جلسات الحوار السقراطية بين جيلين، الإمكانيات والحدود
دراسة لبرنامج الحوار بين جيلين، المقدم من طرف معهد بصيرة من 01إلى 29 يوليو2022
“جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن المؤلف وليست مسؤولية معهد بصيرة أو دار بصيرة للنشر أو أي جهات أخرى متصلة بها من الجهات والهيئات الثقافية التنظيمية أو المانحة وغيرها”
إعداد: د. وهيبة يحياوي
تدقيق: سارة العطية
ملخص:
قدَّم معهد بصيرة لإعداد واعتماد مُيسِّري تعليم التفكير الفلسفي الناشط منذ عام 2011 في تعليم التفكير الفلسفي من خلال تقديم ورشات للأطفال وللكبار برنامج بعنوان حوار بين جيلين، ضمَّ مشاركين من أعمار مختلفة في تجربة تهدف إلى تمكين الحوار بين الأجيال، ويأتي هذا البرامج ضمن برامج أخرى ساعية لنشر منهج التفكير الفلسفي والحوار السقراطي كأساس لتطوير أدوات التعلم والمناهج التعليمية، حيث قدمت أ. رواف نحاس البرنامج المكون من 6 لقاءات بعنوان “حوار بين جيلين Millennials V.S. Gen Zs” وفق منهجية P4C التي يعتمدها المعهد، وفي هذه الورقة البحثية ندرس فاعلية الحوار بين الجيلين من خلال جلسات الحوار السقراطي، التي تُفعِّل السؤال الفلسفي كأداة للتأمل والتفكير وتفتح آفاق الحوار بين فئات عمرية مختلفة تراوحت بين 16إلى 42 سنة، وتهدف هذه الدراسة إلى اكتشاف حدود وأثر منهجية الحوار على العلاقة بين الجيلين للسعي في تجاوز الصراع أو الفجوة بين الأجيال نحو آفاق التفاهم والاعتراف المتبادل، بالإضافة إلى تحديد الإمكانات الفكرية والمعرفية لأسلوب الحوار الفلسفي فيما يتعلق بمهارات التفكير.
مقدمة:
يتزايد الاهتمام بموضوع الحوار بشكل عام ضمن الفضاء العمومي المعاصر، الذي يشهد تدفقًا لكم هائل من المعلومات والأفكار وانفتاحًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي وبروزًا لعدة إيديولوجيات ما بعد الحداثية، حيث يجد الإنسان نفسه في مواجهة عدة خطابات ومطلوب منه استيعابها؛ لتحديد موقعه في هذا الفضاء العمومي المفتوح، فيقدم معهد بصيرة عدة ورش للحوار الفلسفي للأطفال والبالغين وسعى لتوسيع دائرة المشاركين من خلال إنشاء برامج جديدة توفر فرص جديدة تجمع فئات عمرية مختلفة في تجربة جديدة لحوار بين الأجيال من خلال برامج تم اقتراحه مؤخرًا، وقد تفرد هذا البرنامج بخصوصية فتح الحوار بين جيلين -الحالي والسابق- هما الملنينز وجيل زاد Millennials V.S. Gen Zs، تنخرط هذه المقاربة ضمن مشروع بصيرة القائم على “دعم مهارات التفكير والتواصل التي تعزز التعلم الذاتي وتنمي احترام الطلاب لذواتهم وللآخرين من خلال التعليم والتعلم الحواري”. سنرصد في هذه الورقة البحثية التفاعلات التي تمت على مدار برنامج “حوار بين جيلين” وفق منهجية p4c، شارك في ورشات الحوار مجموعة مكونة من 12 مشاركًا تتراوح أعمارهم بين 16 إلى 42 عبر تطبيق زوم من دولتي المملكة العربية السعودية والكويت، تظهر أهمية دراسة هذا الموضوع في تفعيل دور الحوار كبديل للصراع والعنف الذي يوسِّع الفجوة بين الأجيال ويُقصي الاختلاف، ويسعى لتأسيس حكمة عملية بأسلوب الحوار، فتكون الضامن لعلاقات التواصل ولتعزز الثقة بين الأجيال المختلفة، والتي ينبغي أن تشارك معًا في طرح القضايا الراهنة بغية بناء التصورات المجتمعية وتعزيز الأمن الفكري ومواجهة الآخر في العالم المعاصر بانفتاح، وإذا كانت مسألة الحوار في حد ذاتها تطرح عدة رهانات فكرية وأخلاقية فإن إشكالية الحوار بين الأجيال تطرح رهانات أعمق، حيث ينبغي الاشتغال نظريًا وعمليًا على تفكيك الأحكام المسبقة التي جعلت من العلاقة بين الأجيال تتصف بالصراع، بناء علاقة حوارية بين الأجيال والعمل على نقل مبادئ الحوار من: احترام، ومسؤولية، واعتراف… من المستوى النظري إلى المستوى العملي، وبناءً عليه نطرح التساؤلات التالية: ماهي إمكانات وحدود وآفاق تجربة الحوار بين الجيلين؟ هل يمكن لجلسات الحوار السقراطي أن تفعِّل قيم الحوار من تعاون ورعاية؟ ماهي الإمكانات الفكرية التي يقدمها مجتمع التساؤل في هذه التجربة؟
قاربنا هذه الانشغالات من خلال تتبع مسار الحوار في الورشات وتم تقييمها وفق أسس منهجية P4C التي يتبناها المركز ويعلن عنها في موقعه، وقد جاء ذلك في شقين: إيتيقي (أخلاقي) يتعلق بممارسات الحوار وأخلاقيات المناقشة، ومعرفي يتعلق بأدوات التفكير وفاعليات التساؤل والمفاهيم والتعليل…ولذلك تتبعنا مسار التساؤل والتفاعل بين المشاركين من الجيلين وذلك بالاعتماد على مفهوم ديناميكية الجماعة لفهم جملة التغيرات التي تحدث والأثر المتبادل بين المتحاورين، لتمكين “استثمار القدرات الكامنة لدى الأفراد وتفعيل كفاياتهم من خلال القيام بأدوار متكاملة بين أعضاء الجماعة، وبالتالي إظهار سلوكيات جديدة تساعد على تحسين الأداء وإثبات الذات من خلال الإنتاج والفاعلية”؛ الهدف من هذه الدراسة هو البحث في التحديات التي تواجه الحوار الفلسفي وتثمين المكاسب التي تتحقق من خلال توسيع التساؤل والجمع بين مختلف الأجيال وهذا ما سنوضحه في النتائج والتوصيات في آخر الدراسة.
الحوار وآفاق الاختلاف:
بداية وجب التعريف بمفهوم الحوار الذي سيُستخدم في التجربة الفكرية التفاعلية، ننطلق فيها ” إن فكرة الغيرية هي بذرة أي حوار، حيث ظهور الحوار المتبادل ووجود الطرف الآخر الذي يمثل المقوِّم الأساسي لبناء الحوار، فالحوار تفاعل يَستعمل اللغة للوصول للآخر، هو عمل مشترك خصوصيته أنه يستخدم الكلام كوسيلة، هو شكل من أشكال الحياة فهو تفاعل مبني على قواعد تجاه الآخرين؛ الحوار يتطلب تكاتف يسير وفق نهج بنائي تجاه عنصرَي الغيرية والتواصل معًا، فكل منهما يَنْتُج عبر تبادل واعٍ بتتحقق الظروف المناسبة، الحوار هو تكييف ذاتي لأشكال التفاعل كمحرك لتحقيق التواصل وللوصول لأهداف وأغراض تُبقي المشاركين في شكل من أشكال الحياة، حيث يألفون ويعيشون تجربة الحوار نفسه ويستمرون بتعديل الإطار والأهداف للتقدم بسيرورة الحوار وتشْكيل الإطار التفاعلي للحوار، حيث أن الحوار عملية ناشئة وغير مخطط لها فلا يعرف أحد نتائجها.”.
