التفلسف مع الأطفال وقائع، أسئلة حية، رهانات ومقترحات

ميشال توزي

جامعة بول فاليري مونبلييه Université Paul Valéry-Montpellier 3

التوزيع الإلكتروني Cairn.info لمطابع جامعة فرنسا. © Presses Universitaires de France.

المصدر/ Tozzi, Michel. 2008,‘Faire philosopher les enfants constats, questions vives, enjeux et propositions’, Diogène, no.224, pp.60–73.

جميع الحقوق محفوظة لجميع البلدان.

ترجمت المقالة بعد الحصول على الإذن الخطي من المؤلف أو الناشر

“جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن المؤلف وليست مسؤولية معهد بصيرة أو دار بصيرة للنشر أو أي جهات أخرى متصلة بها من الجهات والهيئات الثقافية التنظيمية أو المانحة وغيرها”

ترجمة وتدقيق: يحياوي وهيبة

سبع نقاط محورية حول وضعية الفلسفة مع الأطفال في العالم

  1. تطورت ممارسات التفلسف مع الأطفال في مرحلة ما قبل المدرسة والمرحلة الابتدائية بشكل ملحوظ منذ سنة 1970، كما تهتم حوالي خمسون دولة حول العالم اليوم بهذه الممارسات، ويعد معهد تطوير الفلسفة من أجل الأطفال (Institute for the Advancement of Philosophy for Children) (IAPC) الذي أنشأ سنة 1974 في الولايات المتحدة الأمريكية من طرف الفيلسوف الأمريكي ماثيو ليبمان (Matthew Lipman) أقدم شبكة بحثية بالغة التأثير ، اهتمت بتطوير منهجية ثابتة تم الاشتغال على إرسائها تدرجياً من خلال البحوث التي قدمت حول فاعليتها ومجموعة البرامج التدريبة المقدمة في بعض الجامعات مع اختبارات وشهادات معتمدة؛ كما قامت، شبكة المجلس الدولي للبحث الفلسفي مع الأطفال (ICPIC) Council of Philosophical Inquiry with Children، التي تتقاطع اهتماماتها البحثية مع معهد ليبمان، بدمج تيارات أخرى بالتوازي مع منهجية ليبمان بداية من 1985، استجابة لمتطلبات التعددية الثقافية بالإضافة إلى توجيه مجموعة من الانتقادات للمحتوى.

يتم تعزيز هذه الممارسات من الناحية التربوية والمالية، من طرف المؤسسات العامة أو الخاصة، غالبا ما يقوم باحثون أكاديميون وأساتذة فلسفة بالتشجيع ومرافقة هذه الممارسات في الميدان، كجزء من بحوثهم أو تدريبات يشرفون عليها، وكأمثلة على ذلك نجد كلا من: ميشيل ساسفيل(Michel Sasseville) ، بيير ليبويس (Pierre Lebuis) وماري -فرنس دانيال (Marie France Daniel) في كيبيك، فيليب كام (Philip Cam) في أستراليا، والتر كوهان (Walter Koha) في البرازيل، دييغو أنطونيو بينيدا (Diego Antonio Pineda)  في كولومبيا، إيكهارد مارتنز  (Ekkehard Martens)، باربرا برونينج (Barbara Brüning) وباربرا ويبر  (Barbara Weber)في ألمانيا، دانييلا كامهي Daniela) (Camhy في النمسا، إيرين دي بويغ (Irene de Puig) وفيليكس غارسيا موريون (Félix García Moryon)  في إسبانيا، فرانسوا غاليشيه (François Galichet)، سيلفي كوفال (Sylvie Queval) وميشيل توزي(Michel Tozzi)  في فرنسا…)، قام هؤلاء الباحثون بإنشاء مراكز فلسفة للأطفال يشارك فيها ممارسون ومدربون، كما توجد جمعيات تم إنشاؤها من قبل أفراد تلقوا التدريب المناسب الذي حفزهم لإطلاق هذا النوع من الأنشطة في بلدانهم.

لعبت اللغة الإنجليزية دورا حاسما في نشر هذه المنهجية في بعض المناطق والبلدان التابعة للمستعمرات الإنجليزية السابقة لاسيما أفريقيا وآسيا وجنوب المحيط الهادئ، كما تم انتشارها في أمريكا الجنوبية باللغة الإسبانية (والبرتغالية في البرازيل)، بفضل العلاقات التي أقامتها بعض الجامعات في هذه البلدان مع معهد (IAPC) في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد فتحت المكسيك منذ1979المجال لهذه الممارسات، حيث لعبت شخصيات كاثوليكية إلى جانب الأكاديميين دورا هاما في هذه البلدان، كون الفلسفة على غرار الدين تشتغل على مسألة المعنى، وأن الفلسفة للأطفال يمكن أن تلعب دورا  في التحرر الفكري بالنسبة لأطفال الطبقات المحرومة، أما في كيبيك بكندا فقد انتشرت هذه المنهجية باللغة الفرنسية بداية من سنة 1980، ومن ثمة في عدة دول في أوروبا ، وقد تم ذلك غالبا من خلال دروس في الإيتيقا أو الأخلاق ، بالتنسيق مع فريق ماثيو ليبمان.

2. لعب الأنترنيت دورا مهما في ما يتعلق بانتشار هذه المبادرة في العالم، حيث تم تكوين فريق ذو بعد عالمي وجد في الشبكة الرقمية للويب الوسيلة المثلى للتنسيق ضمن مجموعة البحث والممارسة، على الرغم من بعد المسافات الجغرافية، من خلال تبادل معلومات حول كل ما يتعلق بالأدوات والممارسات، والتدريب والبحث؛ وعلى سبيل المثال نجد موقع pratiquesphilopratiquesphilo.free.fr في فرنسا، الذي مكّن من خلال قاعدة معطياته ورسائله الإخبارية، من تقديم الدعم المعنوي والملموس، في سياق فلسفي كان معاديا في البداية لهذه الممارسات في المدرسة الابتدائية، حيث قام في أول ندوة وطنية له عام 2001 بلمّ شمل عدد الممارسين المشتتين والمعزولين، يستجيب الإنترنت لمتطلبات هذا النوع من الهيكلة الشبكية، حيث يحول التسلسلات الهرمية إلى بناء أفقي يحرر التعبير والمبادرات، ويمكّن من تبادل الممارسات الصفية وتشكيل أعضاء الشبكة الجماعية.

