الفلسفة مع الأطفال بوصفها طريقة للتغلب على الظل الذي يلقيه الكبار على الطفولة “بيداغوجيا الخوف”

مركز أبحاث التحري عن الشجاعة

كيزل، أ. (2021). الفلسفة مع الأطفال بوصفها طريقة للتغلب على «الظل الذي يلقيه الكبار على الطفولة» وعلى «بيداغوجيا الخوف» المجلة الدولية لدراسات الخوف، 3(2)، 13-24.

http://hdl.handle.net/1880/114025

Kizel, A. 2021, ‘Philosophy with children as a way of overcoming the “shadow adults cast overchildhood” and the “pedagogy of fear’, International Journal of Fear Studies, Vol.2, pp.13-24.

مقالة صحفية

Arie Kizel ©2021

حُمِّل من PRISM: https://prism.ucalgary.ca

آري كيزل Arie Kizel

ترجمت المقالة بعد الحصول على الإذن الخطي من المؤلف أو الناشر

“جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن المؤلف وليست مسؤولية معهد بصيرة أو دار بصيرة للنشر أو أي جهات أخرى متصلة بها من الجهات والهيئات الثقافية التنظيمية أو المانحة وغيرها”

ترجمة: إلهام حسين

تدقيق: سلمان بوخمسين

الملخص

تقدم هذه المقالة فكرتين لهما آثار متوافقة: “الظل الذي يلقيه الكبار على الطفولة”، و”بيداغوجيا الخوف”. وتعمل هاتان الفكرتان على تنظيم وتأطير المشاكل المفاهيمية التي يثيرها نظام التعليم التقليدي، ثم تطرح حلًّا يعتمد على الفلسفة مع/للأطفال (PwC/P4C)، ففي الوقت الذي تعمل فيه الفكرتان السابقتان على تحديد المساحة التي يحتلها الأطفال وتقليصها، تمثل PwC/P4C نهجًا تربويًّا نشطًا وديناميكيًّا يسلط الضوء على عالم الطفل.

الظل الذي يلقيه الكبار على الطفولة

في مقالة سابقة بعنوان “بيداغوجيا الخوف بوصفها مسألة تشل الرجال” (2015)، وُصِفت الفلسفة التربوية التي هيمنت تقليديًّا على العالم الغربي بأنها “تلقي بظل مهدد من المعرفة على… عالم الأطفال” (ص2). وقد بُنِيَت هذه المساحة الهرمية الضيقة على إصرار المعلمين والمجتمع على الإجابات المطلقة ومهارات القراءة النصية، بدلًا من مهارات وإنشاء حوار بين البالغين والأطفال.

اعتاد التربويون التقليديون على تشجيع الطلاب على الصمت بدلًا من الكلام، واجترار الأفكار بدلًا من الإبداع، وقدَّموا لهم إجابات مُعَدَّة سابقًا تستند إلى الكتب المدرسية والسلطات والتقاليد وغيرها، بدلًا من التشكيك في الحكمة المتعارف عليها، وبدلًا من الاستقصاء والتفكير والتأمل والتساؤل عن العالم من حولهم (Gur-Ze’ev, 2010). إن عملية طبع الصور في أذهان جميع المشاركين (طلابًا وأولياء أمور ومعلمين وصناع قرار) ممارسة متحجرة تخلق بيئة معرفية مختزلة مصممة لنقل رسالة مفادها أن التعلم عملية سلبية، والتعليم شكل من أشكال التعبير، وأن المعرفة شيء، والطلاب الأذكياء هم من يمتلكون المعرفة، أي -بتعبير آخر- هم من يتقنون مجالًا صغيرًا من المعرفة ويلعبون الدور الذي عيَّنه لهم الكبار. في حين يُصوَّر المعلم “الجيد” مخبرًا كليَّ المعرفة، يدير الفصل ويستخلص من طلابه إنجازات قابلة للقياس (كمية) بما يتماشى مع النماذج الإحصائية والمنحنيات الطبيعية.

يُعَد تضليل الطلاب هذا سمة مميزة للمربين في البيئة المنزلية، كما للمسؤولين عن نظام التعليم الرسمي. بالتقليل من قدرة الطلاب على التعامل مع محيطهم، يسوِّغ الكبار المتبنّون لهذه السياسة المقيِّدة بأنها تهدف إلى حماية التلاميذ من أنفسهم ومن المجتمع والعالم. وهكذا يُقيَّد الطلاب في عالم محدد من الأفكار التي تمنعهم من التعامل مع وجهات نظر مختلفة، ومن اللعب المفاهيمي الحر، والاستقصاء المستند إلى عملية و/أو تطوير مفاهيم جديدة. ويحدد هذه المساحة المغلقة من الأسئلة المجاب عنها سابقًا الكبار – الذين يعرضون حياة الطلاب أمامهم على أنها ضيقة ومحدودة وجزئية ومضللة في كثير من الأحيان. وغالبًا ما يعكس الراوي مخاوفه الخاصة بشأن العالم ونفسه والمستقبل، فينشر إحساسًا بعدم الثقة بالتلميذ وتعلمه (Kizel, 2016a).