يُبنى الحوار والعلاقة بالآخر عبر مجموعة من المبادئ القيمية التي تحكمها وتنعكس على الواقع فيما يعرف بــإيتيقا ( أخلاقيات) الحوار والتي نجدها عند مارتن يورغن هابرماس Jürgen Habermas (1929 _ ) فطرح مسألة الغيرية على عدة مستويات، حيث تُحدِّد العلاقة بين أنا_أنت وضع الغيرية عبر الوعي بـ”الأنا” ومن خلال وجودها في تجربة الحوار التي يجريها مع هذا “الآخر” أمامي، ومن خلال الإجابة على السؤال: “ما هو الآخر بالنسبة لي في جوهره وفي تجربتي؟ ” تتخذ علاقة أنا_أنت عدة أشكال، فتتحدد وفق تموقع الأنا من الآخر وبعبارة أخرى وفق توازن أو عدم التوازن قطبية الأنا_الآخر التي تنعكس إما في صورة مركزية الذات أو علاقة أنا > أنت (أكبر)، ويقع هذا الموقف المتمركز ذاتيًا في صورة مُهيْمن/ مُهيمَن عليه كأساس وحيد لأي إمكانية لوجود علاقة بالآخر كعلاقة السيد بالعبد، حيث يمارس الأنا إستراتيجية تخصص بها الاعتراف بالآخر وفق تحديد شمولي نابع من مركزيته، فيُختزل فيه الغير بالنظر إلى الآخر بدونية وبتشيئية، وتُفسَّر هذه الممارسة التي يصِّح تسميتها بالعنف “بغلبة الذات” (subjectivity) .
أو كـصورة مماثلة علاقة أنا = أنت (تساوي) وقد وضَّحها مارتن بوبر Martin Buber ( 1878_1965 ) من خلال التفريق بين العلاقة بالشيئية (أنا-هذا) والعلاقة بين (أنا_أنت) كعلاقة حوارية تضع الآخر بمثابة أنت وتتجه نحو الآخر كإنسان، فمصطلح الحوار الذي يستخدمه بوبر يصف موقفًا و ليس مجرد محادثة، إنه سلوك وطريقة تؤدي إلى معرفة الآخر، ويستند هذا الموقف على القدرة على الاهتمام بالآخرين، وهذا يعني قبول الآخر كشريك أي الاعتراف به وتأكيد وجوده؛ إدراك الأنا من منظور لا مركزي يُمكِّن الشخص بأن يلاحظ نفسه على أنه أنا من خلال طرح الآخر على أنه أنت، فيكون فيه التمييز بين الأنا وأنت على مستوى التناظر، لأن الأشخاص يشهدون فعالية الواقع الحواري حين يشملهم في وضع متوازن وعبر المواقف والأفعال وما يستند إلى مشاركة ومبادلة بين الطرفين، حيث تشترك الأنا والآخر في أفق أولي غير مُتشكل ينتميان إليه ويشكلانه معًا ، يعتبر الأنا المتمركز حول ذاته أنه يمتلك الحقيقة فالحوار بالنسبة له هو فرصة لفرضها على الآخرين وهذا الموقف المتعالي لا يمكن أن يحقق حوارًا، لذا ينبغي الاشتغال نظريًا وعمليًا لتكوين أرضية مناسبة يدرك من خلالها المشاركون أن الحوار غاية في حد ذاته وأنه “لا يوجد في الحوار فائزون، أتعلم منك وتتعلم مني. وربما نتوصَّل إلى حل وسط أو نتفق على الاختلاف في الرأي، فهو تبادلي على نحو عميق ويُقرُّ بالتشابه والاختلاف على حد سواء”، وسعت ورشات الحوار السقراطي إلى تفعيل هذا المنظور.
نجد في الحوار بين الأجيال أن رهانات الغيرية وتحديات الاختلاف تظهر بشكل أعمق، فالاختلافات العمرية والنفسية والثقافية والقيمية والمعرفية… تشكل فوارق كبيرة، ولعل “الفارق الجوهري أو العنصر الأساسي الذي يُفرِّق بين الأجيال بعضها عن بعض أو يميز كل جيل عن آخر هو الثقافة، أي وجود نمط معين من التفكير والقيم والرغبات والطموحات وبمعنى آخر وجود نظرة معينة إلى العالم والمجتمع والحياة العامة… “، بالإضافة إلى ذلك فإن تحديد الانتماء إلى جيل معين أصبح صعبًا، وذلك بسبب الواقع الراهن الذي تحكمه معطيات التحولات التقنية التي أدَّت إلى تقلص الفواصل الزمنية بين الأجيال، “المساحة الزمنية… قلّت كثيرًا نتيجة الإيقاع السريع للتغيرات المجتمعية، ومن ثم فيمكن أن نقول أن عشرة سنوات ستكون كافية ﰲ المستقبل القريب لتمايز الأجيال بعضها عن بعض”؛ وفقًا لذلك سيكون علينا الاشتغال على فهم وتجاوز مجموعة الأفكار والمعتقدات السابقة التي نجدها عند الأجيال حول موقع وعلاقة كل جيل بالآخر، ولعل أهم عائق أمام الحوار هو فكرة شرعية امتلاك المعرفة، حيث أن “التغيير الذي طرأ على أجيال الشباب في علاقتهم مع الكبار أثّر على التلازم بين حق امتلاك السلطة وفارق العمر، لتتحول من قضية محسومة – على المستوى الرسمي أو المعرفي – إلى أمر يحتاج لإعادة النظر”،فالمسألة تتعلق بـالوصاية عند الجيل الأكبر الذي يبرر المعرفة بالخبرة التي امتلكها مع العمر، وبالمقابل الجيل الأصغر الذي يبرر ذلك بسهولة الوصول إلى المعلومة بواسطة التقنية، ومن هذا المنطلق فإن علاقة الأجيال هي علاقة صراع يحكمها متغير السلطة واللامبالاة، وهو الغالب الأعم في مجتمعاتنا على وجه الخصوص حيث “نجد في المجتمع بكلّ مؤسّساته مُنازعَين فكريَّين مُتغايرَين، … يتمثّل المُنازع الأوّل في المحافظة على القديم وتقديس رموزه والخوف من كلِّ تغيير وتجديد، وغالبًا ما يهيمن هذا النمط من التفكير على الكهول في مراحلهم المتأخّرة والشيوخ، أمّا المُنازع الثاني فيتميَّز بتمرُّده وحبِّه للتغيير ورغبته في التحرُّر من ثقافة التنميط والتقليد، ويسيطر هذا المنازع التحرُّري على فئة الشباب…”، فكيف نتجاوز هذا الصراع نحو أفق الاختلاف والاعتراف بين الأجيال؟ وكيف نتجاوز التصور الذي يرى أن “العلاقة بين الأجيال هي -بالضرورة- علاقة صدام”؟.
