخارف أو الكسيريات.

 

 

قد تظهر نتائج التساؤل الفلسفي في الصف الدراسي في صيغ عديدة: فبعد أن نفاضل بين الاقتراحات المتنافسة قد نتوصل إلى حكم حاسم، وفي حالة مغايرة قد لا نجد استنتاجًا متفقًا عليه وإنما سنجد تَقدُّمًا نحو هذا الاستنتاج. قد يكون السبب هو أن فهمنا للقضية تحسَّن أو أننا أدركنا عدم معرفتنا لما اعتقدنا معرفته، فإن الاكتشاف السقراطي للجهل يمكن أن يكون بداية للحكمة.

 

 

على الرغم من أن التفكير النقدي والإبداعي يتكرران في أثناء تحرٍّ مثل هذا، فإننا قد نَعُدُّ المرحلة الأولى (بما في ذلك تقديم الاقتراحات) إبداعية في الغالب، على حين نَعُدُّ المرحلة الثانية (التي تتضمن التوصل إلى استنتاجات عبر عملية التعليل والتحليل) مرحلة نقدية. لذا فإن المواد المثيرة الناجحة من المرجح أن تُشرِك الخيال وتحفز الأفكار والمشاعر التي تدلنا على القضايا والإشكاليات وتبدأ في إثارة الأسئلة في أذهاننا. فإن هذه المواد إبداعية في أثرها أكثر من كونها نقدية، ويستمر حضورها وقتما تتبادر إلى أذهاننا اقتراحات أو عند العصف الذهني. وفي المقابل فإن تعليل التداعيات المنطقية لقضية ما أو إيجاد براهين تدعم اقتراحًا ما أو لضرب مثال مضاد لادعاء ما- يُعَدُّ أمرًا نقديًّا كما هو الحال مع التصنيف والتمييز والتعريف والمقارنة التحليلية على سبيل المثال.

 

لا أنوي المبالغة في تقسيم التساؤل إلى جانبين: إبداعي ونقدي. في الفلسفة لا يتم التفكير النقدي دون التفكير الإبداعي ولا يتم التفكير الإبداعي دون التفكير النقدي، لأن للعمل الفلسفي وجهان (وجه نقدي وآخر إبداعي). يتطلَّب التعبير عن بعض الأفكار على سبيل المثال الاختيار النقدي للمفردات، وربما التصحيح الذاتي في أثناء العملية، فعلى الرغم من كون هذا الفعل إبداعيًّا في مضمونه، فإنه يتضمن مراقبة نقدية. وبالمثل حتى فيما هو واضح أنه نقدي (مثل إقامة الحجة على ادعاء ما) يشمل الفعل بناء الحجة الذي هو عمل إبداعي.

 

تنمية أدوات التفكير داخل الصف الدراسي

 

 فيما يلي سأحاول توضيح جوانب المخطط الذي قدمته في القسم السابق، وسأقتصر على مواضيع: الأسئلة والاستفهام – التعليل – الاستكشاف المفاهيمي. في حين أنه يسعني قول الكثير عن الوسائل التي تُستخدم في مراحل التساؤل الأخرى، فإن تحديد هذه المجالات الثلاثة يسمح لي بالتركيز على أهم أدوات التفكير التي سيكتسبها الطلاب.

 

 

أسئلة واستفهامات

 

دعونا نبدأ بالأسئلة حول إشكالية أو قضية تُعَدُّ محور الحوار: الكلمة إشكالية (problem) لها جذور في المصطلح اليوناني(πρόβλημα)  المكوَّن من (πρό)  التي تعني أمام، و(βᾰ ́λλω) التي تعني رمي. فيصبح المعنى الكلي أن الإشكالية ترمي شيئًا ما أمامك، فهي عائق أو عقبة يجب إزالتها. ومما يثير اهتمامًا خاصًّا كون الإشكالية في منطق أرسطو تظهر في صيغة السؤال عمَّا إذا كان التصريح صحيحًا، أي أن الإشكالية تطرح أمامك سؤالًا حول صدق أو كذب تصريح معين. ولنا أن نقول إن التصريح مُشكِل بما أنه موضع شك. فدعونا إذًا نتفكر في الإشكالية وكأنها ترمي أسئلة في طريقنا ويجب أن نحاول الإجابة عن هذه الأسئلة إذا أردنا أن نعالجها معالجة صحيحة.

 

لقد أوردتُ سابقًا بعض الملاحظات حول طبيعة الأسئلة الفلسفية ولكن اسمحوا لي أن أتناولها مرة أخرى من منظور الصف الدراسي. أولًا: تبحث الأسئلة الفلسفية عن أشياء تهمنا ولكن ليس لدينا إجابات محددة عنها. وهذا ما يجب أن يُطبَّق في الصف الدراسي إذا أردنا تشجيع التساؤل. وفي هذا الصدد، فهذه الأسئلة تقف على النقيض من جميع أسئلة المعلمين التي تفترض إجابات الطلاب الذين لا يستجيبون لها في كثير من الأحيان. ثانيًا: تدعو الأسئلة الفلسفية إلى البحث عن الإجابات فهي منفتحة على ردود مختلفة، وهذا يشجع التفكير الإبداعي والتبايني، ومراعاة وجهات النظر المختلفة في الصف الدراسي ومما يعزِز هذا كون التساؤل تعاونيًّا. ثالثًا: نحن ننظر إلى أنواع الأسئلة التي صُمِّمت أدوات الفلسفة من أجلها، فهي أسئلة تتنافس إجاباتها المحتملة لتسويغ نفسها باللجوء إلى التعليل والتحليل. فهي توفر فرصة ذهبية للطلاب في الصف الدراسي لتعلم تحليل الأفكار والتعليل جيدًا.