يتطابق مفهوم “الظل الذي يلقيه الكبار على الطفولة” مع فكرة الكبار “المستعمرين” التي طرحها روسو Rousseau (1997) وماثيوز Matthews (1994, 1984) ونظرية جورزييف النقدية Gurze’ev (2010). فقد ذكر روسو في كتابه “إميل أو عن التعليم” Emile, or On Education (1762)أن الطفولة متجاهَلة تمامًا بسبب الكبار الذين يبحثون دائمًا عن النضوج في الطفل دون مراعاة وتقدير صباه. وأكد أن سحر الطفولة يكمن في كونها تمثل تعبيرًا خالصًا عن الخير الطبيعي للإنسان، والبراءة والإبداع، وحيوية الحياة قبل أن تفسدها الحياة الاجتماعية. إضافة إلى ذلك، يعتقد روسو -من وجهة نظره النقدية حول الوضع الراهن- أنه يجب إبقاء الأطفال بعيدًا عن صحبة الكبار لأطول فترة ممكنة، وتعليمهم بطريقة تحافظ على صورتهم الفتية.

اعتنق روسو مذهبًا تربويًّا طبيعيًّا يتمحور حول الأطفال، معارضًا اللاهوت المسيحي التقليدي للخطيئة الأصلية السائد في عصره، الذي يملي وجهة النظر القائلة بأن الغرض من التعليم هو كسر الطبيعة البشرية وتصحيحها؛ بهدف إثارة الصفات الحميدة عند الأطفال، والمساعدة في تنميتهم؛ لتحقيق إمكاناتهم الإنسانية الكاملة. وعلى المعلمين -بصفتهم ممثلين للمجتمع- أن يلتزموا أيضًا بالمبادئ البيئية والحيوية؛ لأن الأفراد كائنات واعية تتأثر منذ الولادة بمحيطها بطرق مختلفة، ما يعني أن تأثيرات الكبار قد تنطوي على جوانب مفسدة للطفولة، تضر بالسمات الأصيلة للأطفال.

وبعد عقد من الزمان، سوَّغ “كانت” الموقف الأبوي المختزِل تجاه الأطفال بتأكيد حتميته، أن جميع الأطفال بطبيعتهم غير مستحقين للحرية. فعلى النقيض من روسو، اعتقد “كانت” أن البشر يجيئون للعالم ناقصين، فيتعين على الآخرين (الكبار) اتخاذ القرارات نيابةً عنهم (Kant, 1960). وهكذا يصور الأطفال مواطنين سلبيين، في حين تعتمد الحريات السياسية التي يستأثر بها المواطنون النشطون على قدرتهم على العمل وكلاءَ ناضجين وأخلاقيين. يقول “كانت”: إن قدرتهم على التفكير بعقلانية في دوافعهم المتعددة والمتضاربة وإدارتها إدارةً مناسبة، ستضمن تحررهم واستقلالهم عن المصادر الخارجية.

أثَّرت نظرة “كانت” للطفولة –بوصفها حالة لم يتطور فيها ضبط النفس بعد- على النظريات المعاصرة تأثيرًا كبيرًا. ويتضح ذلك في مخطط كولبيرج Kohlberg (1984) لمراحل التطور الأخلاقي التي تعتمد إلى حد كبير على بياجيه Piaget (1972). وضعت الفلسفة السياسية بعد “كانت” تركيزًا كبيرًا على العقلانية والبصيرة والتأمل والمسؤولية، وهي سمات تنكر وجودها لدى الأطفال. فاستُبعِد الأطفال من السياسة، وأُطِّروا خارج التصورات الخاصة بالموضوعات السياسية الناضجة فقط عند إخضاعهم ضمنًا داخل النظام السياسي. غير أنهم -في الحالة الثانية- لا يزالون يُعَدُّون كيانات غير سياسية.