تقدم ورشات برنامج “الحوار بين جيلين” تصورًا عمليًّا لمفهوم الحوار بين الأجيال، ويسعى للعمل على تعزيز التواصل والمشاركة الفعَّالة في بناء مجتمع تساؤل يشمل فئات عمرية وثقافية مختلفة، حيث نجد أن “الشعوب والمجتمعات الناضجة تفهم جيدًا ضرورة التواصل الإيجابي وأهمية تعزيز استقرار العلاقة بين الأجيال، لتتمكن من الحفاظ على قيمها والاستمرار في مُنجزاتها، حيث يعتبر التواصل بين الأجيال بطريقة إيجابية من أنجح وسائل نقل الخبرات وتوارثها وتطويرها بطريقة هادئة ومستقرة”، فالاختلاف يتطلَّب التعايش والتواصل ونبذ القطيعة والفصل… يحيل حديثنا عن التفاعل إلى مسألة الاختلاف، والتعدّد والتنوّع… ولا مبرّر أن يُمارس فرد الوصاية على غيره مهما كان سنُّه أو جيله، أو مكانته الاجتماعية”؛ لقد فعَّلت هذه الورشات الحوار بين الأجيال الحاضرة حول جملة من المواضيع، فتناولت قضايا مسَّت الوجود الإنساني بشكل عام، وحرصت على ربطها بالجيلين الملنينز وجيل زاد كموضوع المال، السعادة، العمل، معرفة الذات والعلاقة مع الآخر، وتأثير مسألة التقنية على اختلاف التصورات بين الجيلين، وجاءت تلك المواضيع في طرحها وفي طريقة تناولها لتحفز وإثارة نقاط الاختلاف بين المشاركين، على اعتبار كونها مواضيع تثير التساؤل وتمس جوانب وجودية تحضر في مختلف المراحل العمرية، وقد تم التعاطي معها وفق منهجية حوار مبنية على الوعي باحترام الاختلاف، ومن منظور أن “الاحترام لا يعني أن اتفق معك، فالاحترام يقع بالفعل بموجب سياق الاختلاف في الرأي” ، إن منهجية التساؤل التي تُفعِّل التفكير التعاوني والتفكير الرعائي تُساهم في العمل على تصحيح التصورات المغلوطة في العلاقة بين الأجيال التي ذكرناها سابقًا، وتراهن هذه المنهجية على تمكين الجيلين من الوصول لدرجة من القبول و”امتلاك درجة من المرونة تُمكِّنه من قبول التغييرات المستمرة وتفَّهم مساحات الاختلاف الواقعة وتقبل الجديد المناسب “، فتؤسس لـ”علاقة بين الأجيال… علاقة تفاعل بما هو تأثير وتأثّر والتفاعل…وما التفاعل بين الأجيال إلا تفاعل بين الخطابات المختلفة والمتباينة….وليس المقصود بالانسجام تماثل الأفكار وتطابق التصوّرات، بل المقصود به وجود قوانين توجِّه الاختلاف بين الجماعات وتُعقْلنه”، وبهذا فإن الحوار يستجيب إلى مطلب التفكير الخروج من دائرة الانفعالات محل الصراع نحو أفق عقْلنة الخطاب.
عن الحوار ومجتمع التساؤل:
كما سبق ووضحنا فإن برنامج “الحوار بين جيلين” ينخرط ضمن مشروع تعليم التفكير الفلسفي التي يقدمها المعهد، والذي يقدم “تعليم التفكير الفلسفي… كمنهج ذو طابع عملي فيقدم مهارة الحوار السقراطي كطريقة لتعلم التجريد والتساؤل الفلسفي والتفكير المفاهيمي، حيث يخرج الطالب مكتسبًا القدرة على الفلسفة كمهارة فكرية يمكنه تطبيقها عمليًا في مجالات الحياة… وبالحثّ على التفكير بالحوار الذي يخلق نموذجًا تعليميًا يُسمَّى (مجتمع التساؤل) “، ولهذا الغرض يوظف مجموعة من أدوات وأنماط التفكير. ومن خلال دراستنا لدينامية جماعة الحوار لاحظنا أنها تتشارك مجموعة من الإمكانيات المعرفية والإنسانية وتتفق على مجموعة من المعايير الضمنية شكلت الإطار المرجعي المشترك للتواصل بين أفرادها، حيث راعى المشاركون الأنماط السلوكية المُعينة في الحوار ضمن مجتمع التساؤل، ولعل هذا راجع إلى التكوين الذي تلقاه معظم المشاركون في ورشات حوارٍ سابقة وهو ما انعكس بوضوح على استيعابهم لمنطق الأدوار ضمن الجماعة التي يعيها أفرادها بأن “الأدوار تتطلب التواصل المُسبق بين أعضاء الجماعة لتوزيع الأدوار ومعرفة المهام الموكولة لكل عضو… فحينما يتم تقسيم الأدوار بنوع من التراضي بين أعضاءها يخضع كل فرد لنوع من التنشئة الاجتماعية فيتعلم من خلالها قيم التعاون والمشاركة واحترام الآخر، والنظرة الموضوعية للقضايا الخاصة والعامة والنقد الذاتي… مما يؤهله للتوافق الإيجابي مع الأوساط الاجتماعية التي يتفاعل معها”.
كان واضحًا منذ الجلسة الأولى اطلاع المشاركين في أغلبيتهم على منهجية التساؤل الفلسفي، الأمر الذي يمكن اعتباره تعاقدًا ضمنيًا سهَّل بشكل كبير سيرورة الحوار، حيث أن هناك اتساق كبير في العلاقات الحوارية بين المُيسِّرة والمشاركين وبين المشاركين أنفسهم، وهو الأمر المستوحى من مبادئ منهج بصيرة لتعليم التفكير الفلسفي التي تسعى للعمل على تعزير الانتماء لمجتمع التساؤل، حيث أن “المشاركون داخل مجتمع التساؤل يفهمون بأنهم جزءٌ من النسيج الاجتماعي ويستوعبون بأن مجتمع التساؤل هو طريقة طبيعية وأصيلة لصنع الذاوت بين الأفراد intersubjectivity…ومن ثمة … يثري مجتمع التساؤل عملية تداول الأفكار ويساهم في خلق نماذج جديدة لها، فتكون أكثر احترامًا لحقيقة الواقع المُعاش والقيم الاجتماعية السائدة وأكثر التزامًا بفكرة المستقبل المشترك داخل النسيج الاجتماعي العام… “، وقد جاءت ورشات الحوار بين الأجيال لتوسيع دائرة المشاركين لتشمل فئات متنوعة لخدمة المشروع والرؤية الشاملة وتعميم التفكير الفلسفي داخل المجتمع؛ وقد أعلن المعهد عن هدفين أساسيين يوضحان رؤيته في مشروع تعليم التفكير الفلسفي: هدف معرفي وهو تطوير القدرات الإدراكية بتعلم العادات الذهنية العليا وكل ما يتبع ذلك من تجريد وتعليل ومنطق وتصنيف وغيرها، التي تراعيها منهجية الحوار السقراطي ويمكن الإشتغال عليه وتحقيق النتائج في جميع الفئات العمرية؛ وهدف إيتيقي وهو بناء إحساس عالٍ بمجتمع التساؤل، ويتضمن ذلك كل ما يخص المهارات المجتمعية من احترام وتقبل للاختلاف في الأفكار والمشاعر ووجهات النظر والقيم، ويساهم الحوار بين جيلين في تحقيق التناغم الاجتماعي وتيسير القبول بينهم. وقد حرصت المُيسِّرة على التذكير في بداية الجلسات الأولى من الورشات باتفاقيات الحوار فتذكر المُيسِّرة أنهم: “يستهدفون مهارة التفكير المفاهيمي والتعليل والمشاركة في إنشاء الأفكار بدل التلقي المباشر…فلا نوجه الانتقاد للأشخاص وإنما للفكرة…مراعاة التوقيت والوضوح واحترام الآخرين حين يتحدثون”.