 

يجب ألا نفترض مقدرة الطلاب على صياغة مثل هذه الأسئلة دون تدريب، فهناك حاجة إلى التدخلات. قد يفيد الطلاب مثلًا أن يتعلموا التمييز بين الأسئلة حسب ما تتطلَّبه من ردود. قد يتضمن ذلك رؤية أن أحد الأسئلة يتطلَّب حوارًا في حين أنه من الأفضل معالجة سؤال آخر عن طريق استشارة مصدر موثوق، وقد يحتاج سؤال ما إلى معالجته عن طريق مزيج بين الأمرين (الحوار واستشارة مصدر موثوق). وفي بعض الأحيان يميز الطلاب أن إجابة سؤال ما مسألة تفضيل شخصي وأن الجدال حول الموضوع غير مناسب أو بلا جدوى. في الحالات التي تهمنا على وجه الخصوص يتعلق الأمر برؤية أنه لا إجابة كافية دون قضية معللة بتأن. إن تعلم طرح أسئلة جيدة هو إلى حد كبير مسألة تعلم عن طريق الممارسة، ولكن التمارين والأنشطة المصممة بعناية يمكن أن تضع الطلاب على الطريق الصحيح[2].

 

يقودنا هذا إلى أنواع الأسئلة التي ترتبط مباشرةً باستخدام مجموعة كاملة من الأدوات الفلسفية. لقد نظرنا حتى الآن في الأسئلة التي تحدد محاور التساؤل، ووجدنا أن قدرًا كبيرًا من الاستفهام ينشأ في أثناء التساؤل. وبما إن التساؤل بطبيعته صيغة من صيغ الاستفهام فهذه ليست بمفاجئة. تتضمن الأسئلة النموذجية في الصف الدراسي أسئلة كالتالي: ما الذي تقوله؟ لماذا تظن ذلك؟ ما الذي يُفترض أن يترتب على ذلك؟ ما نوع هذا الشيء؟ لماذا هو مختلف؟ هذه الأسئلة تتطلَّب منَّا أن نستخدم الأدوات المتاحة لنا للتفكير فيما يقال في هذه الحالات عن طريق التوضيح وذكر الأسباب والاستنتاج والتصنيف والتمييز.

 

[1] اطلع على الفصل الثاني من بحثي (التساؤل الفلسفي)/(philosophical inquiry)، للاطلاع على مناقشة تفصيلية للتساؤلات والتمارين والتدريبات لتنمية التساؤل الفلسفي. بخصوص متطلبات الاستجابة على وجه الخصوص اطلع على ص (17-20)، (43-4)، وبخصوص استخدام رباعي التساؤلات اطلع على ص (20-23)، (45-7).

 

في حين أن موضوع الفلسفة له قيمة جوهرية في تعليم الأطفال فإننا ننظر إليه هنا بعدسة النمو الإدراكي. بتشجيع مثل هذه الأسئلة باستمرار يصبح الحوار الفلسفي وسيلة مثالية لتنمية التفكير الإبداعي والناقد. وما دام المعلم قادرًا على توجيه الطلاب لاتخاذ الخطوات المناسبة في تفكيرهم بطرح مثل هذه الأسئلة، وتشجيع الطلاب على طرح المزيد من الأسئلة ومعالجتها مع استمرار الحوار، فلا أقدر أن آتي بوسيلة أفضل لتحقيق هذه الغاية.

 

ليس من الممكن في مثل هذا البحث الموجز تقديم وصف تفصيلي لجميع الأدوات الموجودة في جعبة الفيلسوف. أشرتُ سابقًا إلى أنني قد اخترت التركيز على الأدوات الأولية المستخدمة في الاستفهام والاستكشاف المفاهيمي والتعليل. ونحن ننتقل من مناقشة الأسئلة والاستفهام، أودُّ أن أقول شيئًا عن أسئلة (لماذا) وعن عملية ذكر الأسباب لأنهما أمران مهمان جدًّا للحوار الفلسفي في الصف الدراسي حتى أنهما يستحقان إفرادهما بالتركيز.

 

أسئلة (لماذا) تتطلَّب تعليلًا ويُعَدُّ تقديم التعليلات وفحصها جزءًا أساسيًّا من عملية التساؤل. بعض أسئلة (لماذا) تبحث عن تفسير على حين يبحث بعضها الآخر عن تسويغ. فالأسئلة من النوع الأول تدلُّ على البحث العلمي أما التي تسأل عن مسوِّغ فتدلُّ على الفلسفة. وفي أسئلة التسويغ علينا أن نميز بين الأنواع المختلفة من التسويغ فأحيانًا نبحث عن تسويغ لفعل ما أو لحالة مجتمعية وهو ما نسميه تسويغًا اجتماعيًّا وفي مناسبات أخرى نبحث عن أسباب لتسويغ تصريح أو ادعاء ما وهو ما نسميه تسويغًا منطقيًّا. إن أسئلة (لماذا) ذات التسويغ المنطقي هي التي تحظى باهتمام خاص هنا، فمحاولة تسويغ تصريح أو قول ما هي تعليل للأمر، وتعليل الافتراضات هو أساس التساؤل الفلسفي.