إن العملية نفسها تحكم النظام التعليمي المعاصر، حيث تُنكَر قدرة الطفل على التفكير الناضج والمبدع والمستقل، ويُحَد الأطفال -إلى حد كبير- بإطار المدرسة المكرس ظاهرًا لإعدادهم للتفكير. في المقابل، يرى ماثيوز Matthews (1994) أن فكر الأطفال المتأصل فيهم يخدم بصفته أساسًا للتفكير الفلسفي، إذ إن بساطتهم تمكنهم من استكشاف الأشياء التي يستهين بها الكبار أو يعدونها أمرًا مسلَّمًا به. ويضيف الأطفال سحرًا حيويًّا ودهشة على التساؤل عن عالمهم. إنهم -بحسب هذا الرأي- فلاسفة صغار يطرحون أسئلة فلسفية كبيرة. ومن أجل تنمية هذه المهارات، يجب السماح لهم بالمشاركة في النقاشات الفلسفية والأخلاقية والميتافيزيقية، بدلًا من الخضوع لاستعمار الكبار. رفض ماثيوز نظرية بياجيه Piaget (1972) القائلة بأن تنمية قدرات التفكير عند الأطفال عملية مشروطة بيولوجيًّا تعتمد على العمر، وتحدث بوصفها جزءًا لا يتجزأ من النمو. وأكد أن استعمار الكبار يحرم الأطفال غالبًا -أثناء نضوجهم- من براءتهم وفضولهم وقدرتهم على التأمل في الأسئلة الفلسفية، واللعب بالأفكار والمشكلات.

ومثلما تخاطب العلوم الإنسانية الكبار دون الأطفال، تستند النظرية التربوية وتطبيقها إلى فرضية أن مقدميها أعلم بمصلحة المُجبَرين على تلقيها (الأطفال مثلًا). إلا أنه في حال وفر النظام التعليمي الموارد المناسبة (من معلمين ومفتشين ومديرين)، إضافة إلى الوسائل المناسبة عند مرحلة (النمو) المناسبة، فسيدخل الأطفال النظام متعلمين ويغادرون مُعلَّمين – أي فلاسفة ناشئين أكفاء.

[في نظام التعليم المستعمِر القائم على الخوف، يكون التدريس عبارة عن]

“استنزاف قدرات الأطفال الطبيعية وتحطيم إمكاناتهم وأصالتهم…”

وبالمثل، اقترح جورزييف Gur-Ze’ev (2010) -في وجهة نظر نقدية- أن التعليم ما هو إلا تشكيل وتأديب مفرط للفرد. فبوصفه مجموعة من النظريات والممارسات المصممة لصناعة الإنسان وتشكيله ومراقبته، يسعى التعليم إلى تحويل الأطفال لشخص بدلَ آخر، أو لشيء بدل آخر. وأكد أن النظام المدرسي (الذي يَعُد الأطفال أشياء سلبية) يلعب دورًا مطبِّعًا؛ كونه مسؤولًا عن الحفاظ على النظام القائم في مساحة واضحة، في محاولة للاستعمار الداخلي والخارجي واجتثاث كل أوجه الغيرية. وهو بهذا يمنع كل احتمالات إدراك ما يكمن تحت السطح، بإصلاح الشخصية والآراء المحتملة والاجتماعية من أجل ما يسمى بالتقدم الثقافي. وهو يحافظ -في الواقع- على الوجود الاجتماعي بنزع الإنسانية بشكل منهجيٍ وقاسٍ، ويعيد إنتاج الوضع الراهن بإعداد مكان لكل فرد في إطار من المؤشرات والقواعد والأنماط والإمكانات/المستحيلات المحددة سابقًا، وينتهي الأمر بدعم إنتاجية الفرد بموضعته موضعةً منهجية.

ولهذا، أرى أن نظام التعليم الحالي يلقي بظل استعمار الكبار على عالم الطفل بما يسميه فيشر مزيجًا سامًّا خبيثًا من البلوغ وفلسفة الخوف (adultism and fearism) ضمن المصفوفة الثقافية للخوف (e.g., Fisher, 2003)؛ فهو أساسًا شكل من أشكال الاستئصال الوجودي والأكاديمي والتربوي؛ إذ إنه يخنق بدل أن يمكِّن، وهو مستبد غير حاضن، أحادي الجانب وهرمي غير مُحاوِر، ومشجَّع على التلقي السلبي بدل التفاعل. وبتحطيم قدرات الأطفال الطبيعية وإمكاناتهم وأصالتهم، يشكل النظام محاولة بالغة متعمدة لاستقراء ما هو متوقع من الطلاب، دون مشاركتهم الطواعية الكاملة. ويعزز الاعتيادية بالبدء بالإجابات الجاهزة (معرفة جاهزة لما يحتاج المرء إلى معرفته، وإلى أين يجب أن يذهب، وما الخيار الأفضل) محوِّلًا الأطفال من أشخاص إلى أشياء.

