تعليم التفكير الفلسفي: بضع افتراضات وتبعات

Public Domains

ماثيو ليبمان

ترجمة: عبير حمّاد

يعتريني السرور إذ سأشكر محرري مجلة (Ethik und Socialwissenschaften) لدعوتي لكتابة هذه الورقة عن برنامج تعليم التفكير الفلسفي، والذي كنتُ جزءً منه منذ بداياته نهاية الستينيات. نظرًا لأن قراء هذه الدورية على الأرجح غير مطلعين بكل ما للكلمة من معنى على الطريقة التربوية التعليمية محل النقاش لذلك كثفت تركيزي على وصف آليتها. لكني أخيرًا قررتُ أن أتطرق بإيجاز للتفاصيل الداخلية لتعليم التفكير الفلسفي وآلياته، وتخصيص معظم المقال للنظر في الافتراضات والتوقعات الواقعة على عاتق البرنامج وكذلك التبعات التي يُمكن استقائها من طريقة تطبيقه في الصف الدراسي. كانت بعض هذه الافتراضات والتبعات واضحة وجلية منذ باكورة تعميم البرنامج، أما الأخرى فتراءت مؤخرًا فقط. حتى مطورو البرنامج أنفسهم لم يكونوا متأكدين حين قُدم مما يمكنه أن يحقق. وليس خطأً قول إنه استمر ونجا محققًا أعلى توقعاتنا، وليس ذلك فقط بل إنه جعل المعايير التثقيفية التعليمية التي كان إيضاحها وتفصيلها منذ بضعة عقود مضت مجازفة طائشة ممكنًا:

كيف يمكن صقل حكم الأطفال وتقويته

كيف يمكن تحسين التعليل لدى الأطفال 

كيف يمكن تعزيز التحليل المفاهيمي

كيف يمكن تهذيب مهارات التواصل بين الأشخاص

كيف يمكن إشراك الأطفال في مشاورات أكثر فاعلية

كيف يمكن للمعلمين تدريس عملية التساؤل بطريقة أفضل، إلى آخره

كانت هذه المعايير وغيرها غير قابلة للتحقيق مُسبقًا لكنها بدأت الآن تترسخ، كما أن الرضا التقليدي المألوف عن التعليم اليوم بدأ يظهر أنه واهٍ أكثر وأكثر. في التساؤل الذي سيظهر ويبزر على الأرجح في السنوات المقبلة أرجو أن يكون لهذه الافتراضات والتوقعات دورٌ مهم ومفصلي.

الجزء الأول

تعليم التفكير الفلسفي: بعض الاعتبارات الأساسية

كان الفهم النظري السائد في الربع الثاني من القرن العشرين يتمحور حول فكرة أن الأطفال الصغار غارقون جدًا في أفكارهم الحسية -أي في إدراكهم، وجهات نظرهم حول الأمور وكذلك في مشاعرهم إلى حد ما- مما يعني أن محاولة التواصل معهم باستخدام المفاهيم المجردة ما هو إلا مضيعة للوقت. وكان من المعروف أن الأطفال المعاقين إدراكيًا مجبورون على المعاناة من عواقب عصبية وخيمة، بالمقابل، كان المعتقد حينها أن حرمان الأطفال من المفاهيم المجردة كالأفكار العامة جدًا والمبهمة لن يتسبب بأية عواقب وخيمة. ولا مجال للمقارنة بين هذه الحالة وبين القطة التي خاط الباحثون إحدى عينيها حين ولادتها، والتي فقدت قدرتها على الرؤية بتلك العين بعد ستة أشهر بسبب فقدان التحفيز البصري. لم يقدر الباحثون قليلو الإدراك حينها على استنتاج نتيجة مماثلة لما حدث مع القطة في حال التخلف الإدراكي.

اليوم وبسطوع نجم فيجوتسكي (1) بقناعته المعارضة بشدة لبياجيه (2) بدأ بعض المربين يزحفون باهتياج في الأرجاء محاولين إيجاد طرق لتعريض عقول الأطفال للمفاهيم المجردة، والتي أُقر بضرورتها لنمو الأطفال الإدراكي. ولكن ما مصدر هذه الأفكار؟ ألا يُفترض بها أن تكون مبسطة جدًا، محددة ودقيقة ومعرَّفة ليفهمها الأطفال؟ إذا كان الجواب بنعم فيبدو أن هذا سيستثني المفاهيم الفلسفية التي يُعرف عنها تعقيدها، عمومها وأنها مبهمة، والتي هي أهم الأفكار والمفاهيم في اللغة (مثل: الخير، الصواب، الحقيقة، العدل وغيرها).

كما اتضح لاحقًا أن مفردات الأطفال الصغار تضم العديد من المصطلحات المتخصصة التي يستخدمها الفلاسفة، مما يعني أن ربما اشترك الطرفان في اهتماماتهما وتحديدًا اللغة. ونظرًا لأن تعليم التفكير الفلسفي منهج وتعليم مبني في أساساته العميقة على اللغة فلا يستبعد اعتباره ضرورة لا غنى عنها لمجتمع مثالي قائم على الخطاب، وتحديدًا لأخلاقيات قائمة على الخطاب.

كيف بدأت

ومن أهم الاعتبارات في خلفية البرنامج هي الاعتبارات التاريخية البحتة. ولذلك فإن ما يلي ذلك ما هو إلا استعراض سريع للظروف التي سادت الفترة التي تسبق تأليف أول كتاب في منهج تعليم التفكير الفلسفي وتلك التي ساهمت في إنتاجه. هذه الاعتبارات عمومًا هي سيرة ذاتية لما حدث.