 

التعليل

 

دعونا نبدأ بإعمال النظر في التعليل من حيث عملياته الأساسية. مثلما أن الجمع والطرح هما العمليتان الأساسيتان في الحساب فإن التسويغ المنطقي الاستنتاج هما العمليتان الأساسيتان في التعليل. هنا مثال:

 

التسويغ: ليس من العدل أن تعطي بعض الناس فرصًا أكثر من غيرهم، لأن العدالة تعني حصول الجميع على نفس الفرص.

الاستنتاج: العدالة تنطوي على حصول كل شخص على نفس الفرص. إذًا ليس من العدل منح بعض الأشخاص فرصًا أكثر من غيرهم.

 

 

لقد وضعت خطًا تحت الكلمتين (لأن) و(إذًا) لتمييز هذه العمليات.[1] دعونا ننظر من كثب إلى ما تنطوي عليه هذه العمليات بدءًا من التسويغ المنطقي. من حيث الاستخدام اللغوي فالتسويغ المنطقي ينطوي على علاقات منطقية بين التصريحات حيث يُستخدم تصريح واحد أو أكثر لدعم تصريح آخر. من وجهة نظر إدراكية يتضمن التسويغ المنطقي علاقة بين الأحكام حيث يُستخدم حكم أو أكثر لتسويغ حكم آخر. أقول ذلك لأشير إلى أن إشراك الطلاب في التسويغ المنطقي يوسِّع انتباههم ليشمل العلاقات بين أحكامهم والتصريحات التي يصدرونها بعد أن كان مقتصرًا على العلاقات بين الأشياء التي يتحدثون عنها. وبهذا ينتبه الطلاب إلى تفكيرهم.

 

تنطبق ملاحظات مماثلة على الاستنتاج، فالاستنتاج يتضمن علاقات منطقية بين التصريحات حيث أن تصريحًا واحدًا وهو (النتيجة) يتبع تصريحًا آخر أو أكثر وهو (المقدمات). فيما يتعلق بالإدراك فإن الاستنتاج يتضمن حكمًا بقبول مقدماته فيتوجب علينا أن نقبل نتيجته. قد نقرُّ بالاستنتاج دون تأييد المقدمات بالطبع، ولكن عندما نحكم على المقدمات بأنها حقيقية، يكون لدينا ما يسمى حجة بدءًا من المقدمات وصولًا إلى النتيجة. وفي التسويغ المنطقي تمثِّل عمليتا الاستنتاج والحجاج تحوُّلًا من التفكير اللاواعي عن الموضوع ليتضمن الوعي بالعمليات المستخدمة في التفكير فيه. وإذا أردنا أن نستخدم كلمة أصبحت رائجة في التعليم فإن التحوُّل هو (ما فوق تفكيري).

 

[1] أوصي بالالتزام بهاتين الكلمتين في المراحل الأولى من الاهتمام بالتعليل. يفضل بعض معلمي الأطفال الصغار استخدام كلمة (لذلك) بدلًا من (إذًا) لتقديم عملية الاستنتاج، ولكن (لذلك) لها العديد من الاستخدامات، أليس كذلك؟ قد لا نستخدم المصطلحات مثل (التسويغ) و(الاستنتاج) مع الأطفال الصغار، ولكن يجب أن نميز بين هاتين العمليتين. إن تعليمات مثل: (اذكر سببًا) و(استنتج) ستكون كافية مع (لأن) و(إذًا).

 

وتتضح أهمية ذلك إذا شملت المقارنة الحساب. فنحن نجد أن الأطفال يضيفون للأشياء وينقصون منها قبل أن يتعلموا العد. إن التفكير في مثل هذه الأفعال من الناحية الحسابية ينطوي على تحوُّل (ما فوق تفكيري) حيث تُطبَّق العمليات الأساسية للجمع والطرح فيها بوعي. إن منفعة هذا التراكب الحسابي واضحة ونحن نبذل جهودًا مبكرة وشاملة لضمان أن يصبح الأطفال جيدين في الحساب. بنفس الطريقة ينتقل الأطفال من حكم إلى حكم ومن تصريح إلى تصريح دون التفكير في العلاقات المنطقية بين الأحكام أو التصريحات، والتدخل التربوي التعليمي ضروري لترسيخ إتقان التسويغ والاستنتاج. في حين أن أهمية القراءة المنطقية في الصف ليست أقل من القراءة الحسابية فيه إلا أنه من العار التعليمي أن جهودنا لم تكن متكافئة.

 

 

اسمحوا لي أن أشير إلى نقطتين أخريين في المقارنة مع العمليات الحسابية الأساسية. أولًا: كما أشار بياجيه منذ مدة طويلة فإن مثل هذه العمليات قابلة للعكس (Piaget, 1970). الجمع العددي له عكسه وهو الطرح العددي. قد نضيف على سبيل المثال 4 إلى 5 للحصول على 9، ثم نطرح 4 من 9 للعودة إلى 5. وبالمثل مع العمليات المنطقية: (س) لأن (ص) وعكسه في (ص) إذًا (س). ما عليك سوى تغيير العامل المنطقي من (لأن) إلى (إذًا) وعكس ترتيب التصريحات[1].