بيداغوجيا الخوف

في هذا الفضاء التعليمي القامع، كثيرًا ما يأخذ هذا التظليل شكل “بيداغوجيا الخوف” (Kizel, 2016a)، وهو منهج مركزي هرمي مشروط بالتعلم المتكيف على الصدمة والفزع، والخوف من العقاب، ونقص الثقة عمومًا في قدرات الأطفال – وهذه هي السمات التي تميز نظام التعليم اليوم للأسف. وهو بهذا يولِّد شللًا تعليميًّا يتجلى في الهرمية التعليمية “التي تنتج النظام وتعيد إنتاجه وتسويغه في الممارسات المؤسسية والتعليمية للنظام التعليمي” (Kizel 2015, p.214).

استنادًا إلى خوف الكبار المزمن من المجهول ومما لا يمكن السيطرة عليه، تسعى بيداغوجيا الخوف إلى تحجيم قدرات الأطفال ومعارفهم، وإمدادهم بمبانٍ سابقة تكون بمثابة المنطق الذي يستند إلى النظام التعليمي، إضافة إلى كونها وسيلة لمراقبة الطلاب والمعلمين والسيطرة عليهم، وهي تَعُدُّ الأخطاء أمرًا خطيرًا، فتسعى إلى إنشاء بيئة معرفية معادية ومضطربة يُتجنَّب فيها ارتكاب الأخطاء. ويفهم الطلاب -في هذا السياق- أن وظيفتهم -ضمن النطاق والدور الجامد المحدد لهم (من قبل أغلب المعلمين)- هي الاستماع والتكرار والامتناع من طرح الأسئلة التي تستدعي التفكير الناقد أو الاستقصاء الفلسفي.

تضفي بيداغوجيا الخوف طابع القداسة على الإجابات والمعارف، حيث تؤدي النتيجة المحددة سابقًا إلى ما يُفكَّر فيه بالفعل. وتهتم بالإتقان والاجترار، بدلًا من التفكير والعمليات المفسِّرة. وتركز على الحفظ والتكرار على شكل إجابات دقيقة عن الأسئلة المغلقة، ومن ثم تضيق على وجهات النظر المختلفة، في حين تجسد النظريات التنموية المستندة إلى مقدمات أحادية متحيزة وشاملة وخطية فيما يتعلق بنمو الأطفال، وتتمسك بها. ولأنها جوهرية بطبيعتها، تفترض -أو بالأحرى تفرض- وجهة نظر مفادها أن الأطفال غير قادرين على التعبير عن أنفسهم وأفكارهم، والانخراط في التفكير المبدِع والمستقل، ومراقبة العالم والتساؤل عنه. وتختزل الأطفال إلى إحصاءات قابلة للقياس، فهم يُختزَلون إلى أشياء، وتُتجاهل شخصياتهم وسيادتهم واستقلالهم.

“يُنظَر إلى الأطفال على أنهم عاجزون وخارجون عن السيطرة، ولا يُنظَر إليهم بوصفهم كيانات مستقلة…”. 

إن أصوات الأطفال وقدرتهم على طرح الأسئلة والتشكيك في الفرضيات التقليدية ومعالجة القضايا غير المألوفة تهدد الكبار الغارقين في بيداغوجيا الخوف وانعدام الثقة؛ لأنهم أنفسهم نتاج هذه البيداغوجيا التي ينقلونها بدورهم إلى الجيل التالي، وبسبب خوفهم من عدم قدرتهم على تقديم إجابات مقنعة، مما يفقدهم سلطتهم.

في هذا النموذج من بيداغوجيا الخوف، يشعر جميع المعلمين والمديرين والمربين بالارتباك من أي وجهة نظر لا تمليها الهرمية الاجتماعية والحكمة التقليدية. ومن ثم لا تتشكل بيداغوجيا الخوف من الشك فحسب، بل تعمل كذلك على إعادة إنتاج وتشكيل الجيل القادم من الطلاب والمعلمين ومديري المدارس وأولياء الأمور الخائفين.

“… يسيطر الخوف على المعلمين”

يُظهِر الهيكل الهرمي للنظام التعليمي عامةً وللمدارس خاصةً كيف يحيط الخوف وانعدام فرص التفكير والتحدي بالأجيال الشابة. فالهرمية -بهذا المعنى- “غير مفاهيمية فيما يخص الكبار والأطفال على حد سواء؛ فالمساحة التعليمية تحدد خطوات الأطفال وقدراتهم، ويشكل ظل الكبار حاجزًا واضحًا دون نشاطهم” (Kizel 2015, p.219). هذه المؤشرات المحدودة تترك مساحة صغيرة جدًّا -إن تَركت- لطرح الأسئلة والاستقصاء والتمييز. إذ يُنظَر للأطفال على أنهم عاجزون وخارجون عن السيطرة، ولا يُعترَف بهم كياناتٍ مستقلة أو كآخرين؛ فهم لا يُدعَون إلى المشاركة في أي حوار، أو إبداء رأيهم حول الظواهر أو المشاعر أو الوعي أو الأخلاق أو أي موضوع جاد.