فور انتهائي من الخدمة العسكرية سنة 1946 التحقتُ بتخصص الفلسفة في جامعة كولمبيا. كانت كولمبيا هي المكان الذي تمنيت أن أدرس فيه منذ عرفتُ أن جون ديوي درّس هناك. وباحتساب سنة درستها مُسبقًا في ستنافورد تمكنتُ من نيل درجة البكالوريوس من جامعة كولمبيا سنة 1948، وقدمتُ أطروحتي لدرجة الدكتوراه بعنوان “مشكلات في التساؤل الفني” سنة 1950. لاحقًا في تلك السنة حصلتُ على منحة فولبرايت لأرتاد جامعة السوربون. بقيتُ في أوروبا سنة أخرى قضيتُ الفصل الأخير منها في فينا. ثم في سنة 1954 بدأتُ أدرس في كولمبيا، لأصبح أخيرًا بروفسوراً في الفلسفة هناك. خلال الخمسينيات لم أتمتع بأي اهتمام معين بالتدريس لكني حين اكتشفتُ ذلك في في الستينيات أغرمت به، كما أُغرمت قبلًا بالفلسفة حين كنتُ لا أزال في الخدمة العسكرية في الحرب العالمية الثانية. ولا عجب أنني رغبتُ بالجمع بين المجالين بشكل أو بآخر. عمومًا كنتُ في أوروبا حين اكتشفتُ الفلسفة القارِّية، لكني لم اعرف حتى عودتي للولايات المتحدة أن الفلسفة التحليلية هي أكثر من غلبرت رايل، جون لانجشو أوستن، ولودفيغ فيتغنشتاين.

خلال الستينيات بدأتُ أنخرط في سلسلة من الحوارات حول الأطفال والفن والتعليم والتربية مع جوزيف دي آيزكون عضو جميعة دراسات الطفل. اكتملت هذه الحوارات خلال مظاهرات الجامعة سنة 1968. لم تخرج إدارة جامعة كولمبيا ولا هيئة تدريسها ولا الطلاب من هذه المظاهرات بخير: إذا كانوا يبدون مرتبكين وغير عقلانيين. وتساءلت ماذا كان يُفترض بهم أن يجربوا مُبكرًا في حيواتهم ليكونوا الآن أعقل. كلهم مرّوا بالنظام المدرسي. هل يمكن أن يكون ذلك هو موضع المشكلة؟ إذا كان كذلك، فهل يمكن أن يراجع وينقّح مسار المنطق والتفكير النقدي الذي أدرّسه للطلاب البالغين الملتحقين بالفصل المسائي ليُدرّس للأطفال ويجعلهم أكثر عقلانية في تفكيرهم، أكثر تأملًا، أكثر نقدًا ودقة؟ كنتُ مرتابًا حول إمكانية استخدام المنطق الجامد الحيادي لتحسين معرفة الأطفال. كيف يمكن تحويله لمحتوى مغرٍ للأصغر سنًا؟ اقترح زميل لي درس المنطق بطريقة ما في قصص الأطفال، لذا كتبتُ من فوري قصة قصيرة جدًا خيالية، سردية، حوارية حول طفل في المدرسة المتوسطة يكتشف مبدأ التغير المنطقي، والذي اعتقدتُ لزمن طويل أنه حجر الأساس في منطق أرسطو. اخترتُ المنطق برغم سمعته الشهيرة بأنه بالٍ، لأنه متسق مع اللغة. بعبارة أخرى كانت اللغة هي التي لم تفقد بعد صلتها بالمعنى. كان لابد أن يقدر الأطفال هذا كما اعتقدتُ.  بل وحتى اسم الطفل بطل القصة “هاري ستوتّليمير” كان تورية لاسم أرسطو. أما بالنسبة للقصة القصيرة فكانت ستكون مفيدة -أعترف- لو أنها كانت فقط مقدمة لعمل أطول يذكر الظروف التي سيكتشف فيها هاري وزملائه في المدرسة الاستنتاجات التي استخلصنا أن فائدتها ستكون مضمونة. لكني لم أدرك مدى ضآلة مشروع كهذا مقارنة بالعمل الذي يخبئه المستقبل. كانت تلك سنة 1969.

أيًا يكن وبعد كتابة فصلين أو ثلاثة آخرين بدأت تراودني بضعة شكوك. بدأتُ أشك بأن يكون الطلاب متجاوبين مع القصة ما لم أمنحهم أفكارًا محرضة واستفزازية ليناقشوها. ومثل هذه الأفكار المهمة والجدليّة يمكن إيجادها بالغوص في أعماق الفلسفة. أضفتُ سريعًا فصلًا يناقش بعض المسائل في فلسفة التربية والتعليم، يتبعه فصلٌ في فلسفة العقل وفلسفة العلوم الاجتماعية. بدت تلك الطريقة سليمة، ثم لاحقًا أضفتُ فصولًا تناقش مسائل في فلسفة الدين، فلسفة العلم، فلسفة التساؤل. فيما بعد أضيف فصل آخر عن المنطق المشروط وآخران عن التفكير النقدي.

حاولتُ خلال كتابتي لقصة هاري أن أتأكد فعليًا من جعل كل حدث في القصة يعكس أفكارًا أو شذرات من أفكار تاريخ الفلسفة. لم أوظف هذه الأفكار بطريقة منهجية تنظيمية، بل ظهرت كنتيجة لربطي الحر لها. فلربما ذكرتني حادثة في السرد بتعليق من تعليقات أفلاطون في محاوراته، أو بملاحظة من ملاحظات لاينتز في إحدى مراسلاته، أو بسطر لفونتانيا اقتبسه ديدرو. كانت تلك الخلفية الغنية من أفكار الفلسفة في الماضي والحاضر التي رافقت مسار قصة نشاطات هاري وأصحابه. لم تكن هذه الأفكار في مسارها التاريخي أو في أي مسار آخر على حد سواء. كانت موجودة هناك للأطفال ليلتقطوها ويتفحصوها إذا رغبوا بذلك، كما لو أنها كانت أصداف جميلة وجذابة قابعة على رمال الشاطئ. كان القرّاء الصغار أحرارًا بدورهم باختيار ما يجذبهم لحواراتهم سوية في الصف ليتفكروا بها. سيؤكد اهتمامهم بالقصة التقاءهم بالفلسفة، والذي بدوره سيرشدهم في تشكيل أسئلتهم واستهلالهم للحوارات. سيؤدي استمرار اهتمامهم إلى أحكامهم اللاحقة وفهمهم. أنهيتُ كتابة قصة اكتشاف هاري ستوتّليمير سريعًا، وتساءلتُ خلال السنوات الأربع اللاحقة عما يجب عليّ فعله بها.