3. لاحظنا هيمنة تيار ليبمان في الممارسات الصفية وفي التدريب حول العالم، ويمكن رد ذلك في جزء منه إلى أن الدول الأنجلوساكسونية لم تكن تمتلك تقليدا في تدريس الفلسفة قبل الجامعة[1]، على العكس من ألمانيا وفرنسا عل سبيل المثال، وفي الوقت الذي بدأ فيه الحديث عن تطوير مهارات التفكير لدى الأطفال، كانت منهجية ليبمان باللغة الإنجليزية جاهزة لتغطية الحاجة بالنسبة للمدارس الابتدائية الثانوية معا، بمنهج دراسي متكامل للأطفال والمعلمين.

مكّن الترويج لمنهجية ليبمان من فتح المجال لمجموعة من التعديلات وفق سياقات ثقافية مختلفة، بداية من نقل وترجمة أعماله وتقديم تأويلات مختلفة لها، وصولا إلى إنشاء محتوى تعليمي جديد مستوحى من منهجيته، بالإضافة إلى تطوير مقاربات جديدة مستوحاة من ممارسة الفلسفة مع الأطفال، حيث أنشأ GRUPIREPH(فريق تدريس والبحث لتدريس الفلسفة)، في كاتالونيا بإسبانيا، بقيادة إيرين دي بويج ، مناهج تعليمية متفرّدة باللسانين الكاتالوني والقشتالي، كما طور إيكهارد مارتنز في ألمانيا نموذجًا تعليميًا للتفلسف سماه ” الأصابع الخمسة ” مختلف عن نموذج عن ليبمان، أما في فرنسا فقد دعّم ميشيل توزي بحوثا حول تعليمية الفلسفة، وكذلك في ما يخض  «البيداغوجيا التشاركية/ التعاونية» لـسيليستين فرينيت Célestin Freinet  و«البيداغوجيا المؤسساتية» لـجان أوري( Jean Oury)  ، بهدف إعادة تحديد مفهوم وواقع مجموعة بحث، الذي أطلقت عليه تسمية «النقاش ذو المنحى الفلسفي »(DVP) من طرف جان تشارلز بيتييه (Jean-Charles Pettier) ، كما نجد أيضًا اتجاهات أخرى، كتلك المتعلقة بـ«الحوار الفلسفي السقراطي» لـليونارد نيلسون  (Leonard Nelson) مستوحى من التوليد الحواري السقراطي في محاورات أفلاطون، وهي ممارسة تطورت في البلدان الجرمانية بأوروبا، بالإضافة إلى بعض المقاربات الجديدة آخذة في التطور، كـ «ـورشة فيلو»الخاصة بـ”رابطة مجموعة دعم الدعم”   (AGSAS)التي وضع قواعدها عالم النفس التطوري والمحلل النفسي جاك ليفين ( Jacques Lévine) في فرنسا.

4. تكون هذه الممارسات، في الأغلب، مصحوبة بتدريب المعلمين الحاصلين على شهادات جامعية من بعض   البلدان، ونشاط بحثي أكاديمي ولقاءات على المستوى المحلي والدولي، ما فتح المجال لتنظيم مؤتمرات بشكل دوري ووضع مدونة هامة من المنشورات والأطروحات، ما يعد تجديدا معتبرا في المنظومة التعليمية، حيث يرى بعض الباحثين في هذه الممارسات فرصة مواتية للبحث في ميدان لا يزال خصبا محاط بالأسئلة مثيرة للجدل.

5. رغم ما عرفته هذه الممارسات الفلسفية من تطور بشكل عام، فإننا نلاحظ تفاوتا كبيرا عبر مختلف أنحاء العالم، فإن كانت حاضرة بقوة في بلدان أمريكا الشمالية وأوروبا وأستراليا، وفي بعض بلدان أمريكا الجنوبية والبلدان آسيوية، فإن حضورها يكاد لا يذكر في المدارس الابتدائية في أفريقيا كما أنها شبه غائبة في العالم العربي، كيف يمكن تفسير هذا التفاوت؟ هل يكون ذلك وفق غياب أو حضور التقليد الفلسفي وتدريس الفلسفة في بعض الدول؟ هل يعود هذا لتأثير تدريس الفلسفة على التوجه الديمقراطي أو الأيديولوجيا الرسمية؟ هل سببه هو وجود تعارض بين الاعتقاد والمعرفة/الإيمان والعقل، من عدمه؟ هل تعلق الأمر بالعقبة اللغوية ونقصد هنا اللغة الإنجليزية باعتبارها الموجه العالمي لهذه الممارسات؟ وبشكل أكثر عمومية، مدى قوة تقاليد ثقافية فلسفيا وبُعدها تاريخيا عن العقلانية الفلسفية الغربية كما في إفريقيا على سبيل المثال؟  فعلى الرغم من تأثير فرنسا في المستعمرات الإفريقية السابقة، حيث أرست تقليد تدريس الفلسفة، فإنه بقي مع ذلك مقتصرا على نهاية التعليم ثانوي، ما يشكل عائقا أمام إدراجه في وقت أبكر ضمن المنهج التعليمي.

6. تبقى ممارسة الفلسفة مع الأطفال،غالبا، خارج الإطار المؤسساتي، على الأقل تحت هذا التسمية، لأنه من الصعب تحديد “درجة الفلسفية” التي يمكن أن تتمظهر في دروس الإيتيقا أو الأخلاق أو المواطنة أو حتى الدين، الذي يمكن أن يكون على درجة كبيرة من الوعظ والزجر وإلزام تجاه القيم التي يتعين فرضها، كما هو حاصل مع درس «الأخلاق الغير طائفية» و«الامتحان الحر»، ومرافقة مسار تطوير «التفكير الذاتي» في بلجيكا.