 

 

ثانيًا: العمليات الحسابية الأولية توجد ضمن أنظمة العمليات التي تميز الرياضيات. والمنطق لا يختلف عن ذلك، فعملياته تقع ضمن الأنظمة بدءًا من العمليات الأولية للتسويغ والاستنتاج (مثل تلك الموضحة هنا) وصولًا إلى حساب القضايا (Propositional Calculus) والمنطق القياسي وأشكال أخرى من حساب التفاضل والتكامل المسند ومنطق العلاقات وما إلى ذلك، وهذه لا يأتي عليها الطلاب إلا في مراحل التعليم العالي. وينطبق الشيء نفسه على الرياضيات بالطبع مع الاختلاف في أن الطلاب يتعلمون قدرًا كبيرًا من الرياضيات في المرحلتين الابتدائية والثانوية ولكنهم نادرًا ما يتعاملون مع المنطق، وهذا واضح!

 

للتسويغ والاستنتاج هيئات واستعمالات مختلفة في التساؤل. إن التعليل في شكله الاستدلالي التقليدي هو عملية الحفاظ على الحقيقة. الطريقة النموذجية للتعبير عن ذلك هي القول إن التعليل الاستدلالي الصحيح يضمن منطقيًّا صدق النتيجة نظرًا لصدق مقدماتها. من المستحيل منطقيًّا أن تكون المقدمات صادقة والنتيجة خاطئة. العمليات الاستدلالية تضمن نتائجها بشرط ألا تُرتكب الأخطاء كما يضمن الحساب النتيجة الصحيحة إذا لم ترتكب الأخطاء.

 

 

في حين أننا نستخدم الاستدلال في التساؤل الفلسفي إلا أن التساؤل الفلسفي في صيغته المنطقية العامة قد لا يتَّصف بأنه استدلالي. أحد الحجج حول ذلك: ما ذكره كارل بوبر (Popper, 2002) من أن التساؤل العلمي عبارة عن فرضية واختبار. لكي تكون الفرضية العلمية قابلة للاختبار يجب أن تكون قابلة للدحض لأنه (ولنرمز للشروط التجريبية بـ(ش) والفرضية بـ(ف)) إذا لم تتحقق الشروط التجريبية (ش) فسيثبت خطأ الفرضية (ف) عن طريق التعليل الاستدلالي. ولنوضح عمل التعليل: إذا كانت (ف) صحيحة فإن (ش) صحيحة. أم إذا لم تصح (ش) إذًا (ف) ليست صحيحة. وبطريقة أخرى، إذا نجحت (ف) في الاختبار فهي مقبولة حتى حين. الفلسفة ليست علمًا (أي علمًا تجريبيًّا) بالطبع ولكن قد يُجادَل في أنه يجب أن يُطبَّق نفس المنطق إذا أردنا التعامل مع أي مسائل جوهرية.

 

هذه الطريقة في النظر إلى التساؤل تضع تكوين الفرضية واختيارها خارج إطاره المنطقي. ولكن قبل قبول فعل ذلك يجب أن نتأمل كيفية تكوين الفرضيات واختيارها. من المؤكد أن هذا سيكون مربكًا، ولكن لنمثِّل ذلك بعمل المحقق على سبيل الجدل: تَفَحُصُ مسرح الجريمة والتحقيق مع الشهود قد يمدنا بأدلة عمَّن تبيَّن أنهم متهمون حتى نتحرى عنهم. هنا تتجمع الأدلة حتى تكوِّن حالة ظرفية لهوية مرتكب الجريمة ولكنها ليست بالضرورة إثباتًا. إن التوصل إلى استنتاج من الأدلة حتى نفترض بأن (س) هو مرتكب الجريمة كاف للاستمرار في القضية ولكنه ليس يقينًا منطقيًّا. فالاستنتاج هو ما ندعوه استقراءً[2].

 

[1]  بالمناسبة في حين أن طلاب المرحلة الثانوية على دراية بأن (∴) اختصار لـ(إذًا) فإنهم من غير المرجح أن يعرفوا أن (∵) اختصار لـ(لأن). وهذا يجعل رمزًا معكوسًا للرمز الآخر. يبدو أن الذين ابتكروا هذا الترتيب كانوا على دراية بالذي كانوا يفعلونه.

 

[2] تساؤلات إضافية في الفرضية عن (س) قد تظهر في صيغة الاستدلال المذكور في الأعلى. في حالة إذا كان (س) مرتكب الجريمة فهذا يعني صحة (ش). إذا أظهرت تحقيقات إضافية أن (ش) ليست صحيحة فإذًا يشطب (س) من قائمة المتهمين.