تأسيس معهد تطوير تعليم التفكير الفلسفي

في سنة 1970 أجريتُ تجربة مدتها عشر أسابيع باستخدام قصة هاري، وباختيار عشوائي لمجموعات للتجربة والمقارنة. كانت النتيجة إنجازٌ كبير في التفكير، بناءً على أداء طلاب الصف الخامس قبل وبعد اختبار تفكير منطقي أجريته. كما ظهر أيضًا أثر واضح على مجالات الإنجاز الأخرى، واستمر هذا الأثر لحوالي سنتين على الأقل. حينها بدا أن القصة انتهت. وخلال السنوات الثلاث اللاحقة بحثتُ عن ناشر لقصة هاري ولم أجد، وبدا أنها نهاية الرحلة لستوتّليمير.

لحسن الحظ في سنة 1972 عرضت جامعة ولاية مونتكلاير (ثم لاحقًا كلية ولاية مونتكلاير) إنشاء معهد لتعليم التفكير الفلسفي في حرمها الجامعي. وفي السنة التالية انضممتُ والبروفسورة آن مارجرت شارب -إحدى مؤسسي قسم التربية في الجامعة- وأسسنا معًا معهد تطوير تعليم التفكير الفلسفي، والذي أشرفت هي على برنامجي الماجستير والدكتوراه فيه في كلية التربية في جامعة ولاية مونتكلاير. كانت مهام المعهد الرئيسية هي كتابة ونشر المواد التعليمية والمناهج، تنظيم البحث التجريبي، وتأهيل المعلمين -أو لنسهب في الوصف- تطبيق ونشر تعليم التفكير الفلسفي في المدارس في العالم. كان دافعنا الأولي هو محاولة تجهيز المعلمين الموجودين قبلًا (في الصفوف الدراسية) بفهم كافٍ للبرنامج للبدء بتدريسه مباشرة. وبهذه الطريقة استطعنا توفير تدريب وتجهيز للآلاف المعلمين الممارسين حاليًا خلال السنوات القليلة اللاحقة. كان هذا الجهد في معظم البلدان حينها هو السبيل الوحيد المتاح. أما هدفنا طويل المدى فكان التركيز على تدريب المعلمين الذين لم ينخرطوا بعد في سلك التعليم، وهكذا يدرس الطلاب الذين بدأوا تعليمهم ليصبحوا معلمين الفلسفة للمرحلة الابتدائية كجزء إلزامي نظامي من تجهيزهم لمهنتهم. في سنة 0200 دُمج المعهد مع كلية التربية والخدمات الإنسانية في جامعة ولاية مونتكلاير، مما أدى إلى مضاعفة طاقته الاستيعابية لبرنامج تجهيز الطلاب غير المنخرطين في السلك التعليمي بعد. كنّا نأمل أن تمثل توسعة كلية التربية نموذجًا لكل كليات المعلمين في كل مكان، وأن يتوسع أيضًا دور المعهد لمركز عالمي لتعليم التفكير الفلسفي.

الجزء الثاني

تجديد التخصصات

تعد الفلسفة والتربية من أقدم التخصصات، وتفتخر كلتاهما بتقاليدها، وهذه التقاليد هي عادة ما تٌستخدم لإثبات كونها إحدى المعوقات الرئيسية لأي دمج إضافي. وإحدى الصعوبات الأخرى أيضًا هي الملاحظة المنتشرة التي تنص على أن الفلسفة مسألة نظرية أما التربية فهي مسألة ممارسة عملية، مما يؤدي إلى أن المشترك بينهما يكاد ينعدم. إذا عوملت النظرية والممارسة على أنهما بحاجة لعلاقة تبادلية تجمعهما فلربما ستُرى حالًا التغييرات الممكنة في كلا المجالين ليتناغما معًا. وفي حالة تعليم التفكير الفلسفي عُدل المجالين باعتبار التناغم والملائمة نصب أعيننا.

إعادة صياغة الفلسفة لتناسب الأطفال

أنشأ الفلاسفة في معهد تطوير تعليم التفكير الفلسفي بين سنة 1974 وسنة 1976 برنامج فلسفي نموذجي للأطفال بعمر الحادية عشر والثانية عشر. أرشدت التغييرات التي أجروها أولًا الوعد بنسخة جديدة من البرنامج تكون قادرة على إعادة توجيه الطلاب بعيدًا عن حافزهم المتشدد للسعي للمعرفة وتوجيههم بدلًا من ذلك إلى المعرفة المبنية على التساؤل. فبدلًا من تصوير التعليم على أنه الالتزام بحفظ أطنان من المعلومات (التي يزودهم بها المعلمون وكذلك الكتب) صُورت التجربة التعليمية كبداية لوعي الطالب ومعرفته بالإشكالية واللبس في المادة المقدمة. وسيصعب من غير هذه الإشكالية وهذا اللبس خلق أي اهتمام عند الطالب، ومن غير وجود هذا الاهتمام فإن عملية التعليم تُسحق لتتوقف. ما الذي يُمكن أن يجعل حالة ما مُلتبسة أو مُشكلة؟ انحراف أو تعارض ضئيل ولكن مٌلاحظ، فشل بدلًا من نجاح متوقع، بعض الأدلة على وجود خطأ ماكر صغير ولكن مزعج: هناك طرق لا حصر لها. وطبعًا أي حالة يُمكن أن تكون مُشكلة لا بشكل واحد ولكن بأشكال وطرق متعددة. ومن المحتمل أن يخلق الإشكال في المادة حيرةً في عقل الطالب، وستتجسد تلك الحيرة على شكل سؤال. ولكن الآن سيطرح الطالب السؤال على النص مباشرةً بدلًا من أن يثيره الأستاذ ويوجه طرحه خلال الحصة، وبذلك سيفكر الطالب بنفسه. كل سؤال سيطرحه طالب هو غيض من فيض، والفيض هنا هو عملية التساؤل. إذا كانت جهود الطلاب محاولات للإمساك باللبس وصياغته في بداية عملية التساؤل فستميل المحادثة اللاحقة لخلق فرضيات تقترح كيفية التخلص من الإشكال واللبس بتعديل أجزاء محددة من الحالة أو بتحويلها وتغييرها كاملة.