يعتمد هذا الأسلوب التربوي للأنظمة التعليمية التقليدية على نقل المعرفة، حيث يشكل الطالب “حاوية فارغة” يصب فيها المعلم المعلومات. وتعتمد هرميته على افتراض تفوق المعلم على الطالب في العمليات المعرفية الفكرية، وفي نطاق المعرفة وعمقها، فيشتغل المدرسون بحشو البيانات ونقلها للطلاب، بدلًا من تحديهم ورعاية مهاراتهم المعرفية.

وقد لاحظ العديد من الفلاسفة هيمنة الخوف على المعلمين. فقد أكد روسو في كتابه “إميل” Emile (1762) أن الخوف عاطفة أساس تظهر في مرحلة ما قبل اللفظية. فعندما تعتاد عيون الأطفال على الضوء، يبدأ التمييز بين اللذة والألم. فالتأثير الحسي للضوء ممتع؛ لأنه يمكن الأطفال من فهم وجود الأشياء بما يتجاوز إدراكهم الحسي. وتتحول هذه الرؤية إلى رغبة مع نموهم، والظلام إلى شيء مؤلم ومخيف. وخلال عملية تكوين العادة هذه، يساوي الأطفال المتوقع بالمطلوب، فيبدأ خوفهم مما هو غير متوقع. وبعدها، يجب عليهم تدريب أنفسهم على التعامل مع مواجهة الجديد.

بالإضافة لهذا التعرف المتدرج إلى الآخر/المختلف، يتعلم الأطفال أيضًا من رد الفعل الاجتماعي تجاه الخوف، مما يمكنهم من التغلب على مخاوفهم الأولية باكتساب فهم للعالم من خلال تجارب الآخرين. ويقول روسو: إن البيئة الجامدة صديقة للخوف؛ فهي تُشعِر الأطفال بالراحة والهدوء، في حين تجعلهم -في الواقع- أكثر حساسيةً وخوفًا من التغيير. لذا، يشجع روسو التعلم بالاكتشاف والتجربة الديناميكية التي تمكن الأطفال من فهم احتمالية خطأ تفسيرهم للواقع وطريقة عيشهم فيه. فعندما يصادف الطفل شيئًا جديدًا يبدأ بالتعلم، أي بارتكاب الأخطاء. فتعمل حماية الأطفال والسعي إلى سلامتهم ومنحهم الاستقرار والشعور بالأمان على تهميش التعلم الذي ينشأ من اكتشاف الجديد. وهذا يتعارض تعارضًا مباشرًا مع الهدف الحقيقي للتعليم؛ فالتعليم “الآمن” -في الواقع- خطير وزائف.

بدلًا من ذلك، يجب تعليم الأطفال أن يتصرفوا فرادى؛ حتى يصبحوا مستقلين وقادرين على التعامل مع المخاطر والطوارئ والمختلف/الآخر، حتى عندما تكون مثل هذه المواجهات مخيفة ومزعجة.

يقول جون ديوي في نظريته حول الطبيعة البشرية: إن السعي إلى تحقيق الوحدة لا بد أن يكون على حساب الازدواجية، فيجب على الفرد التغلب على التناقضات في نفسه وفي المجتمع، بما فيها التناقضات بين الحواس والعقل (Dewey, 1962). في هذا الإطار، يؤدي التفكير والتعلم والفهم القائم على التجربة إلى التطابق بين النظرية والتطبيق. ويحدث التعلم -وفقًا لديوي- عندما يواجه المرء لحظة من القلق. ويؤكد -من خلال مناقشة المشاعر عامةً والخوف خاصةً- أن الأخير عقلاني أساسًا ومفاهيمي بطبيعته، ويعمل عنصرًا محفزًا ضروريًّا للتعلم، وعدسةً تفسيرية يلتقي من خلالها المعلمون بطلابهم (English & Stengel, 2010).