 

واسترشادًا بهذا نقول إن التساؤل له ناحيتان: استدلالية واستقرائية[1]. على الرغم من أنني لا أستطيع أن أحاجج عن هذه القضية أكثر من ذلك، فلنطبِّق هذا النمط في التساؤل الفلسفي في أشهر صيغه. من المهم أن نلاحظ أن هذا الإطار العام يتيح لحركات التعليل الاستدلالي والاستقرائي المجال للحدوث. تُعرف الحركة الاستدلالية التي ذُكِرَت فيما يتعلق ببوبر (Popper) باسم قانون نفي الاستلزام (modus tollens)، وهي ليست سوى حركة واحدة بين العديد من الحركات التي قد تحدث ضمن أنظمة المنطق الأولية. ويجب علينا ألا نغفل عن استخدام التعليل الاستدلالي في توظيف أدوات ذات أغراض خاصة مثل الأمثلة المضادة والشروط الكافية اللازمة.

 

فيما يتعلق بالعمليات الاستقرائية فلنتأمل الحجج عبر هذا المجاز التناظري. قد يُجادَل مثلًا أن تعلم التفكير الجيد ينطوي على اكتساب المهارات كما هو الحال في تعلم مهنة ما. فكما تتطلَّب البراعة في مهنة ما أن تتعلم أدواتها تتطلَّب إجادة التفكير تعلم أدواته. كيف من المفترض أن تصلح هذه الحجة؟ من حقيقة أن الحالتين متشابهتان إلى حد كبير في نقطة (اكتساب المهارة)، وأن اكتساب المهارة يعني (التمكن من أدوات المهنة) فإنه يُستنتج أن الحالة الأخرى سوف تظهر تلك الميزة أيضًا (البراعة في استخدام أدوات التفكير). الحجة إيحائية، وكونهما يشتركان في ميزة واحدة لا يثبت ذلك أنهما يشتركان في الأخرى. إذا حصل ذلك فهذا ليس من باب الضرورة المنطقية، ومن الواضح أن حجة كهذه تتضمن استنتاجًا استقرائيًّا[2].

 

مرة أخرى فكر في التجارب الفكرية. إنها أداة جدلية تطلب منَّا تخيل سيناريو أو حالة والتوصل إلى نتيجة منطقية منها. إن نقاش جون لوك حول الهوية الشخصية هو أحب الأمثلة إلي. يطلب منا لوك أن نتخيل روح أمير سكنت جسد الإسكافي الذي قد خرجت روحه الساعة. هل الموجود الآن هو الأمير؟ أم هل هو الإسكافي؟ يراهن لوك أنك ستختار الأمير وهكذا تصل إلى نفس نتيجته[3]. يعجبني هذا المثال تحديدًا لأنه يذكرني بحكاية الأمير الضفدع الخيالية لأنني أراهن أن القراء اليافعين سيوافقون لوك. لا توجد إشارة إلى الاستدلال هنا.

 

ليس لدي متسع لأسهب في الحديث عن التعليل لكن لدينا الآن مجموعة معتبرة من عمليات التعليل وأدواته المستخدمة في الصف الدراسي: العمليات الأساسية للتسويغ المنطقي والاستنتاج – التعليل الاستدلالي – التعليل الاستقرائي – الأمثلة المضادة – الشروط الضرورية الكافية – الحجة من المجاز التناظري – التجارب الفكرية. إذا تمكن الطلاب من اكتساب دربة أولية على الأقل، فهذا يعني أنهم اقتربوا كثيرًا من الإيفاء بوعد الفلسفة في المدارس بتحسين التعليم المدرسي[4].

 

الاستكشاف المفاهيمي

 

كما فعلنا مع التعليل دعونا نستخلص العمليات المتعلقة بالاستكشاف المفاهيمي التي نُقسِّمها إلى عمليات فئوية ومُقارنة. تشمل العمليات الفئوية أشياء مثل: التصنيفات والتقسيمات – المعارضة المفاهيمية – التمييز الفئوي – بناء الاستعارة. وتشمل العمليات المُقارنة: عمليات مقارنات الجودة ومقارنات الكمية – الترتيب – وإجراء الفروق المقارنة – استخلاص المجاز التناظري[5].

 

دعونا نبدأ بالتصنيف والتقسيم. لتصنيف شيء فهذا يعني وضعه في فئة. فقول إن سندريلا امرأة شابة يعني وضعها في فئة النساء الشابات، وهي أيضًا شخصية خيالية بالطبع وهذا يضعها في فئة مختلفة تمامًا تكون فيها جنبًا إلى جنب مع (الذئب الشرير الكبير) و(جعيدان). وبالمثل قول إن الوعي هو حالة من حالات الدماغ تمثِّل خروجًا كبيرًا في التصنيف عن وجهة النظر التقليدية التي تعتبره حالة من حالات الروح.

 

[1] للاطلاع على وجهة النظر هذه حول منطق التساؤل، اطلع على ديوي (Dewey, 1938)، الفصل XXI.

 

[2] بطريقة ما لتحليل الحجة فهي تتضمن خطوة استدلالية. للحصول على تقرير تمهيدي عن تحليل الحجج من المجاز التناظري اطلع على التساؤل الفلسفي (Philosophical Inquiry, 2020) ص (5-124)

 

[3] اطلع على جون لوك، مقال عن فهم الإنسان (Lock, An Essay Concerning Human Understanding) فصل 27، قسم 15.

هذه التجربة الفكرية ليست في الحقيقة حجة قائمة بذاتها عند لوك. فهو يستخدمها لتقديم حجة للتمييز على حد تعبيره: “نفس الرجل من نفس الشخص”.