لماذا هذا الغياب الرسمي؟ في الدول الناطقة بالإنجليزية لا تعبر الفلسفة الأسلوب المفضل في التربية على الديمقراطية، فعلى سبيل المقارنة نجد في كندا، حضورا للفلسفة في الجامعات في مقاطعة كيبيك الفرنكوفونية، بينما في المقاطعات كندا الأنجلوفونية تدرس العلوم الإنسانية بدلا من ذلك، وعلى العكس من ذلك في فرنسا هناك تقليد قوي لتدريس الفلسفة في المرحلة الثانوية وبينما يوجد تحفظا قويًا حول إدخالها في المدرسة الابتدائية.

7. نلاحظ بعض التطورات المثيرة للاهتمام بهذا الخصوص، تتمثل فيما يلي:

  • في بعض الحالات، لا تكون هذه الممارسات مؤسسية، ولكن يتم تشجيعها كمبادرات بشكل رسمي، كما هو الأمر في فرنسا وإنجلترا.
  • وفي بعض الأحيان، يقوم صانعو القرار الذين يرون أن هذه الممارسات مثيرة للاهتمام، باختبارها رسمياً بغرض تعميم محتمل بعد تقييم عام، كما هو الحال في النرويج.
  • وفي أماكن أخرى، تم إضفاء الطابع المؤسسي على هذه الممارسات من خلال ادراجها بشكل رسمي في النظام التعليمي (أستراليا والمكسيك).

أسئلة حية حول الفلسفة للأطفال ونظرياتها المرجعية

بعد هذا العرض التقييمي للوضع  العام، سأطرح عدد من الأسئلة الحية التي تفتح النقاش حول سجلات مختلفة.

  1. ما هي علاقة الفلسفة بالطفولة، والطفولة بالفلسفة؟

اختلف الفلاسفة حول هذه القضية، بين أولئك الذين يعتبرون أن الطفل “فيلسوف بشكل عفوي” ، من خلال تساؤله الجذري(كارل كارل ياسبرز Karl Jaspers ، ميشيل أونفراي Michel Onfray ) فبالنسبة لهم التفلسف هو أن نضع أنفسنا في مواجهة السؤال وكأنها المرة الأولى، وبين من يعتبرون أن هناك طفولة للفلسفة (الما قبل السقراطيون) ولكن ليس هناك طفل فيلسوف، لأن التفلسف هو خروج من الطفولة، وهذا يحيلنا إلى سؤال حول سن التفلسف، حيث يرى  البعض أن أفلاطون معارض للتفلسف مع الأطفال، بناءً على مقطع في كتابه الجمهورية[2]، ويذهب البعض الآخر إلى العكس من ذلك انطلاقا من حواراته مع المراهقين في كتابه ليسيس أو (حول الصداقة).

ما الطفل؟ هل هو الذي لم يصبح مراهقا بعد؟ هل هو الذي لم يصبح راشدا بعد؟ هل يتعلق الأمر بالسن؟ وهل من سن محدد؟ هل هو متعلق بمسألة نظرة إلى العالم بالقدرة المعرفية (بياجيه)، النضج الجسدي التكوين الزمني والاجتماعي، بامتلاك حقوق معينة؟ ما علاقة الطفولة بالفلسفة؟ هل تكمن في تساؤل الطفل بعمر الثلاث أو الأربع سنوات حول الموت، وتساؤلاته حول أصل الأشياء، العالم، الله، الصداقة والحب ومعنى أن يصير كبيرا؟ يعتبر أبيقور((Épicure أنه ليس من السابق لأوانه أبدًا التفلسف؛ كما يذهب ميشيل دي مونتين (Michel de Montaigne) إلى حد القول إنه ينبغي أن نبدأ منذ مرحلة الطفولة المبكرة، على العكس مما يعتقده رونيه ديكارت (René Descartes)؛ تنطوي وجهة النظر التي تحث على ممارسة الفلسفة مع الأطفال، على تبعات مهمة: حيث أنه من منظور أخلاقي يتوجب من على البالغين، اعتبار الطفل الذي يصوغ سؤالا وجوديا “محاورا صالحا” كما يقول جاك ليفين ، رجلا صغيرا، كما عليهم المساهمة في بناء الإنسان في الطفل كموضوع تأملي يؤسس لـ”التفكير ذاتي”.

2. التعليم الفلسفي في الطفولة، هل هو أمر مرغوب فيه أخلاقيا؟

قد ينطوي حث الأطفال على التفكير ،من وجهة نظر نفسية، على مخاطرة: فلماذا نستحضر البعد التراجيدي للوجود، ونعمل على اخماد خيال الأطفال ببرودة العقل، وإزالة الغموض عن أحلامهم؟، يعيش الكثير من الأطفال أوضاع اجتماعية أو نفسية قاسية، ويطرحون جميعا مشكلة الموت في المرحلة من ثلاث إلى خمس سنوات من أعمارهم، نعم يمكن للأخصائيين النفسانيين مرافقتهم من خلال مساعدتهم على وضع كلمات لوصف معاناتهم، غير أن هناك الطريقة الفلسفية لفهم التجربة الوجودية، تمكّن الطفل من اتخاذ المسافة تجاه العواطف التي يشعر بها من خلال تحويلها إلى موضوع للتفكير، بإرجاعها إلى الوجود الإنساني المشترك، والمساعدة على النضج في كنف الإنسانية، هناك فضيلة علاجية للفلسفة، كونها “ترعى الروح” وتمكن نوعا من السكينة، لا يمكننا إطلاقا أن نُسكت التساؤل الوجودي للطفل كونه سؤال انسان بالنهاية، كما أن تقديم إجابة بدلا من الطفل تمنعه من أن يفكر بنفسه، لذلك من الضروري مرافقة الأطفال في رحلتهم، من خلال تطوير أدوات التفكير التي ستمكنهم من فهم العالم وإيجاد ذاتهم فيه.