تُستثار المشاعر الإنسانية الرئيسة (الخوف والاهتمام) عندما يواجه الفرد حالة من عدم الارتياح (Dewey, 1962). وتتمثل وظيفة المعلم في تشجيع الطلاب على التخلص من الخوف والشك الذي ينشأ عن تعلم شيء جديد. إذ من المفترض أن يُشجَّع الأطفال على احتواء انزعاجهم إلى أن يبرز اهتمامهم، بدلًا من التوصل إلى فهم مبكر وغير ناضج يعتمد على العاطفية المحددة بالخوف المتعارض مع عملية التعلم. إن العواطف تتشكل بالتزامن مع تكوُّن القدرة على التفكير في التصرفات الشخصية، وهي تمكن الفرد من تكوين جزء كبير من التقييم المتأمِّل لديه، إلا أن الخوف بوصفه رد فعل أولي يعيق التعلم. ولا يُستثار التقييم المتأمل عند التعرف إلى أمر جديد، بل يظهر فقط عند استيعاب أهمية التجربة والسلوك المؤديين إليه (Dewey 1894). وتظل الاستجابات العاطفية بمثابة حواس أو مشاعر زائلة، على الرغم من تحديها العادات الحالية (في لحظة الانزعاج مثلًا)، وتصبح مفيدة للفهم فقط عند اكتمال عملية التأمل.

أما فريري Freire (1970)، فيرى أن التعامل مع الصعوبات مشوب بالخوف دائمًا، خاصةً في حال شك الأفراد في قدراتهم ومهاراتهم. ولهذا المعنى ثلاثة أبعاد: فكرية، واجتماعية، وتربوية. ولا يكفي الفضول وحده للتغلب على العقبات؛ فذلك لا يكون إلا بالانضباط الداخلي. والانضباط الفكري يعني القدرة على دمج النص بما يتجاوز فضول الفرد الأولي وحاجز الفهم، متضمنًا القيمة الاجتماعية للتعلم والتفكير الناقد. وهي ليست مجرد تجربة فردية، بل هي تجربة اجتماعية تشمل علاقة الطالب بالمدرس وبأقرانه.

يجب على التلاميذ أن يطلبوا المساعدة من الآخرين للتغلب على الصعوبات، ويجب عليهم أيضًا المشاركة في مجموعة وتقبل وجهات نظر مختلفة، وهكذا تتحول دواعي الخوف إلى دواعي تعلم. وإضافةً إلى السياق الاجتماعي، يلعب المربي أيضًا دورًا مركزيًّا في التغلب على الخوف، وتعتمد هذه القدرة على وعيه بقلقه، فيحق للمعلم أن يشعر بالخوف كالطالب؛ لأنه ليس منيعًا من المشاعر الأساس التي يشعر بها الأطفال.

وفيما يخص التعليم بوصفه عملًا سياسيًّا، يعتقد فريري Freire (1970) أن الخوف يلعب دورًا سياسيًّا – الخوف من أن تصبح الحرية جزءًا من عالم المعلمين والتلاميذ على حدٍّ سواء. إذ لا يمكن للمضطهدين النضال من أجل الحرية طالما أنهم عاجزون عن مواجهة المخاطر التي ينطوي عليها هذا النضال، بل إن محاولاتهم تهدد رفاقهم المضطهدين. على كل من المعلمين والطلاب اكتساب معرفة عن الخوف، ولكن الصعوبات التي يواجهها المعلمون أكثر تعقيدًا؛ بسبب احتوائها على أبعاد سياسية وتربوية، إلا أن الاستجابة المناسبة واحدة لكلا الفريقين، ألا وهي الانضباط الفكري. لقراءة مقارنة ونقد لمراجعة English & Stengel للكتَّاب التربويين الثلاثة (روسو وديوي وفريري Rousseau, Dewey, Freire)، انظر فيشر Fisher (2011).

الخوف الكامن في قلب بيداغوجيا الخوف

حدد كوكولا Kukkola (2014) ثلاث إشكاليات في دراسة الخوف: (أ) لا يوجد تعريف عميق ومتماسك يغطي جميع معاني الخوف الوجودي وجوانبه ضمن الإطار التعليمي؛ فإن الفهم الأفضل للظاهرة هو فهم الدور الذي تلعبه. (ب) يُنظَر للخوف تقليديًّا على أنه أداة مفيدة لزيادة المشاركة التعليمية، ولكن تبقى مسألة ما إن كان الخوف يفتح مجالًا تعليميًّا جديدًا، أو أنه يعمل بوصفه مجالًا موجودًا ولكن غير مستكشف، مسألةً محل نزاع. وأخيرًا (ج) عادةً ما يُنظَر للتعليم بوصفه تدريبًا، مما يؤدي إلى إهمال أبعاده المتنوعة.