 

[4] للحصول على تقرير مفصل لهذه الأدوات وغيرها من أدوات التعليل بالإضافة إلى التمارين المصاحبة لها، اطلع على التساؤل الفلسفي

(Philosophical Inquiry) الفصل 4. اطلع أيضًا على كتابي أدوات التفكير العشرين (Twenty Thinking Tools, 2006).

 

[5] إن وجود علاقة بين عمليات المفاهيم الفئوية والتعليل الاستدلالي، ووجود علاقة بين العمليات المقارنة والتعليل الاستقرائي- حقيقة مهمة ومثيرة للاهتمام. ولسوء الحظ ليس لدينا مساحة لاستكشاف ذلك هنا. للحصول على تقرير مفصل للعمليات المفاهيمية والتمارين والأنشطة المتعلقة بها في الصف الدراسي اطلع على التساؤل الفلسفي، (Philosophical Inquiry)، الفصل 3.

 

التقسيم يتضمن تقسيم الأشياء من نوع معين إلى أنواع فرعية مختلفة كما هو الحال في تقسيم أدوات المائدة إلى سكاكين وشوك وملاعق، وتقسيم العقل إلى مداركه المختلفة. وبالمثل تُقسَّم النظريات الأخلاقية تبعًا لما إذا كانت مبنية على الفعل أو الفضيلة.

 

يعترف كل من التقسيم والتصنيف عامة بالتسلسل الهرمي للطبقات، لذا تُقسَّم فئة الملاعق مثلًا إلى ملاعق كبيرة وملاعق حلوى وملاعق صغيرة، تمامًا كما تُقسَّم النظريات الأخلاقية المبنية على الفعل إلى تلك التي هي غائية وتلك التي تُعنى بأخلاق الواجب.

 

للتوضيح نعود مرة أخرى للمقارنة مع الجمع والطرح، فتجميع الأشياء وتفريقها يُكوِّن زوجًا من العمليات يشبه إلى حد كبير إضافة بعضها إلى بعض والأخذ منها.  عند ضبط عمليات التجميع والتفريق فإنها تكون عمليات مفاهيمية أساسية، وتكون إجراءات الإضافة والطرح عملية حسابية أساسية. الأولى لا غنى عنها في تعلم التفكير المفاهيمي كما لا غنى عن الثانية في تعلم التفكير الرياضي.

 

ومن الجدير بالذكر أن التصنيف والتقسيم يشكلان أيضًا زوجًا من العمليات العكسية مثل الجمع والطرح أو التسويغ المنطقي والاستنتاج. قد نقسِّم الملاعق مثلًا إلى أنواع مختلفة ثم نجمعها معًا مرة أخرى تحت مسمى الملاعق، وقد نقسم النظرية الأخلاقية ثم نجزِّئ هذه الأقسام إلى أقسام ثانوية مختلفة ثم نصنفها كلها على أنها نظريات أخلاقية.

 

يحتاج الطلاب أن يتعلموا هذه العمليات منفصلة ومجتمعة أيضًا. فلنضرب مثالًا بالمعارضة المفاهيمية في استخدامها البسيط، فعندما نقول مثلًا إن السيء هو ضد الجيد فنحن نضع فئات متضادة، فإذا قلنا إن كونك طيبًا هو شيء جيد فهذا تصنيف لهذا السلوك بنفس الطريقة التي صنفنا بها سندريلا. كما يشمل ذلك الاستعارة. يقول جون لوك عن العقل في حالته الأولية التالي: «فلنفترض إذن أن العقل كما نقول ورقة بيضاء خالية من كل الخاصيات بلا أي أفكار». هنا يصنف العقل بحالته الأصلية على أنه لوحة بيضاء (tabula rasa)[1].

 

نمثِّل الآن بعملية التمييز للعمليات المجتمعة. تتضمن التمييزات الفئوية مزيجًا من التصنيف والتقسيم. من السهل التغاضي عن هذا المزيج لأن عملية التمييز تركز على الاختلافات أي على التقسيم، ومع ذلك فإن التمييز يعني تقسيم الأشياء ضمن فئة معينة، ولنوضح ذلك نبدأ أولًا بتصنيف الأشياء قبل تقسيمها. فعلى سبيل المثال إحدى الطرائق الواضحة للتمييز بين الخناجر والسيوف هي أن نقول إن الخنجر له نصل قصير في حين أن السيف نصله طويل. وبتفصيل أكثر فإن الخنجر هو سلاح ذو نصل مزدوج قصير في حين أن السيف هو سلاح ذو نصل مزدوج طويل. فنستطيع أن نقول إنهما ينتميان إلى فئة الأسلحة ذات النصل المزدوج (التصنيف) ويختلفان في كونهما ذوا نصل طويل أو قصير (التقسيم).

 

توضح عملية التمييز أن التصنيف والتقسيم هما اللبنتين الأساسيتين للعمليات الفئوية الأخرى. وهذا ينطبق على التعريف أيضًا، فيمكن أن نعرِّف الخنجر بأنه سلاح قصير ذو نصل مزدوج وبذلك نذكر الفئة التي ينتمي إليها: سلاح ذو نصل مزدوج، مع السمة التي تميزه عن الأشياء الأخرى في هذه الفئة: كونه قصيرًا. تشمل كل العمليات الفئوية التصنيف أو التقسيم أو مزيجًا من الاثنين.