3. التعليم الفلسفي في الطفولة، هل هو حق قانوني سياسي؟

هناك حضور للفلسفة السياسية في ممارسة الفلسفة مع الأطفال، حيث عمل ليبمان على ربط تعليم الفلسفة بشكل وثيق بالديمقراطية، حيث أن إيقاظ التفكير التأملي في الأطفال ضمن مجتمع التساؤل يمثل وسيلة للتربية على المواطنة المُفكرة، قد يرى البعض في ذلك استعمالاً أداتياً للفلسفة، على النقيض من تصور إيمنويل كانط (Immanuel Kant) للفيلسوف الديمقراطي الذي يستند على حقوق الإنسان وحقوق الطفل، ودريدا الذي يدعو إلى استئناف الحق في الفلسفة أو الحق في التفلسف.

4. التعليم الفلسفي للطفولة، هل ينطوي على إمكانات معرفية؟

ينطوي الأمر على البحث في هذه الإمكانية من المنظور النفسي، وهو ما يعترض عليه أولئك الذين يرون محدودية التطور المعرفي لدى الأطفال، وافتقارهم إلى النضج العقلي وإلى الخبرة في حياة، بالإضافة لإحاطتهم الضئيلة بمتطلبات التفكير المسبقة، غير أنه تجدر الإشارة إلى أن ليبمان نفسه اعتمد في كتابته لـ”رواياته الفلسفية”، على مراحل تطور التي وضعها بياجيه، وقام بتكيفها على ضوء ذلك مع كل مرحلة عمرية، كما أكد باحثون في علم النفس النمو أمثال ألبرت باندورا  Bandura)  (Albert على أن  الإمكانات المعرفية الطفل تتكون بشكل أبكر مما كنا نعتقد، حيث يطورون المهارات الخطاب، كما يؤكده فريديريك فرانسوا (Frédéric François)، منذ سن مبكرة انطلاقا من التجارب التي لديهم ،بفضل الخاصية الحجاجية للغة ، وأن بمكانهم التعبير عن هذه التجارب بالكلمات إذا اشتغلنا معهم على ذلك بطريقة المناسبة.

5. التعليم الفلسفي في الطفولة، فرضية لممارسة؟ هل يمكن أن تمثل فرضية للممارسة؟

وفقا لما يعرف بأثر بيجماليون «Pygmalion»  فإن فرص أن يفشل التلميذ تكون أكبر حين يشكّك المعلمون في قدراته على النجاح، والعكس صحيح، لأن المعلم في هذه الحالة سيفعل كل ما في وسعه، من الناحية البيداغوجية، لينجح التلميذ، الذي يتعزز احترام الذات لديه ويزيد من تحفيزه شعوره بثقة المعلم فيه، وعليه فلا يمكننا الحكم نظريا على هذه الممارسة، لأنه ما دمنا لم ننظم مناقشات فإن التلاميذ لن يتعلموا كيفية المناقشة، كما سيتعلمون التساؤل، المفهمة والمحاججة ضمن «مجموعة بحث» ، بناءً على  تصور أن مهارات التفلسف أمر قابل للتعلم، لقد قّللنا، حتى هذه اللحظة، من شأن الإمكانات التفكرية للأطفال، وذلك راجع بكل بساطة لأننا لم نأخذ بفرضية إمكانية تعليمهم الفلسفي.

6. بخصوص التحدي الذي قد يواجه الطلاب الذين يعانون من صعوبات التعلّم أو الفشل الدراسي.

توجد تحفظات بخصوص الطلاب الذين يواجهون صعوبات التعلّم مفادها: كيف يمكن للطفل أن يفكر إذا كان يعاني من مشكلة إجادة اللغة؟ وفي ذلك نقول أن اللغة ليست سابقة زمانيا على التفكير، بل يمكن العمل على تنميتهما بشكل تبادلي، بحيث أنه يمكن تطوير التفكير من خلال العمل على اللغة، كما  يمكن شحذ اللغة من خلال العمل على الفكر، لاسيما أن العمل الشفهي يمكّن من البدء في التفكير قبل تعلم الكتابة، أو مع الأطفال الذين من يعانون صعوبات في الكتابة، كما تلقى ممارسة الحوار الفلسفي صدى مع الطلاب اللذين يعانون من الفشل المدرسي، وهذا راجع إلى أنها تنشئ ديناميكية تبادل حول الأسئلة النابعة من معيش التلميذ، الذي يتمكن من خلال هذا النشاط التفكري من استعادة تقديره لذاته بخوض تجربة استرجاع الكرامة باعتباره كائن مفكر، والترميم النرجسي لجرح الوجود الذي لا شيء اطلاقا قادر على شفاءه كما يفعل التفكير، وبالنتيجة سيكون قادرا على تطوير لغة داخلية يفرق من خلالها بين الانفعالات والفعل، ويساعده على إجاد السكينة في علاقته بنفسه وبالآخرين.