بحث الكثير من علماء الفلسفة خصائص الخوف – الانزعاج (ديوي)، والشك (أفلاطون)، والشعور بالخطيئة (نيتشه)، والشك في القدرات (فريري)، والتأمل (ديوي). ترتبط هذه المفاهيم بطرق مختلفة تسهم في فكرة مفادها أن الخوف -رغم ثباته وقطعيته- يرتبط بالأفكار الخارجية الموجودة في الواقع المعاش الذي يؤثر في تكوينه. يُعرَّف المفهوم عمومًا بعلاقته بالمساحة التي يظهر فيها موضوعٌ ما، مشيرًا إلى المجال الذي تظهر منه الكيانات المجسدة له (أو التي يجب أن تظهر). وتُعرَّف المفاهيم الفلسفية من حيث البيئة المادية التي تمكنها من تجسيد نفسها وتكرارها، فإنها تسعى إلى تجسيد نمط يوحد الأداءات المتباينة التي تحيط بها في أي مساحة معينة. وعلى الرغم من أنها تجمع صورًا متعددة في تكوين واحد، لا يظهر هذا التكوين بالضرورة دفعة واحدة.

إن النظام التعليمي المدرسي الذي يتصف بـ”بيداغوجيا الخوف” يغذي خطابًا وبيئة وأجهزة تمنع الطلاب من الانخراط مع/في الأسئلة الوجودية (Kizel 2015, 2016a)، ويمنع الاستخدام “الجيد” للخوف كما في فلسفات ديوي وفريري التقدمية. وحيث إنه يهدف إلى تقييد نطاق وجهات النظر التعليمية التي يُسمَح بطرحها وتضييقها، فإن أصول بيداغوجيا الخوف تستند أيضًا إلى القلق من الانخراط في الفلسفة مع الأطفال/الطلاب. ينبع هذا من صعوبة التخلي عن فكرة المكانة المتفوقة للمعلم، والاستخفاف بقدرات الأطفال وإمكاناتهم، والنزعة المحافظة التي تنتقل عبر الأجيال، والخوف الدائم من تهديد واقع موزون ومؤكَّد. يخشى الكبار من السماح لأصوات الأطفال المميزة (والخطيرة) أن تُسمَع، ومن الاحتمالية الكامنة في المناقشة الفلسفية التي تؤدي إلى التفكير المستقل، ومن وجهات النظر التي تتجاوز ما تمليه السلطة الهرمية.

يؤثر هذا الهيكل التربوي على علم التربية كما يؤثر على الجانب التنظيمي لنظام التعليم، حيث ينتج عنه شلل تعليمي يأخذ شكل هرمية تربوية تكرر نفس الطريقة التربوية (وخصوصًا المسوغات المقدمة لدعمها) وتترجمها إلى ممارسات تنظيمية وتعليمية تُطبِّع الخوف. وبهذا، يصبح الخوف من طرح الأسئلة الوجودية مؤسسيًّا، وتتشكل العادات التنظيمية التي تديم حالة الشلل. يطلق فيشر وفوريدي وماسومي Massumi (2006)، Furedi (2006)، Fisher (1993) وآخرون على هذه الظاهرة اسم “ثقافة الخوف”.

“… لقد ساد الخوف المجتمع…”

تعتمد بيداغوجيا الخوف على نظريات النمو عند بياجيه، وعلى رؤاه المتعلقة بمشاعر الأطفال التي تنظر إلى البيئة التعليمية القائمة دون أنواع الشخصيات المستقلة؛ فإنها تروج لخطابٍ نيوليبرالي يتجنب طرح الأسئلة التي قد تتحدى اليقينيات التقليدية، ويدافع عن التقييم العلمي، والالتزام بمنهج دراسي، ومناهضة الطائفية. تستند جميع هذه المبادئ إلى تصور منشؤه وكلاء السلطة، ويستند البناء المدرسي التقليدي إلى آلية تربوية محدودة تقيد تفكير الطالب والمعلم على حدٍّ سواء. وحيث إنها تمنع أي تفكير قد يقوض النظام القائم وينفتح على العالم، تعمد بيداغوجيا الخوف إلى تدريب الطلاب على الاندماج في المجتمع ونظامه التراتبي كثقافة الخوف والاستبداد، على حساب تفكيرهم الحر المستقل.