هذه المراحل الثلاث في العملية التعليمية مناسبة لاستخدامها مع تعليم التفكير الفلسفي بافتراض وجود تخصص فلسفة مُعاد الصياغة. والتغيير المطلوب يتعلق بشكل أساسي بالسياق النصي للعمل الفلسفي. فالعمل الفلسفي الذي يُكلف به طالب جامعي تقليدياً هو دراسة مقال، خطاب أو كتاب. نادرًا ما يكون على شكل حوار، وأشدّ ندرة أن يكون في صياغة درامية أو شعرية. أحيانًا يوجد على شكل رواية، وهذه هي الصيغة التي تناسب نصوص الأطفال، وشخصياتها تكون أطفال يكتشفون أنهم قادرون على نقاش مشكلاتهم اليومية بموضوعية. ورغم أن لكلٍ منهم رأي مختلف اختلافًا واضحًا عن الآخر بشأن مسائل عديدة إلا أنهم مصرون على الانخراط في التساؤل حتى يكتشفوا حلول منطقية عقلانية للمشكلة التي أثاروها. وبالرغم من وجود أجزاء سردية في كل رواية، إلا أن ما يبرز هو غلبة الحوارات حيث يمثل أبطال العمل نماذجًا لحياة الطلاب في الفصل الدراسي. حيث يوضح أبطال العمل كيف ومتى يمكن المشاركة في حوار يدور حالياً، بينما يمثلون في ذات الوقت نماذج للتفكير.

ذاع صيت الفلسفة منذ زمن -على الأقل في بضع مجالات- أنها مكرسة للاهتمام بتحسين التفكير وتطويره، ولذا لا عجب أن مؤيدي فكرة تعليم التفكير الفلسفي عادة قلقون بشأن التصور الذي ساد في المدرسة فيما يتعلق بماهية التفكير وما يجب عليه أن يلائم التفكير الفلسفي. في السنوات الأخيرة الماضية دافع المربون بصورة متزايدة عما يسمونه “عمليات التفكير العليا”، علاقة ثلاثية بين التركيب والتحليل في قواعده والتقييم في ذروته.

أما الاتجاه الحالي فهو استبدال التركيب بالتفكير الإبداعي، استبدال التحليل بالتفكير الناقد، والافتقار إلى بديل موثوق للتفكير التقييمي. يتراءى لي أن العمود الثالث من أعمدة مهارات التفكير العليا يجب أن يكون اسما يقترح إدراك للقيم إحساس لما هو متعلق بتطبيق نظرية على موقف عملي، فهم للدور الإدراكي للمشاعر وتحديدًا تلك الصفات الاجتماعية في الشخصية كالصدق، المراعاة، الشفقة، وتمييزٌ للتفكير الذي يظهر حقًا حين نقدر عملاً فنيًا، حين نستكشف منظرًا طبيعيًا، حين نفحص قوقعة حلزونة، نميز الاختلافات التي بالكاد تُلاحظ، ونستكشف حالتنا وأفعالنا العقلية الشخصية. اقترحتُ أن يكون العمود الثالث من أعمدة مهارات التفكير العليا هو التفكير الرعائي، بفهم أن التفكير الرعائي يتضمن هنا التفكير المعني (بالآخرين المتورطين في الحالة)، المقدر (لكل نسق كجزء كان أو ككل)، معياريّاً (مُقترح لكل ما يجب فعله في الحالات الأخلاقية المتنوعة) وتشاوريّاً (ساعيًا لتقدير كل العوامل وواضعًا السياق في الحسبان قبل الحكم على الموقف).

يعامل برنامج تعليم التفكير الفلسفي هذه المعايير الثلاثة معاملة جادة. تمتلئ روايات المعهد بأمثلة على التفكير الناقد، الإبداعي، والتفكير الرعائي. تكتشف الشخصيات الخيالية التعليل المنطقي، تنخرط في تصحيحٍ ذاتي، تحاول أن تقنص المهم في السياق، وتحديدًا حين تكون المسائل المطروحة ذات طبيعة أخلاقية. وأخيرًا هي شخصيات مراعية للآخر، للطفل الذي توفي والده، للطفل الذي وُلد ضريرًا، للطفل الذي اُتهم بتخريب المدرسة. فهي تواسي بعضها البعض، تدعم بعضها البعض، تمنح بعضها البعض الأفكار لتستفيد منها أو لتنقدها. أما الكتيبات الإرشادية من ناحية أخرى فهي مليئة بالتمارين والحوارات المُجهزة الملائمة لتكون بين شخصين، والمتضمنة لمفاهيم ذُكرت في الرواية. يحوي كل كتيب المئات من الأسئلة لكن دون إجابات (إلا في حالة مسائل المنطق الرياضي). تُساعد التمارين الفلسفية المعلم على الإشارة إلى المسألة أو القضية، وتميل إلى التركيز على أهمية التفكير الناقد. أما الحوارات المجهزة فيمكن استخدامها لإثارة محادثة ولاكتشاف مجال وصورة المفاهيم المعنية.