7. مسألة البيداغوجيا/التربوية والديداكتيكية/التعليمية:

 كيف يمكننا تعليم هذا النشاط، جعله قابلاً للتعليم بالنسبة المعلمين وقابلا للتعلّم بالنسبة الطلاب، من منظور ديداكتيك تعلّم التفلسف؟

1.7 مسألة المناقشة:

يعد الحوار الأسلوب التعليمي الأكثر شيوعًا في المدرسة الابتدائية عبر أنحاء العالم، فهل يمكن اعتبار الحوار في تعليم الفلسفة الموجه للأطفال أمرا ضروريا راجعا إلى خصوصية الفلسفة في حد ذاتها؟ أم أنه أمر عرضي راجع إلى أسباب تاريخية أو نفسية؟ هل منهجية «مجتمع التساؤل» أو «المناقشة ذات المنحى فلسفي» هي مجرد منهجية لتعلم الفلسفة كغيرها؟ أم أنها تطور طبيعي للتفكير التفكيري المشروط بالمواجهة الغيرية المتجسدة كما يرى ليف فيجوتسكي Lev Vygotski)) ، والمواجهة مع «الذات كآخر» على حسب بول ريكور (Paul Ricœur)‏ ، ولــ «حوار الروح» مع نفسها” عند أفلاطون؟، والأهم من ذلك، هل هذا الحوار الشفهي هو أمر مشروع بالنظر إلى المكتوب من النصوص والمقالات؟، ينبغي الإشارة إلى أنه لا يكفي أن تكون المناقشة ديمقراطية لتمكّن من تعلّم التفلسف، حيث هناك حاجة إلى أخلاقيات مناقشة في “الفعل التواصلي” ومن رؤية للمعنى والحقيقة، كما يؤكد يورغن هابرماس ((Jürgen Habermas، حيث يكون المعلم هو المسؤول عن تحريك النقاش لتفعيل عمليات التفكير العقلاني، لتشكيل “الفكرة الناظمة ” والوصول إلى “الوضعية المثالية للحديث” والتي تكون بمثابة نقطة مرجعية للمعلمين…

2.7 مسألة دور المعلم:

في بداية الأمر تطرح قضية درجة تدخل المعلم لتوجيه التلاميذ، حيث تتعدد وجهات النظر في فرنسا بين ضرورة “التوجيه المبالغ فيه” لدى المحاور المولّد عند أوسكار برينيفييه (Oscar Brénifier)، إلى “انعدام التوجيه” عند جاك ليفين ، مرورا باستهداف عمليات التفكير عند ميشيل توزي ، ثم إنه من الضروري تحديد ما إذا كان يجب على المعلم التعبير عن مضمون أفكاره، ولعل أكثر المواقف شيوعا بهذا الخصوص هو الامتناع عن ذلك حتى لا يقع التلاميذ في الطلب الملّح للإجابة الصحيحة والسماح للمعلم التفكير بدلا عنهم، وعليه يتوجب على المعلم أن يطور ثقافة السؤال لديه ويعي ضرورة ضبط خطابه حتى لا يقوم بفرض وجهة نظره الخاصة، وهذا لا يمنع في  اعتقادنا، أن يتدخل المعلم من خلال أسئلته لتحقيق المطالب الفكرية التي تنبثق داخل مناقشة: كسؤال “لماذا” الذي يوصل إلى المحاججة، وسؤال ” كيف تعّرف ذلك؟” لبناء المفهمة.

3.7 مسألة تدريب المعلمين:

تواجه ممارسة الفلسفة مع الأطفال مفارقة تتمثل في التكوين الفلسفي الضعيف لمعلمي المدارس الابتدائية، وإن كان الجميع يتفق حول ضرورة التدريب، غير أن السؤال عن طبيعته يبقى مطروحا، هل يجب أن يكون هناك تدريب أكاديمي في الفلسفة بخصوص المضامين (المذاهب وتاريخ الفلسفة)، أو على التفلسف وممارسة فلسفية كـمنهج؟ بين أولئك الذين يؤكدون على إمكانية تعلم التفلسف بدون الفلاسفة ما يترتب عليه تقديم عمر التفلسف، وأولئك الذين يعتقدون أن تعلم التفلسف هو أولاً وقبل كل شيء السماح بالانبثاق التساؤل وصياغته، ومن ثمة مرافقته حتى يتم الاشتغال ضمن “مجموعة مفكرة” وبذلك يستمر النقاش المفعم، وتأجيل التعاطي مع الفلاسفة إلى وقت لاحق، حيث من المؤكد أن امتلاك الخلفية الفلسفية هو أمر مطلوب دائمًا، غير أن ما يهم أكثر، بالنسبة إلى ليبمان، هو القدرة على قيادة “مجتمع التساؤل”، وبالتالي التدريب البيداغوجي لتنشيط ورشة المناقشة من جهة، وديداكتيك لمعرفة كيفية التفلسف، من جهة أخرى.

بعض المقترحات للمستقبل

  1. أيُّ رهانات من أجل أيَّ قيم للفلسفة مع الأطفال؟

نواجه بهذا الخصوص ستة التحديات، تتمثل في:

ا) تعلم التفكير الذاتي: تطوير القدرة على التفلسف، في أبكر وقت ممكن لدى الأطفال والمراهقين، يضمن اليقظة الفكرية ويعزز التفكير التفكري حول الوجود الإنساني.

ب) التربية على “المواطنة المُفكرة”: تمثل نماذج «مجتمع التساؤل» (ليبمان)، أو «النقاش ذو المنحى الفلسفي»  شكلا من أشكال من النقاش بالنسبة لـجان تشارلز بيتييه (Jean-Charles Pettier)، وبما أنه لا توجد ديمقراطية بدون نقاش، فإن تعلم النقاش في المدرسة يضمن التربية من أجل المواطنة الديمقراطية، كما أن تعلم النقاش والتفلسف من خلال النقاش الفكري هما شرطان للتربية على «المواطنة المُفكرة»، بمعنى امتلاك روح المواجهة مع الآخرين بعقل مستنير يسعى للحقيقة، مع مراعاة المقتضيات الأخلاقية («أخلاقيات المناقشة» و« الفعل التواصلي» لـهابرماس) والفكرية ضمن النقاش الديمقراطي، إنها محاولة للتعبير عن المثال الأعلى الديمقراطي، المتجذر في حقوق الإنسان والمواطن والطفل، والعقل المحرر في دعوته للعالمية، يكمن التحدي هنا في اللقاء بين الطفولة والفلسفة والديمقراطية.