يتضمَّن الحوار رهانًا فلسفيًا حيث يُفتح المجال لممارسة جديدة للحوار الفلسفي الجماعي، وقد عَرَف تاريخ الفكر الإنساني عدة أشكال للحوار إذ نجد الحوار السقراطي التوليدي بين شخصين أو ثلاثة؛ والمنازعات والمناظرات الفكرية في القرون الوسطى حيث تتعاقب محادثات طويلة متناقضة تنتهي بالكلمة الفصل الحقيقة عند المعلم، وكذلك الحوارات المكتوبة أو المراسلات الفلسفية أو المقابلات الفردية الشفهية…، وتعد جلسات الحوار في الممارسات الفلسفية الجديدة -التي أسسها ليبمان- فضاءً للتساؤل وللتفاعل المفاهيمي داخل مجموعة معينة ذات بعد سيسومعرفي مُنفتح على فضاء الغيرية المتعددة، ومواجهات فكرية لا تقتصر على المعلم وإنما مع الأقران، وهنا نشير إلى نموذج المقاهي الفلسفية التي تهدف إلى تأسيس فضاء للمناقشة مع المشاركين للعمل على نقد الآراء وهنا تظهر ممارسات فلسفية جديدة في المجتمع وليس فقط في المدرسة .
تدور كل ورشة من “حوار بين جيلين” حول موضوع معين يتم اكتشافه تدريجيًا من خلال مجموعة من السندات المرئية والمسموعة تقدمها مُيسِّرة الحوار فتترك المجال للمشاركين للوصول إلى السؤال أو المفهوم، فيَنْشئ بهذا الحوار تدريجيًا مجتمع تساؤل يشارك فيه الجميع، حيث لا وجود لسلطة معرفية مطلقة، ففي مجتمع التساؤل يتغير دور المعلم من كونه موصلًا للمعلومة إلى مُيسِّر في حوار فلسفي مفتوح النهايات، في حين أن الطفل أو البالغ هو المشارك الفعَّال في صنع المعرفة…يسهِّل المعلم باعتباره مُيسرًا عملية نقل الحوار بين الأفراد داخل حلقة الحوار فلا ينقل معلومة ولا يحدد إجابات…يلتزم المُيسِّر (المعلم المتفلسف) بفكرة الحوار السقراطي المفتوح لذلك فهو لا يقود الحوار ليجعل المشاركين يخمنون الإجابة المحضرة في ذهنه مسبقًا، … بل يترك الحوار يسير بسلاسة مع استخدام تقنيات معينة تدفع بالفكرة للأمام دون أن يساهم بشكل مباشر في دفعها إلى نهاية محتومة… فلا يُحفز الحوار الرغبة في إحراز النقاط أو الانتصار للرأي داخل الحلقة السقراطية بل لغرض الوصول للحقيقة دون تحيزٍ ذاتيٍ لها، كما ” يحرص على عدم هيمنة فرد أو جماعة، فيحاول أن يكون محايدًا ويحرص على سماع وتشجيع العديد من الآراء، ويحرص على أن يطور أعضاء المجموعة فضولهم وأن يطرحوا الأسئلة الجيدة، فيفحص ويطلب منهم توضيح الآراء عندما يعبر الأشخاص عن آراءهم المعقدة…. من المهم أن يخص الحوار الطلاب وأن يتملكوه في ظل مساندة الميسر وتوجيهه، فإذا كان دور المدرس توجيهيًا أكثر من اللازم قد يعتمد الطلاب على حجج المدرس وقد لا يشاركون في النقاش”.
يتضح إذن أن من أدوار المُيسِّر هو عدم التدخل في مسار الحوار غير أن له دورًا هامًا في الحرص على الدفع بسيرورة الحوار، حيث أن المُيسِّر/ المعلم هو محرِّك الحوار للعمق، فيوجه إجراءات المناقشة ويطلب متطوعين (وذلك أفضل من أن يعينهم مباشرة)… فيحرص على السير الحسن للحوار أثناء المناقشة، فيلاحظ المبادلات ويؤطرها ويعيد تأطيرها حين خروجها، ويعيد تحريكها في حال ركودها، ويطرح الأسئلة على المجموعة لتفعيل البحث أو السؤال بشكل فردي لتحديد أو توضيح، تعريف، محاججة، إعاد صياغة وجهة نظر أحد المشاركين أو تقديم تركيب/خلاصة، وتدخلات المُيسِّر هذه ليست أبدًا تقييمية وإنما توضيحية؛ فيشير إلى التناقضات ويدفع المشاركين للحديث فيما بينهم؛ فيكوِّن المعنى والتقدم في المناقشة الجماعية بالربط بين المداخلات والموضوع (لتجنب الخروج عن الموضوع) ، وبين محتوى المداخلات (تسديد/ تصويب الأسئلة، عناصر التعريف، الأطروحات التي تنبثق، الحجج المتناقضة، مستويات وسجلات المناقشة…). في نهاية جلسة اللقاء الثالث تدخلت الميسرة بحكاية طلبت فيها عدم مناقشتها وهي حكاية تنحاز إلى موقف معين وهو أمر غير محبب بعد ذلك النقاش وكان من الأفضل ترك الجميع يفكر في رأيه دون التأثير عليهم، أنهت الجلسة بحكاية أسمتها “مجرد حكاية ما قبل النوم” وملاحظة معنى حكاية سيكادا أنها عززت تصور تشيئ الإنسان والاغتراب والاستغلال الوظيفي .
كما أن على المُيسِّر رعاية الحوار من خلال توفير جو آمن للمبادلات فيشجع على الكلام ويقدِّر ما يُقال، ويأسس جوًا من الأمان والثقة من خلال عدم إطلاق الأحكام، فيطلب المساعدة بين المشاركين في حال وجود صعوبة عند واحد منهم، ولا يتحدث عن وجهة نظره الشخصية حتى لا يأثر على التبادلات فيُمكن للجميع الحديث، ويعتبر روبيرت جاكسون Robert Jacksonأن على “المدرس أن يتصرف بدوره كمسهِّل للنشاط، ومحفزٍ للأسئلة وموضح لها، فينال الطلاب قدرًا كبيرًا من العون، فيُعتبرون معاونين في التعليم والتعلُّم… فينشئ مناخًا من الجدية الأخلاقية… همْ (المشاركون) ناقشوا أيضًا كيف توصَّلوا إلى استنتاجاتهم وشُجِّعوا على إدراك إمكانية وجود وجهات النظر البديلة وعلى أن يكونوا منفتحين أمام حجج الآخرين”، إلى جانب الغايات المعرفية ينبغى الحرص على الغايات الأخلاقية للحوار، و” أن الحوار في مجتمع التساؤل يتطلب بيئة آمنة يشعر فيها الجميع بالاحترام والتقدير وتتجسد هذه الثقة في طبيعة المشاركة في الحوار بدون خوف، إذ أن الكل يعرف أنه سيُستمع إليه بجدية وهذا لا يعني بالضرورة تقبل الرأي بشكل تلقائي، بل يعني الحوار المثقف المسالم السليم..”.