طالما أن معايير مهارات التفكير العليا محفوظة يبدو أنه لا أهمية لكون بعض الأطفال يفضلون العمل على مشاريع صغيرة يمكن التحكم بها. فمن الأفضل دراسة فسيفساء الفلسفة حجراً واحداً في كل مرة على ألا تدرس أبدًا. لكن علينا في الوقت نفسه أن نضع نصب أعيننا وجود تناظر عميق بين الفلسفة والطفولة، لكنه يظل ناقصا حتى تنضم اللغة للمعادلة وتخلق الوساطة (وكذلك للنفور) بين الاثنين. ربما هو تناظر وُلد من فكرة أن تعليم التفكير الفلسفي يسعى لإيجاد جذر وجود المرء ويعتقد أنه وجدها في الطفولة، بينما يسعى الأطفال لاكتشاف المعنى الجوهري لوجودهم ويعتقدون بأنهم قادرون على ذلك باستخدام معاني الفلسفة.

لا يستمتع الأطفال بالفلسفة كتساؤل فقط، أو “كممارسة لها” أو بسبب الفلسفة السردية، الحوارية، أو الدرامية -أو بأي اسم يمكن تسمية تعليم التفكير الفلسفي به- لكنهم أيضًا يعدونها مفيدة. إذ يبدو أنها تلبي حاجاتهم وتثير اهتمامهم وتستحثه. فحين يواجهون المسائل المُشكلة في حياتهم يقدرون قوة التفكير والحكم المُحسَّن وصلتهم به. فهم لاحظوا منفعة المفاهيم، قيمة الأفكار، قابلية المنهج للتطبيق، فائدة التماسك والترابط المنطقي، طرق ترويض وتطويع الكلمات لصالحهم، الإرشاد الذي يمنحهم إياه المنطق، حماسة الفرضية، والاحساس بالتحرر الذي يمنحهم هو الخيال. مر زمان إن لم أكن مخطئًا كان يعد فيه وصف مسكنات الألم غير ضروري للأطفال ولا الحيوانات التي تعاني “لأنهم لا يحسون بالألم على الأقل لا بالشكل الذي نحسه نحن”. وهذا هو الوجه الآخر لإنكار متعة الأطفال الإدراكية والفكرية بناءً على أنهم ” لا ينتفعون بالأفكار المجردة”. كان الأمر يشبه نصب جدارٍ مهول بين الأطفال والمفاهيم المحفزة للتفكير. وبإعادة صياغة تخصص الفلسفة لتجهيزها لتحتل منزلة مهمة في المدارس كجزء جوهري من المناهج نخطو إلى الأمام ونتقدم نحو هدم ذلك الجدار البغيض.

تنص أحد المعايير على أن الفلسفة تحاول أن تنجو لتستمر من خلال تغيير طفيف ينتج عنه إعادة صياغتها، وأحد الأمثلة على هذا هو الرأي القائل بأنها مجال معياريٌ جدًا أكثر من كونه تعليمي تثقيفي. وهذا الرأي يبحث عن الظروف المناسبة ليقول فيه هكذا كان من المفترض أن يكون الأمر بدلًا من ذكر حقيقة الأشياء. (وفي هذا الصدد هو رأي أشبه بالفنون لا بالعلوم). إن إحدى ميزات كون الفلسفة معيارية هو إمكانية وجودها في مجال إعداد المناهج. إذ تتضمن ممارسة التفلسف في هذا المجال أولًا خلق أوصافٍ مطابقة تمامًا لسلوك الطفل في كل مرحلة عمرية، ثم تصميم منهج يتناسب مع هذه الأوصاف الدقيقة. هناك بعض الاتصال بين كل مرحلة وأخرى، وبعضٌ مما يعكس أهداف التعليم والتي ستكون معيارية بطبعها. وبمنح المناهج منحنى فلسفيًا -إذا جاز التعبير- يمكن تمهيد أهداف التعليم لكل مرحلة، ويمكن للمنهج بأكمله أن يكون متواصلاً وعقلانياً. وهذا سيسمح للانتقال من مرحلة لأخرى بأن يكون منطقياً وغير ملتبس، يسمح بوجود توزيع للحركات الفلسفية والتمارين الفلسفية المبنية على بعضها البعض، وتدفع الطلاب نحو مهارات التفكير العليا.

لن تمر هذه التغيرات على الفلسفة وإعادة صياغتها لتصبح مناسبة للأطفال دون ثمن. اختفت كنتيجة لذلك الحركات والأنظمة الفلسفية الكبرى، اختفت المناظرات، اختفت الأسماء والتواريخ، اختفى المرشدون المتباهون بمعرفتهم لكل شيء. ونجد في مكانها عوضًا عن ذلك مجتمعات تساؤل تتميز بتشاور غير خصامي، تتشارك الإدراك والتفكير الموزع بينها، تهذيب الخيال الأدبي/الفلسفي، تشجيع القراءة المتبحرة، والاستمتاع بالنصوص الحوارية. فيما عدا ذلك فإن الخسارات مؤقتة. ففي نهاية المطاف ما فُقد سيوجد مرة أخرى، في التعليم الثانوي والتعليم الجامعي، ولذلك فإننا سنمنح بعض الطلاب هذه المرة تجربة مكررة حتمًا.

تجديد التعليم: مجتمع التساؤل

تتطلب إعادة صياغة الفلسفة تفكيك كتل الأفكار الفلسفية الكبرى إلى أفكار مجزأة والتي سيُعاد دمجها في سياق قصص الأطفال؛ لجعلها أسلس وأسهل لطلاب المرحلة الابتدائية لفهمها. وفي المقابل، تتطلب إعادة بناء التعليم – التوقعات المبنية على المناهج وطرق التدريس الممارسة- تحويل الصف الدراسي إلى مجتمع تعامل فيه الصداقة والتعاون كمساهمة إيجابية في بيئة التعلم، بدلًا من كونها بيئة شبه خصامية وتنافسية تسود معظم الفصول الدراسية في مراحل الطفولة المبكرة.