 

لنتناول الآن بإيجاز عمليات المقارنة، وهي في أبسط صيغها تتعامل مع اختلافات في درجة صفات بعض الأشياء التي تُقارن بأخرى. وتقدم مقارنات الصفات أمثلة واضحة، فعلى سبيل المثال إذا قيل إن شخصًا أصدق من الآخر فسيُقارن في الدرجة التي يمتلك بها صفة معينة هي (الصدق). والمقارنات للكمية هي أيضًا على هذا النحو كما هو الحال عندما نقول إن ميشيل خذلتنا أقل من داني، أو عندما نقول إن السيوف اُستُخدِمَت أكثر من الخناجر في معارك العصور القديمة.

 

تتضمن المقارنات عمومًا علاقات ذات اتجاهين. فكر في الأمثلة المذكورة من منظور أكثر وأقل، فإذا كانت ميشيل قد خذلتنا أقل من داني فإن داني قد خذلنا أكثر من ميشيل. وإذا اُستُخدِمَت السيوف أكثر من الخناجر فإن استخدام الخناجر كان أقل من استخدام السيوف. وكذلك إذا كان أحد الأداءين أفضل من الآخر فالآخر أسوأ، وهكذا إذا كان اختيار فعل معين يُسعدنا أكثر من غيره، فإن ما سواه أقل إسعادًا لنا.

 

[1] مقالة عن الفهم الإنساني (An Essay Concerning Human Understanding) الكتاب الثاني، الفصل 1، قسم 2.

لو قيل إننا يجب أن نتصور العقل مثل الورقة البيضاء لكان لدينا بالطبع مجاز يُعَدُّ مقارنًا من الناحية المفاهيمية عوضًا عن أن يكون فئويًّا.

 

هذه العمليات المفاهيمية الأساسية قابلة للتكرار، ومثال ذلك عملية الترتيب. يختلف الطلاب في براعتهم في الرياضيات على سبيل المثال ولن يكون من الصعب على معلمهم ترتيب مجموعة مختارة حسب براعتهم بها. فالطالب (ب) أبرع من الطالب (أ) في الرياضيات، و(ج) أحذق بها من (ب)، ويتفوق الطالب (د) على (ج) فيها. إنما هذا تباين في قدراتهم، لكنه مما يُقاس بسهولة فلا تحتاج إلى النظر إلى أبعد من درجات نهاية العام في الرياضيات.

 

 

المقارنة العددية شائعة في العلوم الطبيعية كما تشيع المقارنة النوعية والقياس الكمي غير العددي في الفنون والعلوم الإنسانية. لذلك ليس مفاجئًا أن تغلب على عمليات المقارنة في الفلسفة المقارنة النوعية، وتقل العمليات الرياضية (العددية) حينما تكون المقارنة كمية. مثال واحد يكفي للتوضيح هنا: عندما يُعمل الفيلسوف النظر في مجال الأخلاق حول ما يجعل الفعل صحيحًا فمن المؤكد تقريبًا أنه سؤالٌ عن الخصائص أو الصفات التي يجب أن يتَّصف بها الفعل حتى ينطبق مفهوم الصحة عليه. فيقول جون ستيوارت مِيل (John Steward Mill) على سبيل المثال إن الفعل يكون صحيحًا بتحقيقه أعظم قدر من المنفعة، حيث يتصور أن (المنفعة) هي السعادة. وهذا يعني أن الفعل يجب أن يتَّصف بأنه يزيد السعادة وأن زيادته للسعادة أعظم من غيره.[1]  يُجمع بين النوعي والكمي غير العددي في هذا المفهوم. هذا المثال يتعلق خاصةً بالفرق بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية، لأن مِيل يتبع جيريمي بينثام (Jeremy Bentham) الذي حاول إعطاء (المنفعة) معالجة رياضية مع استعمال (utile) وحدةً لها. وبالقيام بذلك فقد حاول تحويل مفهوم فلسفي إلى مفهوم مناسب للعلوم الاجتماعية.

 

في حين أن بعض الفروق فئوية من الناحية المفاهيمية كما رأينا فإن بعضها الآخر يكون مقارنًا. فقد نشرح لطفل يافع مثلًا أن أنواع السلاحف تختلف بعضها عن بعض بالقول إن أحد الأنواع أصغر بكثير من الآخر. من الواضح هنا أن التمييز مقارن. فكان من الممكن أن نقول إن أحدهما صغير والآخر كبير بالطبع وهذا ما سيُعَدُّ فئويًّا. أذكر هذا لأننا غالبًا ما نواجه -إن أدركنا ذلك- خيارًا بين الأسلوب الفئوي وأسلوب المقارنة عند تصور الأشياء، وأحيانًا قد يصنع الخيار الذي نتخذه فرقًا. هذا أحد الأسباب العديدة للاهتمام بالمعرفة المفاهيمية.

 

قد تكون المجازات التناظرية ( آسرة مثل الاستعارات. من الشائع أن يُعجب الناس بمجاز تناظري يستمر في توجيه تفكيرهم على الرغم من أن أساسه لم يُفحص. ونميل إلى التدقيق في المجاز التناظري عندما يبدو غير ملائم. وعندما يتعلق الأمر بالاستكشاف المفاهيمي فإن التركيز على أساس المقارنات وسيلةٌ للتفكير الناقد والإبداعي. إن القدرة على تحليل مجاز تناظري وتحديد ملاءمته- مهارة تفكير ناقد سواء أفي دراسة الأدب أم في غيره، على حين أن الاستجابة لأسس المقارنات هي أساس للتفكير الإبداعي عندما يتعلق الأمر باستخدام الطلاب اللغة بطريقة مجازية.