تتقاطع منهجية مجتمع التساؤل عند ليبمان مع منهجية “المناقشة ذات المنحى الفلسفي” التي قدَّمها ميشال توزي، حيث أن “البعد الفلسفي يجعلنا نُفضل المناقشة على المجادلة، حيث أن المناقشة فحص دقيق وشعور ب َلْقَلَقة – زَعْزَعَة في التبادل الفكري مع الآخر، بينما المجادلة هي السعي للغلبة حيث يكون الآخر خصم نتصارع معه أكثر من كونه شريك نبحث معه… نجده في تيار ليبمان حول مفهوم الحوار”، في هذا النوع من الممارسة لا يكون الهدف هو الغلبة أو إثبات القدرة على دحض الخصم، لهذا نلاحظ في الورشات الست سلاسة في الأخذ والرد بين المشاركين من مختلف الأعمار ما مكَّن من التقدم في الحوار في كل ورشة ضمن إطار احترام الاختلاف والمشاركة، “يتعلق الأمر بتنصيب مجتمع البحث بتعقل/تأمل العقل الجماعي، حيث رهان المناقشة هو التقدم معًا حول سؤال مطروح مهم (علاقة معنى)، وليس السعي لأن أكون على حق (علاقة قوة) بالبحث معًا وليس التصارع ضد بعض”، علاقة المعنى التي تتحقق بين المشاركين تكون بالاشتغال على البعد التأملي للموضوع و إعداد المشاركين للتفكير والاستماع للبحث معًا عن معنى بعيدًا عن الاعتبارات الذاتية، وبهذا يُؤسَس الحوار للمشاركة ويتجاوز العنف ليحقق مسار ديموقراطي، ويمكننا أن نقول أن ورشات الحوار بين جيلين قد حققت بشكل كبير “…هدف تربوي ديموقراطي ضمن أفق المواطنة، يتعلق الحديث والتعبير أمام الجمهور عن ما نفكر به والمواجهة مع الآخرين، ونحن هنا في إطار التقليد الديموقراطي لانخراط المواطن ضمن الفضاء العام للمناقشة”، وقدم نموذج مُصغَّرًا يمكن تعميمه لاحقًا ليشمل عددًا أكبر، حيث يُقدم “مساهمة في التربية على المواطنة المفكِّرة/المسؤولة، في فضاء المناقشة على أساس المواجهة المبنية على حرية الرأي وليس اللامبالاة بالاختلاف، حيث يتعلق الأمر بوضع الفلسفة ضمن منظور ديموقراطي بجعلها في متناول الجميع، ووضع الديموقراطية ضمن منظور فلسفي فلا يقتصر على ممارسة الحق الديموقراطي في التعبير وإنما توضيح الواجب المطلوب بالتفكير في ما نقوله”.
تراعي هذه الورشات البعد الأخلاقي التربوي للحوار لمواجهة العنف “في الحوار مساهمة يمكن أن تقدمها للتعبير ولحل/إدارة الصراعات لتسهيل العيش المشترك في المدرسة والبيت والمجتمع من خلال التفكير الجماعي على شكل مناقشة/حوار يؤسس للعيش المشترك… فننتقل من السجال/ الصراع الاجتماعي-العاطفي/الانفعالي socio-affectif. نحو السجال الاجتماعي_المعرفي socio-cognitif, حيث يتغير مستوى وشكل المواجهة”، إن مشاركة المشاركين من مختلف الأعمار في تفعيل ورعاية الحوار وتحديد الغاية من الحوار بالتعريف واكتشاف المشاركين لبعضهم البعض “فرص التواصل مع أقرانه واكتشافهم كأشخاص…مما يدفعه إلى الإعتراف بالتنوع والاختلاف…الخروج من مركزية الذات والاعتراف بالآخر وبحقه في الاختلاف كما يتعلم احترام الآخر، والإنصات لآرائه، وتحمل المسؤولية مع أقرانه، فيكتسب قيمًا ومعايير جماعية تمكنه من العيش داخل جماعات معينة” ، تمكن جماعة الحوار بين جيلين من تلبية مجموعة من الحاجات الوجدانية، وذلك “بخصائصها التفاعلية فإننا نعتبرها مصدر إشباع للعديد من الحاجات الناتجة عن التواصل بين أفرادها، مثل الحاجة إلى الانتماء…الحاجة إلى النشاط والعمل مع الآخر ومشاركتهم، الحاجة إلى التفوق وتقدير الذات…” ، وقد ساد جو من الألفة بين المشاركين والمُيسِّرة مكَّن من أن “يشعر المشاركون بالأمان مع المعلم المفكر أو المتأمل؛ لأنهم يعلمون أنهم سيُعاملون بعدل فيؤدي ذلك لاحترام متبادل بين المعلم والطالب كما يخلق المودة بينهم…”، وهو ما عبَّر عنه المشاركون في عدة جلسات حيث مكَّن الحوار المشاركين من التعرف على آراء جديدة والمشاركة فيها، تقول إحدى المشاركات: “هذه المواضيع أفكر فيها دائما لوحدي فجميل أن أتمكن من مناقشتها مع أشخاص من أعمار مختلفة” وقد عبروا عن حماسهم تبادلهم الفكري وفكرة اختلاف الأعمار، خصوصًا من طرف المشاركين الأصغر سنًا حيث تقول أخرى: “مراحل الحياة كلها في جلسة واحدة”، وقد كان اللقاء تجربة فريدة لبعض المشاركين “لقاء جميل أنا لست متعود على أمر كهذا”.
كما أن للحوار مكاسب متعلقة بمسألة العلاقة واختلاف وجهات النظر بين الأجيال، حيث انطلق النقاش من إثارة مسألة الفجوة بين جيل الأجداد والأحفاد في قضية زواج القاصرات، حيث ذكرت مشارِكة أن: “الجيل الأكبر يكذب على نفسه” وقدَّمت مثال بجدتها وما عاشته من حياة صعبة وأمور لا ينبغي أن نتقبلها مثل الزواج في سن العاشرة، لتتدخل مشاركة أكبر اعتبرت أن “وجود فجوة بين الأجيال هو بالأساس أن المنظور للحياة ليس واحد، والمعناة تلك تحمل معنى معيَّن للحياة، فالعدسة التي ننظر من خلالها للأمور تقدم معنى مختلف…لا ينبغي الحكم بقطعية على الأجيال السابقة بأن حياتهم صعبة” ، لتدعيم رأيها ذكرت مشاركة أخرى: “الأمر الطبيعي أن ينتقد كل جيل تفكير الذي قبله أو بعده”، غير أن اللافت أن النقاش ذهب أعمق من ذلك حين تم الوصول إلى سؤال فلسفي يتجاوز الاختلاف بين الأجيال هو سؤال عن وجود حقيقة مطلقة للأشياء تتجاوز الذوات، تقول أحد المشاركات:” النقاش كله يجعلني أطرح سؤال ما الذي يحدد طبيعة الأشياء؟ ” ، “على أي أساس من المفروض أن نبني حقيقة الأشياء، كيف نلخص الشيء من وجهة نظر المجتمع ووجهة النظر الشخصية لنستطيع الحكم عليه؟ ” ، “هل يمكن أن نحدد حقيقة الشيء إذا كانت وجهات نظرنا تختلف بحسب الزمان والمكان الذي نعيش فيه؟ ” ، “ما نراه كصح أو غلط -مثل زواج القاصرات- هل سنحكم عليه بنفس الطريقة إذا استطعنا التخلص من الأحكام الاجتماعية أم أننا سنظل دائما نراه على حسب المجتمع؟ ” وهو ما يمكن إذا تم استثماره فلسفيًا تجاوز الطرح الذاتي المنغلق لمسألة الأفضلية في الأجيال نحو مطلب الحقيقة، مكَّن السؤال من تحريك الفضول الفلسفي بشكل ملحوظ عند المشاركين الذين شاركوا تصوراتهم للمسألة: “حقيقة الأشياء تختلف بين الأجيال لا يمكننا أن نحدد” ، “لا أتوقع وجود شيء حقيقي هناك حقيقة لكل أحد”.
وبما أن الحوار هو سيرورة لا يمكننا توقع نتائجه أو انجرافاته فإن “الحوار بين جيلين” لم يخلو من الأحكام، نأخذ على سبيل المثال حُكم مشاركة أكبر سنًا على الجيل الأصغر “بسرعة إطلاق الأحكام واستسهال الحكم على تجارب من هم أكبر سنًا بسبب عدم خوضهم لتجارب الحياة” وهو حكم نابع من عدم الفهم على حد قولها “أنا لا أفهم من هم أصغر سنًا…حفزتني هذه الورشات للتفكير، استوعبت أن الجيل الجديد لديه ظنون قطعية وموقف مُسبق من الأشياء وشعور عالي بالاستحقاق، فهل هناك استعداد للسماع أم أنهم يعتقدون أنهم يعرفون ويستحقون أكثر من الأجيال السابقة” ، لترد مشاركة من الجيل الأصغر “هذا تصور عام ليس كل الجيل كذلك” ، و”لكل جيل أفكاره القطعية” ، يمكن تدارك هذا باستدعاء التفكير الرعائي الذي نسعى من خلال لفهم دوافع الآخرين دون أن نتسرع بالحكم عليها.