أيًا يكن فهناك مجتمعات، مجتمعات مفكرة، ومجتمعات غير مفكرة، مجتمعات متأملة ومقومة للذات ومجتمعات أخرى ليست كذلك. أما ما يتطلبه تعليم التفكير الفلسفي كما هو واضح فهو مجتمع تساؤل، يضم عادة ولكنه لا يشابه “مجتمعات العلماء” و”مجتمعات التعلم” وهكذا. وليست كل الدراسة تساؤل بل على العكس من ذلك. إذ يتطلب وجود التساؤل بعض الشك، بعض الإدراك أن حالة ما تتضمن صعوبات شائكة وهي بشكل ما مُشكلة. لابد من وجود تساؤل مقومٍ للذات يضع في الحسبان كل الاعتبارات ويصيغ فرضيات بديلة في محاولة لحل المشكلة. ويتطلب هذا التصور للتساؤل مشاركين يصقلون رؤية بلوغ مهارات التفكير العليا التي خطط لها مُسبقًا. يتضمن التساؤل تساؤلًا، تنقيبًا أكثر دقة عن الحقيقة، تنقيبًا أوسع وأشمل عن المعنى. فيما يلي بعض الخصائص الإضافية لمجتمعات التساؤل:

1.الشمولية: يمكن أن تكون المجتمعات متنوعة داخليًا ويمكن ألا تكون -فربما أو ربما لم يكن المشاركون من دين واحد، جنسية واحدة، أو مستوى عمري واحد- لكن لا أحد من أفراد المجموعة مستثنى من نشاطاتها دون مسوغٍ مقبول

2.المشاركة: تشجع مجتمعات التساؤل أفرادها على المشاركة النشطة ولكنها لا تتطلب ذلك. ثمة إحساس بأن المجتمع بما يتشاركه هو مخطط إدراكي يشبه الكتاب، وهذه المخططات كأنها صورة كاملة لنظم العلاقات التي تستدرج المشاركين للمشاركة كما يفعل كتاب مشوق بقارئه فلا يرغب بتركه. وحقيقة أن ما يقرأه الأطفال في برنامج تعليم التفكير الفلسفي هو رواية تجعلهم متحمسين أكثر لقراءة الصفحة التالية والصفحة التي تليها لمعرفة ما سيحدث.

3. الإدراك المُشترك: في جلسة تأمل خاصة ومطولة سينخرط الفرد في سلسلة من الأفعال العقلية التي تهدف إلى التغلغل في المسألة المطروحة وتحليلها. لذا سينخرط الشخص في الاندهاش، التساؤل، الاستدلال، التعريف، الافتراض، التخمين، التخيل، التمييز والتفريق وغيرها. أما في الجلسات المشتركة فهناك إدراك مشترك (يُسمى أيضًا التفكير المقسّم) حيث ينخرط أعضاء مختلفون في نفس الأفعال في المجتمع. يطرح أحدهم سؤالًا، يعترض آخر على افتراض ضمني، يطرح ثالث مثالًا معاكسًا. لربما كانت المسافة الثقافية المقطوعة نفسها، لكن الطريقة الثانية تبرهن على إمكانية وجود مجتمع مفكر.

4. العلاقات المباشرة: هذه العلاقات ليست جوهرية في مجتمع التساؤل لكنها يمكن أن تكون مفيدة جدًا. فالوجوه هي مستودع المعاني المعقدة التي نحاول باستمرار قراءتها وتفسيرها. وهذه المعاني ناتجة عن خواص الوجه المتحركة التي تبدو قريبة جدًا فيما بينها. ولذا يتقابل الإداريون حول الطاولات ليجمعوا بين المعاني البادية على الوجه والمعاني المبينة من الحوار والحديث. ويمكن أن يفعل الأطفال الشيء نفسه.

5. التنقيب عن المعنى: الأطفال نهمون حريصون على الفهم، ولذلك يحاولون استخلاص المعنى من كل جملة، من كل شيء، من كل تجربة. لذلك تعد مجتمعات التساؤل ساعية للمعنى سعيًا حثيثًا كما تعد وحدات العناية المركزة في المستشفيات منقذة للحياة.

6. الشعور بالوحدة والتضامن الاجتماعي: عادة ما يرتبط الأطفال ببعضهم البعض بكثافة وتقارب لكنهم يعجزون عن تسمية ذلك بالصداقة. يميل بعض المعلمون إلى أن يعدوا صداقات الفصل الدراسي هذه مهددة لسلطتهم بعض الشيء، ولذلك يتبنون أسلوب فرق تسد. لكن يجب ألا تعامل صداقات مجتمعات الصف الدراسي المقربة على أنها تهديد.

7. الحوار والتشاور: تتضمن هذه الممارسة ملاحظة واعتبار البدائل بتفحص الأسباب التي تدعم كل تعليل. ونظرًا لأن الحوار والمشاورة يحدثان عادة عند التجهيز لإصدار حكم ما على حالة ما فإننا نعد العملية “وزنًا” للأسباب والبدائل. يمكن مقارنة الحوار بالجدال مقارنة مفيدة، نظرًا لأن المجادلين ليسوا بحاجة أن يكونوا في موقف من يحاول نيل قبول الآخرين، بينما المتحاورين عليهم ألا يحاولوا جعل الآخرين يصدقوا ما يصدقونه هم.

8. النمذجة: في برنامج تعليم التفكير الفلسفي كل صف دراسي من صفوف أبطال القصة (القصص تتحدث عن تلاميذ في مدرسة) هو نموذج للتساؤل الفلسفي للطلاب. وهذا النموذج لشكل الصف الموجود في القصة يتعارض مع طريقة تدريس طلاب المدرسة الابتدائية التقليدية التي تدعي بأن على المعلم أن يكون النموذج للطلاب. يمكن أن يختبر الواحد هذا الادعاء بالأخذ بعين الاعتبار أهمية السؤال في الفلسفة. لربما يميل الطلاب إلى افتراض أن أسئلة المعلم هي التي تحتاج لإجابات، لا حاجة لأسئلة إضافية. ولذا على الأرجح يفضل الأطفال الشخصيات الخيالية كنموذج لهم على البالغين الحقيقين.