ج) المساعدة في تنشئة الطفل: إن تعلم التفكر مهم لبناء الشخصية، حيث يختبر الطفل من خلال هذه التجربة الكائن المفكر، «تجربة الكوجيتوcogito» على حد تعبير لجاك ليفين، التي تساعده على النمو في كنف البشرية، كما يخوض تجربة التحدث بالجرأة دون الإنخراط في معركة «النضال من أجل الاعتراف» كما يقول أكسيل هونيت (Axel Honneth)، ما يعزز احترام الذات، حيث يمكنه أن العيش، من خلال المناقشات مع أقرانه، التجربة النادرة للاختلاف المعرفي في ظل التعايش السلمي، مما يساهم في رفع سقف التسامح عنده ويحد من العنف.

د) شحذ الكفاءة اللغوية والشفوية و«المناقشة»: تولي الحديث من أجل التفكير يطوّر القدرات اللغوية، حيث تظهر اللغة، بالاشتراك مع الفكر، كأداة للتفكير في المناقشة ذات المنحى الفلسفي، فمن خلال الاشتغال على صياغة الفكر تظهر الحاجة إلى الضبط والتدقيق اللغوي.

هـ) مفهمة فعل التفلسف: من وجهة نظر فلسفية، تتطلب ممارسة التفكير مع الأطفال إعادة تعريف التفلسف، ومفهمة بداياته، وطبيعته وظروفه.

و) تأسيس ديداكتيك للفلسفة مناسب للأطفال: يصبح تعليم الفلسفة وتعلّم التفلسف محط تساؤل، لأنه من غير الممكن تدريس الفلسفة للأطفال كما تدرس للبالغين، من المحاضرات وكبريات النصوص أو المقالات.

2. أي إطار مؤسساتي لممارسة الفلسفة مع الأطفال؟

ا) ما هي المبادئ التي نتعامل من خلالها مع المشاكل الثقافية والما بين ثقافية ؟:ظهرت ممارسات الفلسفة مع الأطفال نحو 1970 في الولايات المتحدة، وهي تحمل في طياتها مجموعة خصائص التاريخية وجغرافية، بالإضافة إلى مجموعة من الفرضيات العلمية والنفسية، الفرضيات التربوية، التعليمية، الفلسفية، السياسية…التي تقوم عليها، بالنظر إلى ذلك تطرح مسألة تعميمها في مختلف أنحاء العالم، لا يتعلق الأمر بأي شكل من الأشكال بفرض نموذج ثقافي معين (الغربي والأمريكي) ضمن السياقات الثقافية المغايرة في الدول أخرى، غير أنه يمكننا الانطلاق من المبادئ التوجيهية التي وقعتها الدول في الاتفاقيات الدولية (حقوق الإنسان والطفل، وما إلى ذلك)، لتعزيز الممارسات التعليمية التي تذهب في اتجاه تنمية ثقافة التفكير النقدي، والحوار والسلام بين البشر والشعوب والدول، كما تطمح إليه منظمة اليونسكو، ونحن نفترض عالمية الحقوق وامكانية تكييفها مع مختلف الثقافات، ومن ثم وبالنظر إلى الحضور غير المتكافئ للممارسات الفلسفية في العالم جاء الاقتراح الداعي إلى وضع استراتيجية متنوعة.

 ب) تعزيز المبادرة داخل المؤسسة وخارجها: غالبًا ما يكون للممارسات الفلسفية طابع المبادرة غير المؤسساتي، الذي يشكل قطيعة مع التقليد التعليمي الموجود في بلد معين، ما يجعل هذه المبادرة تشكل دفعة لتجديد النظام التعليمي، حيث أن طابعها المحدود ضمن نطاق معين، يجعلها قادرة على تقديم ممارسة جديدة للتعاطي مع بعض المشكلات الخاصة، ما يمنح  متنفسا للنظام العام  الذي قد يواجه مجموعة من الصعوبات، بناءً عليه لذلك نوصي بالترويج لها حيث لم توجد بعد، وتشجيعها حيث توجد (كما هو الحال في فرنسا)، من خلال تخصيص المنح لدعمها والتعريف بها على نطاق واسع، كما  يمكن، في المناطق التي لا توجد أي ممارسة من هذا القبيل في الوقت الراهن، أن نبدأ بالعمل على الموروث الثقافي من الحكايات وأساطير على سبيل المثال، لحث الأطفال على التفكير حول ما تحمله من دلالات متعلقة بالوجود الإنساني، مع سماح لهؤلاء الأطفال بالتعبير عن تأويلاتهم الخاصة، ومناقشة القراءات المختلفة، وترك المجال مفتوحا للتبادل بعيدا عن  فكرة إيجاد تأويل صحيح.

ج) تنظيم التجارب الرسمية: بعكس المبادرة، فإن التجريب هو قرار سياسي لمحاولة إدخال ممارسة جديدة في النظام التعليمي، تسخر له الوسائل التربوية والمالية خاصة، ويتم وفقا لبروتوكول محدد، مع مرافقة الممارسين، لا سيما من خلال التدريب وفي الأغلب من خلال البحث، كما أنها تخضع للتقييم بغية استخلاص استنتاجات مع احتمالية التعميم؛ وعليه نوصي بإعداد التجارب بشأن هذه الممارسات (كما هو الحال في النرويج) وفق ما يتناسب مع أهداف السياسات التعليمية.

د)  إضفاء الطابع المؤسسي على ممارسات معينة: لقد وجدت، مَأْسَسَة الممارسات الفلسفية مع الأطفال (كما هو الحال في المكسيك أو أستراليا) أفقا أكثر اتساعا، من خلال:

  • ادراج تعليم التفكير الفلسفي في بعض المدارس الابتدائية أو في بعض المناهج الدراسية بشكل الاختياري.
  • إشراك الممارسين المدربين على الفلسفة مع الأطفال، في الفصول الدراسية، في إطار المشاريع باعتبار الفلسفة «ممارسة ثقافية».
  • تعميم تعلم التفلسف بالنسبة لجميع التلاميذ على مستوى البلاد؛ حيث يمكن القيام بذلك بالاعتماد على عدة تخصصات: كالتفكير الجمالي في الفنون، والتفكير الأخلاقي في مسارات الأخلاق وحتى الدين، والتفكير الإبيستمولوجي/ العلمي في العلوم، ومن خلال الفلسفة السياسية في التربية المدنية والتاريخ…كما يمكن أيضًا القيام بهذا التعميم في شكل حصة أسبوعية محددة، تختلف مدتها باختلاف عمر الأطفال كما في (ورشة عمل أو نادي الفلسفة).