بالإضافة إلى الجانب الأخلاقي والوجداني للحوار هناك الجانب المعرفي حيث أن لمنهجية الحوار دور في تطوير القدرات التفكيرية من خلال تعلم التفكير عبر تنمية حس السؤال أكثر من الإجابة، والتصالح مع الحيرة… وتسمية القيم محل الرهان؛ واكتشاف أين تكمن التناقضات ومن أين تأتي صعوبة الإجابة، وكيفية مواجهة وجهات النظر المختلفة واقتراح عدة حلول بحجج عقلية…، يؤسس مجتمع التساؤل لتعلم التفكير الذاتي- التفلسف- وبالخصوص عن طريق المناقشة، وإعداد تفكير عقلاني ومؤسس على الأسئلة الأساسية المطروحة حول الوضع البشري في مواجهة مع الآخرين وبتوجيه من المُيسِّر، عبر إقامة فعاليات التفكير الفلسفي من تساؤل وبناء للمفاهيم وتقديم للحجج، وقد حدد معهد بصيرة من خلال موقعه الذي عدنا إليه لتقييم البعد الفلسفي في الورشات، وجدنا:
أولا: التســـــاؤل(InspiredbyInquiry)
الغرض من التساؤل هو الحصول على المعرفة أساسًا ثم لإصدار الأحكام الجيدة، فيكون التساؤل أثناء الحلقة السقراطية بالاستيضاح من مصدر السؤال: فعملت الميسرة على إثارة التساؤل الذي يتم من خلاله العمل على استكشاف واختبار الافتراضات الموجودة في السؤال، وبعد تقسيمهم المشاركين إلى مجموعات شاركوا في اتخاذ القرار للوصول للإجابة، ينطوي التساؤل في القدرة على مساءلة أفكارنا الخاصة لنزع البداهة عنها والكشف عن ما تتضمنه من فرضيات، ومن ثم النظر في التبعات النظرية والعملية للأفكار؛ ومن ثم تم فتح المجال لطرح الأسئلة أثناء الورشات انطلاقًا من مجموعة من السندات التي تثير في ذهن المشاركين تصورات معينة، بعدها بدأوا بطرح مجموعة من الأسئلة التي تنوعت وفتحت زوايا متعددة للنقاش، غير أننا لاحظنا غياب منطق داخلي للتساؤل ما حال دون “توجيه التساؤل نحو تقييم ارتباط الأدلة بالتبريرات والوصول إلى نتيجة على أساس الحجج المفترضة للتساؤل ” كما هو مطلوب، فراعتْ المُيسِّرة اختيار أسئلة تهدف إلى حث المشاركين على التساؤل من خلال استدعاءها للبعد الواقعي، وقد تمكّن المشاركين من الخوض في جو التساؤل الذي تميز بتعدد وجهات النظر وفتح آفاق التفكُّر في هذه المواضيع بطريقة جديدة، وقد اشتغلت الميسرة مع المشاركين على الوصول إلى “السؤال الفلسفي” ، وقد ذكَّرت بخصائص السؤال الفلسفي ” كمثير للجدل” ، و “يأخذنا للتفكير أبعد مما نريد الوصول إليه” و “يساعدنا في التفكير أعمق وأبعد من السؤال نفسه” على حد قولها، وقد منحت المشاركين فرصة للتفكير فيه انطلاقًا من الحوار القائم على الأسئلة المطروحة في البداية ومن النقاش في مجموعات مُصغرة حول سندات مرئية وفيديوهات ثم اعتمدت أسلوب التصويت لاختيار السؤال فالذي يحصل على أكبر عدد من الأصوات تتم مناقشته لاحقًا، تحقيقًا لمبدأ الديموقراطية في الحوار، غير أننا نسجل هنا ملاحظة هامة فعلى الرغم من قدرة هذا الأسلوب على استدعاء التساؤل إلا إنه ينطوي على إشكالية ضبط التساؤل وعلى مخاطرة تشتت الحوار بين عدة مواضيع ومفاهيم، وقد لاحظنا تعدد الافتراضات وتعدد التساؤلات ومن أمثلة ذلك نجد في اللقاء الأول الذي كان موضوعه الأساسي هو المال طُرحت الأسئلة التالية: ( “هل سعادة المال مؤقتة أم دائمة؟ ” ، ” هل هناك سعادة دائمة؟ ” ، “هل السعادة واحدة لكل البشر؟ ” ، “هل يمكن للإنسان أن يكون سعيد وغير مرتاح؟ أو مرتاح وغير سعيد؟ ” ) ، ينطوي كل سؤال على مفهوم معين وافتراض معين يتطلب كل سؤال منها حلقة خاصة، في حين أن التصويت لواحد من هذه الأسئلة للمناقشة العامة بينما بقية الأسئلة لا تختفي بل تُعاود الظهور من جديد، وهذا المراد من الحوار الفلسفي بتنمية القدرة على الربط واكتشاف العلاقة بين المفاهيم، التي تعد كفاية أساسية في التفكير الفلسفي.
من جهة أخرى مكن الاشتغال على التساؤل من تحقيق هذه المكاسب -والمثال القادم هو من الجلسة الثانية- حيث افتُتحت الجلسة بتمرين قطار الأفكار والتي تعتمد على طرح مجموعة من التساؤلات كطرح الأسئلة التالية: ( “ما الذي يجعلني فريدا؟” ، “هل أُفضل أن أكون مع شخص مثلي أم شخص مختلف عني؟ ” ، “حتى تنضج هل الأفضل أن تكون على طبيعتك أم تحاول استيعاب الآخرين؟ ” ، “هل يؤدي الحوار دائما إلى التفاهم المتبادل؟ ” ) وفي هذا التساؤل هناك عدة نقاط إشكالية لمعرفة الذات كمُساءلة الذات حول الاستعداد لقبول الآخرين والانفتاح عليهم، وقد مكن التساؤل من استدعاء مسألة الوعي بأهمية قبول الاختلاف. تقول المشاركة :”ليس شرط أن يؤدي الحوار إلى الاتفاق… يعكس قبول الاختلاف، لا ينبغي أن نقولب كل أحد ولا بأس أن تكون آراءنا مختلفة” وأيضا من الطرح جدلي للوجه الآخر من الحوار هو الاتفاق السلبي مع الآخر فتقول مشاركة: ” أحيانا أعرف أنني على حق وأقول أتقبل رأيك فقط لأتجنب التضارب” والتساؤل حول قيمة الحوار: هل يبقى الحوار مفيدًا إذا اكتفينا بتقبل الرأي لتجنب الجدل؟” ، وهو سؤال ذو أبعاد فلسفية هامة يتضمن مشكلة ذاتية ومطلب للحقيقة…، وبالوصل إلى هذه المرحلة يكون الميسر قد توصَّل إلى مكسب قيمي في الحوار الفلسفي، ومن الملاحظات المنهجية التي سجلناها أيضا هي الانتقال مباشرة -في غالب الأحيان- بين التمارين دون الوقوف عند تلك المكاسب الفكرية الهامة كما حدث هنا حيث تم التوقف عند هذه النقطة والانتقال إلى تمرين آخر، وبالمثل أفرز التمرين عن كم هائل من الأسئلة جاءت كما يلي: ( “هل فهم الآخرين له علاقة بالنضج” ، “هل التَّفهم شرط للفهم” ، “ما معنى أن أكون على طبيعتي؟ ” ، ” من أنا دون الناس من حولي” ، وأخرى “ما هو التواصل الحقيقي؟ ” ، “لو طبيعة الإنسان من الممكن أن تتغير هل هي طبيعة؟ ” ، “هل اللغة تأثر في تعبيرنا عن أنفسنا أم طريقة استعمالنا لها؟ ” ، “هل أنا نفس الشخص حين أتكلم بلغة ثانية” ، “ما الذي يجعلني أنا أنا؟ ” ، ” السؤال الأزلي من أنا؟ ” ) وهذا طرح مُكثف لكمٍ كبير من الأسئلة راجع إلى تنوع السندات والمعطيات السابقة التي استثمرتها المُيسِّرة في الحلقة لكنه يبقى غير ممنهج لا يوصل إلى التفكر في تلك الأسئلة.