9. التفكير بالذات: لا يمكن الاستخفاف بإمكانية تحول المجتمع لمعادي لمبدأ التفكير المستقل. فلربما تطلب المخطط القوي للعمل في المجتمع الانغلاق والموافقة كما يحدث بين أعضاء هيئة المحلفين، ولربما أصبح خيار الفرد مجرد صدى لخيار الأغلبية. مع ذلك يرغب الطلاب في أن يعتد بأصالة إجاباتهم. يجب أن تحترم آراء الآخرين، لكن لا يفترض أن يستخف بها. في مجتمع تساؤل سليم سيتعلم الطلاب تشكيل آرائهم ببنائها استنادًا لأفكار بعضهم البعض، بالرغم من عدم ضرورة تطابق تشكيلها. كما سيتعلمون أيضًا في مجتمع يحث على اكتشاف الجانب الآخر للسؤال وجود مواقف سيفخر الواحد فيها من وجوده في الناحية الأخرى.

10. التحدي كإجراء: حين يتجادل الأطفال بينهم فليس من المستغرب أن يتحدوا بعضهم البعض وأحيانًا بحدة. إذ سيطالبون بعضهم البعض بمعرفة السبب الذي يدعم هذا الحكم، أو معنى هذا التعبير. وإذا تحدوا بعضهم باحتدام فذلك لأنهم لا يعرفون أي طريقة أخرى للتحدي. ستعلمهم تجربة مجتمع التساؤل أن التحدي جيد لكنه يجب ألا يكون بعنف أو باحتدام. إنه مجرد إجراء إدراكي آخر: على المشاركين أن يعملوا في مجال التساؤل المطلوب. عادة ما تغمر الراحة الأطفال بسبب هذا الاكتشاف: ليس البالغون وحدهم التواقون ليكونوا مقبولين.

الجزء الثالث

تجهيز التجربة الفلسفية

لم تكن تجربة اكتشاف الفلسفة للعديد من الطلاب تجربة مشوشة أو ممتعة. (ولا حاجة لقول إنها لعددٍ آخر لم تكن أي شيء، وبالكاد أكدت لهم آرائهم وأثبتتها). بينما نحن نمضي لتجهيز الفلسفة لإدخالها إلى المدارس الابتدائية لتصبح موجودة بانتظام، علينا أن نأخذ بعين الاعتبار طرقًا متعددة لتقديمها لزيادة الرغبة بوجودها في عيون المعلمين والطلاب كذلك. ننوه هنا إلى ثلاثة مراحل مهمة وحاسمة في تطور التجربة الفلسفية:

القراءة:

يهدف الفصل من فصول برنامج تعليم التفكير الفلسفي في الصف الدراسي إلى إقناع طلاب الصف بالتأمل: للانخراط بقراءة تأملية، تساؤل تأملي ومحاورة تأملية. بقد ما ننجح في أيٍ منها فإننا على الأرجح سنعزز التأمل في الاثنتين الاخرى.  وهذا يعني أن كل فصل يجب أن يبدأ بإجراء أو حادثة يمكن أن تُعد ما سيثير التنقيب عن المعنى والسعي له: ربما شيء تحاوري، أو شيء غني بالمعاني التي يمكن البحث عنها وكشفها، ويحفظ لملاحظته وتفحصه. في هذا الصدد تشابه قراءة النص الفلسفي للمرة الأولى مشاهدة لوحة فنية للمرة الأولى، أو الاستماع لمقطوعة موسيقية للمرة الأولى. يجب على الواحد أن يتشرب ما يجب تشربه في كل من هذه الأعمال، عليه أن يقدر ما هو قيم، يفهم ما هو مُصرح، يكتشف ما هو مُفترض، يستنتج ما هو مُضمن، يفهم ما هو مقترح، ويلخص كل ما وضع فيه. هذه هي القراءة المتعمقة المضادة للقراءة السطحية، وهي هدف يجب على الطلاب أن يطمحوا له.

نشجع أن يقرأ كل طفل النص مرة واحدة بمفرده قراءة جهرية. إذ أن لقراءتهم النص قراءة شخصية قيمة أخلاقية في التسلسل الموضح لهم بمشاركتهم النص. كما تساعد القراءة الجهرية -وهي ممارسة لا يفضلها كثيرًا مختصو القراءة- الأطفال على رصد معاني النص بأنفسهم. وهي أيضًا فرصة لتصحيح نزعتهم للقراءة الفردانية وانعدام التعبير الفصيح وهو ما يتسبب بفقدان ملاحظ للمعنى. تفشل القراءة الحيادية في إشعال جذوة الأحاسيس والاستجابات في نفس القارئ التي تضفي أهمية على الفارق البسيط والتمييز الذي يحاول النص إيصاله والتعبير عنه. وأخيرًا تدعم القراءة الجهرية ممارسة الإنصات الحذر المتنبه واليقظ الذي هو لازمة لدقة التفكير وصحته.

التساؤل:

حينما تكتمل قراءة الحدث في النص عادة ما يدعو المعلم هؤلاء الطلاب المحتارين أو المرتبكين ليصيغوا حيرتهم على شكل سؤال. ثم تكتب هذه الأسئلة على السبورة متبوعة باسم طارحها. (لم يرى معظم الأطفال أسماؤهم مكتوبة على السبورة في الحياة المدرسية العادية، خاصة كمساهم بشيء يساعد في عمل المجتمع. فهي لحظة يعتريهم فيها الفخر باستحقاق). باكتمالها ستشكل الأسئلة قائمة من اهتمامات أعضاء المجتمع المتنوعة ووجهات نظرهم في الموضوع محل النقاش. كما أنها تمثل أيضًا سيرًا محتملًا للمناقشة.