هـ) بناء منهج تعليمي في المدارس: إذا أردنا إضفاء الطابع المؤسسي على ممارسات الفلسفة مع الأطفال فإنه يتوجب التفكير في وضع منهج دراسي حقيقي، نحن نعتقد أنه يجب أن نبدأ مبكرًا، منذ مرحلة ما قبل المدرسة والمدرسة الابتدائية، كما يرى مونتين  وذلك من خلال تمرين منتظم على مقتضيات التفكير المنطقي الصارم  ومهارات التفكير العقلي، حيث لا يجب أن نخضع يقظة الفكر التأملي لشرط مسبق سواء تعلق الأمر بالعمر أو مستوى اللغة أو الدرجة النضج، إذ أن موضوعات كبيرة كالموت أو الحب… تظهر منذ الطفولة المبكرة، فنحن نبدأ في تطوير نظرة للعالم بمجرد أن نمتلك اللغة للتعبير بالكلمات عن تجربتنا، التي نعتمد عليها لـــ «توسيع فكرنا» كما يقول كانط ، ونحن نمضي قدمًا في الحياة؛ ينبغي أن يكون هذا التعلّم تدريجياً ومتماسكاً، قائما على منهاج تعليمي يحدد الأهداف المرجوة والأساليب المتبعة  والأجهزة، الأدوات والدعائم المستخدمة.

3. ما الممارسات المطلوب تعزيزها في الفصول الدراسية؟

كل ممارسة تنمي استقلالية الحكم والحرية تفحص الأفكار منخرطة في البحث عن المعنى والحقيقة في ضوء العقل، تنمى التساؤل والحس الإشكالي، وتعزز المواجهة البنّاءة والصارمة للأفكار، كما ينبغي الحذر  من النمطية التي تؤدي إلى العقم في التفكير، حيث أن الأمر يتعلق بتدريب العقول على حرية التفكير، ومنه مقتضى الحرية الفكرية والبيداغوجية للمعلمين وحرية التفكير للمتعلمين، الذين لا يمكن لأحد أن يفكر بالنيابة عنهم، فالأمر لا يتعلق  بتلقينهم، وإنما مرافقهم حتى يتمكنوا تدريجياً من إيجاد الإجابات على الأسئلة التي يطرحونها، وبهذا الخصوص نحدد بعض المسارات:

  • الإنطلاق من أسئلة الأطفال أنفسهم، لأنها تمنحهم المعنى وتضعهم موضع البحث المسكون بـ “الرغبة في المعرفة”، كما يمكن أيضا استخراج هذه الأسئلة انطلاقا من نص مخصص للنشاط التأملي (روايات ليبمان على سبيل المثال)، حكايات أو أساطير حاملة لــ “حكم الشعوب” أو كتب الأدب الكثيفة المحتوى.
  • تنظيم تبادل الأفكار بخصوص هذه الأسئلة، بتوجيه من المعلم وفق جملة من إرشادات العامة، بحيث يتسنى للطلابمواجهة آراء بعضهم البعض، وخوض تجربة الصراع ذات الطابع الاجتماعي_المعرفيالذي يمكنهم من التطور.
  • هناك أيضًا إمكانية استخدام المعضلات الأخلاقية من منظور لورانس كولبرغ (Lawrence Kohlberg)، حيث يتم اقتراح قضية تمثل إشكالية أخلاقية، يتوجب إيجاد حل لها عن طريق توضيح وتحديد التراتبيات القيمية الهرمية.
  • لتطوير تعلم التفلسف، يمكن أيضًا اقتراح تمارين خاصة هي الأشكلة، المفهمة، والمحاججة، التي تبدأ غالبا بأمثلة الأطفال ومن خلال استحضار حياتهم اليومية،  إنها طريقتهم في الربط بين مفهوم أو سؤال مجرد وبين معيشهم الخاص، وهي تمثل نقطة انطلاق ضرورية للشروع في التفكير، ولكن يجب أن نساعدهم على تجاوزها للارتقاء إلى مستوى التجريد والتعميم، والوصول إلى الكونية في التفكير («أن تفكر كإنسان» كما يقول كانط)، في ما إلى ذلك يبقى المثال المضاد أثناء المناقشة أمرا مهما لأنه ملموس ولديه مكانة الدليل من وجهة نظر إبستيمولوجية/معرفية، غير أنه ينبغي علينا أن نذهب أبعد من ذلك للوصول إلى بناء حجج أكثر عمومية وغير مرتبطة بسياق معين.
  • يمكننا الانطلاق من اللغة، باعتبار أن التصورات التي تقوم بمفهمتها هي في الأصل كلمات ضمن لغة معينة، وكوننا لا نفكر إلا بلغة وضمنها، حيث يتم الاعتماد على الحمولة اللغوية للمفهمة، من خلال استكشاف مسارات التفكير المقترحة بالكلمات، انطلاقا من الاشتغال على المرادفات/والأضداد في مقابل الفروق المفاهيمية؛ وعلى الحقل المعجمي والدلالي في مقابل الحقل المفاهيمي).
  • يمكننا أيضا أن نعمل على انبثاق التمثيلات الأولى حتى يتسنى لنا الاشتغال عليها في المستوى المفاهيمي لاحقاً، يمكن أن يساعد كل من التفكير التجميعي وتدوين كتابات خيالية وتجارب تفكير، إلى تكرار الصياغة المفاهيمية، كمثال على ذلك:” قوموا بوصف عالم يكذب فيه الجميع، أو يمكننا القيام فيه بكل ما نرغب به، ما هي النتائج التي تخلصون إليها من ذلك؟ “.
  • يمكننا أيضًا في البداية ترك اللغة والتوجه للعمل على سجلات/معطيات الجسد والخيال، وذلك بغرض العودة إلى تفكير أكثر تجريدًا من خلال ترجمة معطيات الجسد والعواطف الى ألفاظ (la verbalisation)، كنقطة انطلاق نحو المفهمة، وهذا من خلال:

أ) الوضعيات الجسدية والنشاطات التشكيلية: “قم بالتعبير بنحت أو برسم عن فكرتك حول الحرية ثم علّق على ذلك”؛ “قم بوضع رفاقك في سياق معين بحيث يمكنك محاكاة سلوكهم بموقف ظالم (راجع مسرح المظلومين لـأوغستو بوال Augusto Boal ) ثم حدد: ما هو الظلم إذن؟” ؛ “قم برسم صورة للحقيقة، وأخبرنا كيف يصور الرسم هذا المفهوم”…

ب) استحضار المفهوم انطلاقا من ترجمة الانفعالات إلى ألفاظ (ما الذي يمكنك من القول أن ما شعرت به هو الفرح؟ ما هو ثم، الفرح؟).

ج) الاستعانة بدلالة الصورة:” لماذا تجد هذا الإشهار مثيرا الغضب؟ كيف إذن تعرف الغضب؟” “أي الصورة تمثل أكثر فكرة السعادة بالنسبة لك؟ ولماذا؟”؛ ومن خلال الاستعارات اللفظية “إذا كانت العدالة حيوانًا، فما سيكون ذلك؟ لماذا؟”؛ والقياسات “لماذا يمثل الميزان العدالة؟”؛ والرموز “كهف أفلاطون، الهيكل العظمي كرمز للموت، إلخ…”.

  • إذا أردنا الربط بين الغرض الفلسفي والغرض الديمقراطي بمعنى التربية على المواطنة، حيث يتم تنظيم المناقشة وفق تدابير تربوية ديمقراطية، تتضمن القواعد الديمقراطية لتداول الكلام: ترتيب التسجيل، الأولوية في الحديث (للطالب الذي لم يتحدث بعد أو تحدث قليلاً، أو لأصغر سناًّ في الفصول التي تتضمن فئات عمرية متفاوتة)، توزيع أدوار المسؤولية بين التلاميذ: (رئيس الجلسة لإعطاء الكلمة، سكرتير الجلسة لتتبع العمل الجماعي، مراقب للساعة والانضباط، منظم للقاعة، ومسؤول الميكروفون، وما إلى ذلك).
  • إذا أردنا ربط التموضع الفلسفي أمام سؤال معين ببناء شخصية الطفل، نجد أن توليه الحديث أمام الملأ، وجرأة التفكير في الوجود الإنساني حيث يخوض تجربة الكوجيتو كما يقول ليفين، عند اعتماد أسلوب طاولة النقاش، حيث يمكن لكل طفل أن يقوم بتطوير رؤيته للعالم والتعبير عنها من خلال التفاعل بشكل شخصي مباشر مع سؤال عميق والعمل على تطوير «لغة داخلية» حقيقية.
  • ü     يمكننا أيضًا الاشتغال على التأمل في علاقته مع باقي المواد الدراسية، إما بشكل عابر للتخصصات، أو عن طريق الاشتغال على البعد التأملي في كل تخصص على حدى، حيث نجد مثال “التفلسف حول الرياضيات” أو “العلوم” في كيبيك، كما يمكن الاشتغال على المحجاجة أيضًا في تعلّم اللغات، شفوياً وكتابياً، حيث هناك نطاقات التفاعل بين ديداكتيك الفلسفة وتعلم اللغة الأم في المدرسة.

نختتم بذكر الشروط الأساسية لإقامة هذه الممارسات، حيث أن مرافقة هذه الممارسات ذات المنحى الفلسفي تكون من خلال:

   1. التدريب الأولي والمتواصل للمعلمين على هذه الممارسات، تحديدا:

(أ) الكفاءات المنتظر تحصيلها من طرف التلاميذ والمطلوب تطويرها لدى المعلمين.

(ب) توفير إمكانات التدريب الملائمة: الأهداف، المضامين والأساليب.

(ج) سياسة مناسبة لتدريب المدربين، تركز على التكوين، بالإضافة إلى بعض المعالم الفلسفية،

وتحليل الوضعيات والممارسات والأنشطة المقترحة مع التشديد على المنحى الفلسفي لها.

(د) إنتاج مضامين تعليمية كافية.

.2 البحوث والأطروحات والدراسات المتعلقة بهذه الممارسات.[3]


[1]وضخ روجر بول دروا Roger-Pol Droit ، في مؤلفه حول الفلسفة والديمقراطية في العالم الصادر عن منظمة اليونسكو سنة1995 في الصفحات: 102-106 ،الفرق بين “النموذج الأنجلوسكسوني”، الذي يقتصر “تدريس الفلسفة فيه على بعض الأقسام الجامعية “و” يتم تدريس التربية السياسية بشكل منفصل “، وبين نموذج” الفرنكوفوني أو اللاتيني “، حيث تدرس الفلسفة في المدرسة الثانوية و”يكون من الضروري أن تساهم في تنمية المواطنة”.

[2] راجع. التحذير في كتاب الجمهورية (VII ، 539 ب- 539 ج) ضد تنمية روح الجدل لدى الأطفال والشباب المراهقين.

[3] انظر أدناه، بخصوص النقطيين مقترحاتي لليونسكو في

الجزء الأول من تقرير الفلسفة مدرسة للحرية (2008)،

http://unesdoc.unesco.org/images/0015/001536/153601E.pdf.

حمل مقالة التفلسف مع الأطفال وقائع، أسئلة حية، رهانات ومقترحات