تسعى الورشات إلى الوصول كما تقول المُيسِّرة إلى “سؤال فلسفي واحد” حيث تدعو المشاركين إلى: “مناقشة فكرة معينة لفتتنا خلال اللقاء، نترك الأسئلة تتداعى ونختار من جميع الأسئلة سؤال واحد، والمعيار المهم في اختيار السؤال الكبير هو: هل سيأخذنا إلى مساحة أبعد من السؤال ذاته، هل سيجعلنا نفكر، هل سيسبب عندنا مشكلة فكرية، دهشة تدفعنا للحديث أكثر” ، اتِّباع هذا الأسلوب يشوش ذهن المشارك الذي لم يستوفي كل سؤال حقه، وهو ما لاحظناه بعد مشاهدة الفيديو فتساءلت إحدى المشاركات “ما السؤال هنا؟ ” عدم وضوح المطلوب بسبب تنوع الأسئلة سابقًا أدى إلى تعثر في بناء تساؤل منهجي وغلبة أسلوب الاستدعاء، وهو ما سيوجِّه النقاش في الأغلب في اتجاه أول سؤال تم استدعاؤه والحكم على باقي الأسئلة بالنسيان، كما تبيَّن هذا الارتباك بعد المناقشة في الغرف حيث عبرت إحدى المشاركات بعد سؤال المُيسِّرة: ” كيف كانت المناقشة في الغرف؟ ” بإلإجابة التالية: ” محيرة…اندمجنا في الكلام ونسينا أن نختار السؤال” وهذا كما أوضحنا راجع لفراغ منهجي وعدم ضبط للخيط الناظم للحوار، كما أن تحليل فرضيات السؤال ضروري منذ البداية لتوضح اتجاه الحوار، وقد عبر المشاركون أنفسهم عن التشتت الذي يشعرون به حول كثرة المثيرات والأسئلة.
المُيسِّر لا يتدخل في مضمون الحوار غير أنه يكون في مستوى معين مسؤولًا عن تأطير التساؤل حتى يضمن تحقيق غايات الحوار الفلسفية التفكرية التي نكتسبها من خلال مهارات التفكير الفلسفي، لاحظنا أن بعض المشاركين عبروا عن الحيرة في بناء أو اختيار السؤال من خلال قولهم: “كان عندنا سؤالان واتفكر فيهما ولم أتمكن من اختيار أحدهما، أنتِ اختاري (تطلب من المُيسِّرة)” ، وعن الحيرة في صياغة السؤال: “لا أعرف كيف أصيغ السؤال لأني أتوقع أنه سؤال وجواب في نفس الوقت” ، ومن أمثلة ذلك قول أحد المشاركات: “كان لدينا مُشكل في السؤال، السؤال كان عام جدًا، ليس مفصل وفيه جوانب كثيرة ولم نعرف أي جانب نختار، ولم نتمكن من الإحاطة بأشياء كثيرة، وقلنا بشكل عام ممكن نعم و ممكن لا بحسب المواقف” ، “كان لدينا اجماع أن ليس هناك معطيات كافية للسؤال حتى نعرف كيف نواجهه؟ ” ، “سؤالنا خليط لبعض الأسئلة” ، وعليه ينبغي الوعي بأن التساؤل هو بناء نستدعى فيه تصور معين، فيكون هو الخيط الناظم الذي نريد من خلالها تعميق الإشكال لفتح آفاق جديدة لفهم الموضوع، وليس مجرد طرح مجموعة من الأسئلة المتعاقبة، كما أن التساؤل بهذا المعنى يتضمن العمل ليس فقط على طرح الأسئلة وإنما على إعادة صياغتها من خلال تحديد التصورات العامة والمفاهيم والعلاقات القائمة بينها، ما يقودنا للحديث عن المفاهيم.
ثانيا: المفاهـــيم(ConceptCONSTRUCTING)
استيعاب المفاهيم يحصل على مستويين عام وخاص، فالتصورات التي تمثل معنى شخصي نكوّنه ونستخرجه من تجاربنا اليومية، غير أنه يجب الانتباه إلى ضرورة بناءه تدريجيًا من خلال الكشف عن أبعاده الدلالية عن طريق العودة في الحوار إلى الاشتقاق اللغوي، والعمل على ربطه بالمفاهيم المجاورة والمقابلة له ثم إدراجه في حقول اشتغال متعددة: أخلاقية، سياسية… ، فتحت جلسات الحوار الفلسفي المجال لاستدعاء المعاني الخاصة حيث ذكر المشاركون وجهات نظرهم النابعة من تجربتهم ورؤيتهم للمفهوم، غير أننا لاحظنا غياب الربط والقدرة على التجريد والتعميم، ما أبقى المشاركين في مرحلة استدعاء تصوراتهم الخاصة ومقابلتها بتصورات الآخرين دون القدرة على إيجاد نقطة مرجعية للمقارنة والنقد، أو “الجسر الذي يصل كل الأفكار” وهو الأمر الذي انعكس في تشتت المشاركين وحيرتهم تجاه المفهوم، حيث نجد أنهم يعبرون عن عدم وضوحه رغم تقدم النقاش وقد سجلنا أيضا تعليقات من قبيل “ما هو إذن هذا المفهوم” ، “أعتقد انه لا يوجد أبدًا تعريف لهذا المفهوم” ونحن حين نقول بضرورة الضبط لا نعني الوصول لمفهوم واحد، وإنما نعني تقديم الأدوات المناسبة لكل مشارك ليتمكن من صياغة مفهومه وفق مرجعية واضحة (سواء عن طريق المقارنة أو ملاحظة الاختلافات، التعميمات، إلخ..) ولنتجنب أيضا الوقوع في النسبوية المفرطة والنفي. لاحظنا في اللقاء الأول مثلًا بعض الانزلاقات المفاهيمية المتمثلة في دمج مفهوم المال والراحة المادية ومن خلال إعادة صياغة السؤال التالي: “هل السعادة في المظهر والمال؟ ” إلى السؤال “هل توجد السعادة حقيقية؟ ” ، وذلك راجع إلى عدم الاشتغال على مفهوم السعادة قبل إدخاله ضمن التساؤل، ما انعكس على تصور المفهوم عند المشاركين الذين تساؤلوا: “ما معنى السعادة وما هي معاييرها، ومتى أستطيع القول أن هذا الشخص سعيد، إذا كانت السعادة مختلفة عند البشر فما هي النماذج/المعايير التي ستساعدني على الفهم والتحاور” ، إن الاشتغال على التصورات والمفاهيم في هذه المرحلة ضروري لأن هذا النوع من التشتت يمكن أن يُشعر بالعجز الفكري فنلمسه في قول أحد المشاركين:” لكن ليس لدينا تعريف للسعادة! “.