هذه لحظة حيوية وحاسمة. فإذا اختار المعلم بنفسه الأسئلة التي سيتم الحوار عليها سيفسر الطلاب هذا الفعل كأثر من تأييد قديم للسلطة. ولحسن الحظ سيوجد عددٌ من المنسجمين مع الديموقراطية بديلًا لهذا. أما ترتيب الأسئلة التي سيتم الحوار عليها فيمكن اختياره بالتصويت، بالقرعة، أو بالطلب ممن لم يطرح سؤالًا أن يختار. سيساعد هذا التقدير للمنزلة الرفيعة للتساؤل (والتقليل من قيمة الإجابة) على تذكر أن وضع الأسئلة هو الطرف الرائد في عملية التساؤل: فهو يفتح باب الحوار، باب نقد الذات وتصويبها. لكل سؤال إمكانية لوضح احتمالات الاستقصاء، لجعل جزء من العالم محل تساؤل، وهذا يساعد في تمهيد الطريق نحو القابلية للخطأ واستيعاب افتراض خطأ الآخرين يكشف الأخطاء التي ارتكبها الواحد دون وعيه بها. أن تسأل يعني أن تؤسس الشك وأن تشرعنه وتجيزه، وأن تدعو لتقييم حاسم ونقدي. التساؤل يلمح بكل صراحة إلى احتمال خيارات جديدة وبدائل حديثة بدلا من انشطار وتفرع الإجابات “الصحيحة” أو “الخاطئة”. يجب على الواحد أن يظل باستمرار في بحث عن طرق جديدة لتشجيع تساؤل الطلاب لأن العديد من الممارسات التي تستحق التصحيح – ويكاد ينعدم تبريرها لما فيه لبس- لا يمكن بلوغها إلا بالتساؤل المبدع والمبتكر.

إحدى أهم أنواع التساؤل هو التساؤل اللاحق (أي السؤال الذي يُطرح بعد طرح السؤال الأساسي وإجابته)، وأكثر مثال جدير بالملاحظة على التساؤل اللاحق هو “ما الذي تعنيه بـ ()؟”. والأشخاص البارعين الذين يجرون المقابلات -كالمذيعين المخضرمين- قادرون على طرح سؤال لاحق واحدًا تلو آخر حتى يستنزفون الموضوع محل النقاش. ومعلمو الفلسفة وطلابها أذكياء ليسعوا نحو نفس الخبرة.

ليس من السهل عادةً التكهن بغرض السائل أو نيته. وعادة ما تكون الأسئلة بمثابة طعم لجعل الطلاب واعين ومدركين لوجود مشكلة ضمنية. أما المشكلة فتكمن في أن السؤال هو ذلك الغيض المرئي من الفيض. أيًا يكن فقد اقترح مسبقًا أن السؤال هو طليعة التساؤل ومبتدأه. فالغموض التوجيهي في كلاهما صحيح، يشعل السؤال الشكوك في عقولنا والشك هو بداية التساؤل.

الحوار:

يبدأ الحوار عادة بالالتفات إلى الشخص الذي أثار السؤال الذي يقرر المجتمع الابتداء به. لربما طُلب من هذا الطالب أن يقول بعض الكلمات عن مصدر السؤال، عن الأسباب لطرحه، ولم يبدو مهمًا. بعد إجابة الطالب ينضم بقية الطلاب ليبينوا موافقتهم لما قال أو مخالفتهم.

في أغلب الظن أن سيبرز أكثر من محور للتفكير نظرًا لأن القراءة والتساؤل أثارت تنوعًا في الاهتمامات بين الطلاب وسيرغبون بمتابعة هذا. لربما استطاع المعلم التلاعب أو التنسيق بين المحاور المتعددة للتساؤل، التي عادة ما تبدو أكثر إزعاجًا ومضايقة للبالغين أكثر منها للأطفال القادرين بوضوح على المشاركة والانخراط في عدة أسئلة في الوقت نفسه. (تدعم هذه الملاحظة قدرة عددٍ من الطلاب على تذكر ما قيل وما وافقوه برأيهم بدقة أكبر مما يقدر عليه البالغون).

لا شيء يحسن المهارات الإدراكية كالحوار والنقاش. وهذه الفكرة على الأرجح صحيحة في كل المجالات إلا أنها أصح في صفوف الفلسفة والتفكير الناقد. في أحسن الحالات المتوقعة يتضمن الحوار زميلًا من نفس التخصص يناقش مسألة جدلية ذات أهمية نظرية. وهنا يوظف الأشخاص أفضل ما عندهم من منطق وتفكير، يستفيدون أحسن استفادة من معرفتهم المرتبطة بالمسألة، ويعرضون حكمهم الأكثر منطقية على المسألة. ولا يختلف الحال كثيرًا عما يحدث في مجموعة تساؤل للأطفال. لربما تكون المشاكل التي يناقشونها بسيطة متواضعة لكنها لربما تضمنت أيضًا مفاهيم بدرجة كبيرة من التجريد. وهم يحاولون أيضًا توظيف أفضل مهاراتهم التفكيرية، معرفتهم المرتبطة بالمسألة المطروحة، وأكثر أحكامهم منطقية؛ لأن ذلك كله يحدث علنًا أمام معلميهم وزملائهم. جالسين في كراسيهم التي تُشكل دائرة وجهًا لوجه مع زملائهم سيحاولون تقديم خير ما عندهم، مستخدمين نفس المهارات الإدراكية ونفس الأدوات الإدراكية (كالأسباب والمعايير) التي رأوا الآخرين يستخدمونها.

يخلق الحوار حالة من التفاوض في الفهم، للتشاور حول الأسباب والخيارات، لتفحص ودراسة التفسيرات. بالنسبة للأطفال هي ذروة التجربة الفلسفية. يمكنها ببساطة أن تكون ممتعة ومشوقة، والعديد من الصغار يفهمون الفلسفة ويعرفونها بمرحلة التحاور والمناقشة هذه.

هوامش المترجمة:

(1): ليف فيجوتسكي: عالم نفس سوفيتي.

(2): جان بياجيه: عالم نفس وفيلسوف سويسري.

حمّل مقالة “ماثيو لِبمان، بضع افتراضات وتبعات”