 

نقطة أخيرة، إنه لمن الخطأ أن ندعك تتصور أن الاستكشاف المفاهيمي لا يتضمن سوى تطبيق يسير لعمليات فئوية ومقارنة، ولحل هذا سأتحدث عن المفاهيم المعقدة مثل الصداقة والعدالة والحرية. تختلف المعايير التي تحكم تطبيق هذه المفاهيم من حالة إلى أخرى حيث لا يربط بين الحالات إلا ما أسماه فيلسوف القرن العشرين لودفيغ فيتغنشتاين  (Ludwig Wittgenstein) التشابه العائلي. لصياغة ذلك بطريقة أخرى نستطيع أن نقول إن هذه المفاهيم لا تُحدَّد بواسطة مجموعة مشتركة من المعايير. فقد تكون بعض الحالات مناظرة تمامًا لحالات أخرى ولكن بعضها الآخر أقل تشابهًا وقد تكون اختلافاتها أهم مما هو مشترك بينها. هذا التعقيد يعني أن تطبيق المفهوم غالبًا ما يكون محل نزاع. نحن جميعًا على دراية بعدم اليقين وما هو خلافي في بعض الأحيان حول كون شخص ما صديقًا حقًّا أو كون بعض النتائج عادلة أو ما يعنيه أن تكون حرًّا. وينطبق الشيء نفسه على معظم المفاهيم التي تتناولها الفلسفة.

 

ملاحظات ختامية

 

لا يقتصر التساؤل والتعليل والاستكشاف المفاهيمي على الفلسفة، ولكن الأسئلة التي تتعامل معها الفلسفة واهتمامها الدقيق بالتعليل وأهمية الاستكشاف المفاهيمي فيما تقوم به يعني أن الفلسفة تجمع كل المكونات اللازمة لتعليم الطلاب التفكير الجيد بلغة عادية وبطريقة تميزها عن التخصصات الأخرى.

 

[1] مع أن كلمة (أعظم) هي صيغة تفضيل فإن الحديث عن (أعظم) سعادة ما يزال تصورًا مقارنًا. إن الفعل الذي ينتج أعظم سعادة هو الذي ينتج سعادة أعظم من كل الأفعال التي يمكن مقارنته بها.

 

ونحن نقرُّ كذلك بتفاوت الفلاسفة والتقاليد الفلسفية في العناية بما قمنا ببحثه. على سبيل المثال يرى البعض أن التساؤل الفلسفي يُعنى في المقام الأول بإثبات حقيقة الأشياء التي يبحث فيها، ويرى آخرون أنه معنيٌّ بتنمية الأفكار التي تعطي وجودنا معنى. من الواضح أن هذه الاختلافات تحدث فرقًا في نوع الخطاب الذي ينخرطون فيه. تغلب العناية بالاستكشاف المفاهيمي على الذين يَعُدُّون الفلسفة بحثًا عن المعنى، في حين تغلب العناية بالتعليل على الذين يبذلون أنفسهم للبحث عن الحقيقة. ومع ذلك وبغض النظر عن تنوع التساؤل الفلسفي وما يركز عليه، فهو يظلُّ مزيجًا مما عرضناه هنا.

 

بهذا يكتمل فحصنا للحوار الفلسفي في الصف الدراسي. أعي أن ما ذكرته حول هذا الموضوع ليس إلا نزرًا يسيرًا منه ولم أوفه حقه، لأن مقالًا واحدًا لا يكفي لذلك. ولهذا أُشجِّعكم أيها القرَّاء على متابعة العمل على هذه القضايا سواءً أفيما ذكرته من مؤلفات أم في مؤلفات أخرى تختارونها. وإذا تمَّ ذلك بنية استعمال ما توصَّلتم إليه في الممارسة في الصف الدراسي فسيكون لهذا الجهد أثر عظيم.

 

 

المراجع

 

Cam, P. (2006). Twenty Thinking Tools: Collaborative Inquiry for the Classroom. Melbourne: Australian Council for Educational Research.

Cam, P. (2020). Philosophical Inquiry: Combining the Tools of Philosophy with Inquiry-based Teaching and Learning. Lanham, MD: Rowman & Littlefield.

Dewey, J. (1938). Logic: The Theory of Inquiry. New York: Henry Holt and Company. Dewey, J. (1991). How We Think. Buffalo, NY: Prometheus Books.

Dewey, J. (2004). Some stages of logical thought. In Essays in Experimental Logic. Mineola, NY: Dover Publications.

Piaget, J. (1970). Genetic Epistemology. New York: Columbia University Press.
Plato, Theaetetus 190a. https://www.gutenberg.org/files/1726/1726-h/1726-h.htm
Popper, K. (2002). The Logic of Scientific Discovery. London: Routledge.
Vygotsky, L. S. (1978). Mind in Society: The Development of Higher Psychological Processes. Cambridge,

Mass: Harvard University Press.

حمل مقالة نموذج للحوار الفلسفي في الصف الدراسي