ورغم الإشارة في اللقاء الثالث من طرف المُيسِّرة إلى أهمية المفهوم بأن: “الهدف من المقال المقدم باللغة الإنجليزية هو محاولة بناء قدرتنا عبر بناء المفاهيم حتى من لغة غير التي نفكر بها، فهل المفهوم هو نفسه من لغة أجنبية” إلا أن الاشتغال على المفاهيم بقي ضعيفًا في الورشات، ونلمس ذلك بوضوح في اللقاء الرابع حيث تم تقديم سندات حول تكنولوجيا الهلوجرام والواقع الافتراضي المدعم وبعد مشاهدة فيديو حول تقنية الهولوغرام تناقش المشاركون بعده حول مفاهيم مثل: “الحقيقي” “الوجود” “التفاعل” “حي/مباشر” “التزامن” ، وقد ظهر لنا بوضوح مشكلة ضبط المفاهيم من خلال ملاحظات المشاركين كقولهم: “لا يمكنني أن أرى الارتباط بين مفهوم حقيقة وجود الشيء من عدمه مع مسألة أن الشخص غير موجود الآن” ، “التفاعل مع شخص غير موجود الآن هل يعني أن المشاعر غير حقيقية؟ ” وطرحت إحدى المشاركات السؤال التالي: “ما الفرق بين التواصل والتفاعل؟ ” ورغم محاولة ضبط المفهومين من خلال جدول وضعته الميسرة لتوضيح خصائص كل منهما وتوضيح الحدود غامضة، فنشير هنا إلى أن من أساسيات الاشتغال على المفاهيم هو وضع حقل مفاهيمي، فهنا بالتحديد كان يمكن إدخال مفهوم “افتراضي” فيساهم بشكل كبير في حل مشكلة الارتباك المفاهيم الذي حصل.
ثالثا: التعليـــل(RespectingReasons)
اشتغلت المُيسِّرة على مهارة التعليل من خلال طلب إعادة الصياغة والتوضيح وطلب الأمثلة، ومن خلال مشاركة وجهات النظر وفتح المجال لمن يتفق ويختلف في تبرير المواقف وتحديد درجات الاتفاق والاختلاف في تمرين حذوة الحصان الذي مكَّن المشاركين من الانفتاح على إمكانيات الاختلاف، كما تم الاشتغال على الافتراض والتعليل اللذان يعدان من فاعليات التفكير الأساسية من خلال قراءة واستخراج الأطروحة وصياغتها على شكل جملة خبرية جدلية، وقد لاحظنا أن أغلب المجموعات تمكنت من وضع الافتراضات وبناء الأطروحات والتعليل عليها بشكل جيد، كما لم يخلو الأمر من وجود صعوبة عند بعض المشاركين، عبروا عنها بقولهم: “اخترنا عدة جمل لا أدرى إن كانت جملة خبرية وجدلية” ، وقد تدخلت المُيسِّرة لتوجيههم بسؤال التالي: “ما هو الافتراض الموجود في الجملة؟ لتحويل الجملة إلى خبرية جدلية” ، وتوضيح الفرق بين الافتراض والتعليل؛ وقد مكن تمرين حذوة الحصان المشاركين من تحديد درجة الانخراط بالتدرج من أتفق إلى لا أتفق أبدًا و درجة لا أعلم، والاشتغال على التعليل بشكل فعَّال، الجانب الإيجابي في هذا التمرين هو مشاركة الجميع في إبداء رأيهم، والتعليل كان جيدًا عند أغلب المشاركين بأفكار وأمثلة وإعادة تحديد للمفاهيم، كما مكَّن من استيعاب وجود الاختلاف والوعي به فتقول إحدى المشاركات: “توقعت أن يكون أغلب المشاركين في جهة معينة من حذوة الحصان، بداية انصدمت واستغربت وجود أناس مختلفين، لكن لما سمعت النقاش بدأت أغير رأيي، هناك أفكار كثيرة” ، غير أننا لاحظنا عدم استثمار هذه الكفاءة في بعض الورشات كما هو الحال في الجلسة الأولى التي تطرق المشاركون فيها لمواضيع متعددة في نفس الوقت منها: المال، السعادة، العمل، الشغف والحرية، وهو الأمر الذي أربك استخراج الأطروحات وغَلَّب التعليل الحدسي.
خاتمة: النتائج والآفاق:
فتْح الحوار وتمكين الأجيال من التفاهم يخدم رؤية أن ” المدرسة تجربة علمية واجتماعية متكاملة ولا تختص بالجانب التلقينيّ للمحتوى الأكاديمي فقط، لذلك فهي صورة مُصغرة للمجتمع الكبير” ، وقد قدم نموذج الحوار بين جيلين شكل من أشكال الحوار الاجتماعي الفعَّال، ويمكن أن يساهم في فتح آفاق الحوار في مختلف المواضيع وأن يُفعِّل قيم الاختلاف ونبذ العنف، وذلك بالعودة للنقاط التالية:
- حلقة الحوار هي نموذج للاختلاف تشمل الجميع، يحترم جميع وجهات النظر ويعزز التفاعل بالحجج والأمثلة والحجج المضادة.
- يُمكِّن الحوار بين الأجيال وفق هذه المنهجية من كسر حاجز الوصاية وأفقية المعرفة.
- يفتح هذا الحوار آفاق اللقاء ضمن الفضاء العمومي للمشاركة في الورشات الفلسفية ليشارك الجميع، فكلما تنوعت فئات المشاركين كلما كان التبادل أغنى.
- يمكن أن يمثل المشاركون الذين كانوا سابقًا في الحلقات السقراطية دورًا في توجيه الحوار والحفاظ على غاياته بأن يكونوا راعين للمشاركين الآخرين.
- يتمكن المشاركون من نفس العمر من التعرف على نمط التفكير في جيلهم مع الوعي بإمكانية الاختلاف ضمن الجيل الواحد.
- بالإضافة إلى الاحترام الذي يكنه الأصغر عمرًا لمن هم أكبر سيتعلمون إمكانية الحوار معهم، وسيتعلم الأكبر الثقة أكثر في آراء الأصغر.
- تحضير البالغين ليكونوا ميسِّرين للمعرفة في تعاملهم مع الأطفال من خلال احتكاكهم بنموذج مجتمع التساؤل.
- يتعلم المشاركون ضبط الأنا وتخفيف مقاومة النقد والتبرير بالاعتقاد بأنه يعرف الإجابة فيكتسبون مع الممارسة والتوجيه المهارات الأساسية للتفكير الفلسفي، فيتعلمون العيش والترحيب بالتنوع بدلا من خشيته، والاقتراب من الآخر بعقل منفتح.
- اللقاء الحواري بين الأجيال فرصة لبناء الثقة وتعزيز المهارات الشخصية مثل المرونة والمهارات الاجتماعية كالاحترام والشعور بالاستحقاق والانفتاح والتعاطف وتعزيز التشارك والتفكير الرعائي والتعاوني.
وفي الختام نقول أن الحوار هو صيرورة ومحاولة دائمة لفهم الذات والآخر، إنه رحلة وجود نتعلم من خلالها أن نرعى فيها الآخر وننمي وعينا، وتجربة علينا أن نمارسها كغاية تحمل في ذاتها إمكانات وجودية لا حصر لها، من هذا المنطلق نشيد بتجربة حوار بين جيلين التي انبثقت عن رؤية واعية بضرورة التواصل.
قائمة المراجع:
- مجلة علوم التربية، العدد 34 يونيو 2007، المغرب.
- مجلة أديان العدد06 2014، مركز الدوحة الدولي لحوار الأديان، قطر.
- مجلة الحكمة العدد01، 2020، كلية الدراسات الإسلامية جامعة كيبانغسان بانغي ماليزيا.
موقع بصيرة: https://baseera.com.sa/
حمل مقالة جلسات الحوار السقراطية بين جيلين، الإمكانيات والحدود