يقول سفندسن وماسومي Svendsen (2008) و Massumi (1993): إن الناس اعتادوا –بشكل مؤذٍ أحيانًا– على التركيز على الحالات عالية الخطورة. ويعتقد أنه على إثر رؤاهم الفطنة، أنشأ النظام التعليمي التقليدي آلية لحماية الأطفال من الأخطار والظروف الحرجة. لكن من الناحية السيئة، أدى الخطاب الإكلينيكي المتعلق بحماية القُصَّر إلى استبدال الأسئلة الفلسفية المفتوحة بمحاولة تجنيب الأطفال الارتباك والحيرة، مما أدى إلى سيادة الخوف في المجتمع – وهو قلق منخفض الشدة يؤثر على كل تجربة وتفسير للعالم (Svendsen, 2008). ويصف بومان Bauman (2006) هذا الخوف بـ”الخوف المُحوَّل”، وهو شديد النفوذ، إلى حد وصفه بـ”الخوف السائل”، وينشأ من تهديد في الحاضر أو الماضي، ويتجلى في صورة شك وإحساس بأن العالم خطير ومتقلب وغير آمن.

تؤثر بيداغوجيا الخوف أيضًا على العلاقات التي يُفترَض أن توجد بين الأفراد (أي الأطفال) ومحيطهم. تتمثل الاستقلالية المثلى في العمل المستقل، والتقييم الذاتي، ومسؤولية الفرد عن أفكاره وأحكامه وعواطفه وقراراته. في حين تعني التبعية أن ينشأ السلوك استجابةً لقوة خارجية. ويشير جورزييف Gur-Ze’ev (2010) لهذا بوصف “تطبيع التعليم” المستلهم من الاضطهاد والعنف الخفيين، كما تزعم النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت. تتميز بيداغوجيا الخوف بالعنف الرمزي بوصفه جزءًا من الظل الذي يلقيه الكبار على عالم الأطفال، مما يعيق مقاومة قوى الاستقلالية لوحشيته.

الخيار البديل: فلسفة تسليط الضوء على حياة الأطفال

تناول القسمان السابقان مسألتين تؤديان -في نظري- إلى انكماش عالم الطفل: الظل الذي يلقيه الكبار عليه، وبيداغوجيا الخوف. أود أن أقترح أن الفلسفة مع الأطفال / الفلسفة للأطفال (PwC/P4C) تهدف إلى إلقاء الضوء على عالم الطفل، ثم توسعته بالانفتاح على وجهات نظر أكثر، وتعمل -داخل إطار المدرسة وخارجه- منصةً للتعلم الذاتي في ضوء التطورات التي حدثت على مدى الأربعين عامًا الماضية. بالاستناد إلى الكتابات الفلسفية لماثيو ليبمان (ولا سيما أفكاره المتعلقة بالبحث عن المعنى)، يحتوي هذا المنهج على ستة أبعاد تتناقض مع التعلم التأديبي الكلاسيكي في الفصل الدراسي. فإن هذا الحل يدعو إلى “بيداغوجيا البحث”، بدلًا من “بيداغوجيا الخوف” التي تهيمن على أنظمة التعلم التقليدية.

على النقيض من مناخ التنافس الذي يُروَّج باستمرار (ولو ضمنًا) في المدارس اليوم، تشجع مجتمعات الاستقصاء التعاون والتآزر لدعم التعلم الذاتي والمشترك. إن تقليص عنصر التنافس في الفصول الدراسية بحد ذاته يسهل إنشاء مجتمعات استقصاء تتسم بالاحتواء والشراكة والتعاون (sharp, 1988). تعزز هذه الظروف الانفتاح الضروري لظهور القضايا الفلسفية والإجابة عنها أحيانًا. بتقليص المساحة التي يُسمَح للطلاب فيها بالتعبير عن أفكارهم، يضمن الكبار الإبقاء على هذه الأفكار بسيطة، وفي خدمة المحيط واحتياجات البالغين ورغباتهم وأهدافهم في المقام الأول.

تعطي PwC/P4C الأولوية للأسئلة على الإجابات، وتنمي المجتمعات التي تيسر شكلًا من أشكال التعلم يقاوم الهرمية التعليمية التي تفخر بالمعرفة الكلية. يعمل المنسق مشاركًا في عملية التعلم، وليس “حَكَمًا”، فيكون التعلم للحاضر (الحقيقي) بدلًا من المستقبل (المجهول). ويُفضَّل الارتجال على المحتوى المحدد سابقًا، حيث يُنظَر إلى التعلم على أنه تحرير للمتعلم من الحدود التأديبية.

تكمن كل هذه الأبعاد وراء بيداغوجيا البحث لـPwC/P4C، حيث يتضمن السعي وراء المعنى للمساعدة في تنمية الشخصية، ثم التوجيه الذاتي والقدرة. ويتعارض هذا المنهج مباشرةً مع بيداغوجيا الخوف ومطالبه الكثيرة الدائمة من المتعلم، التي تثير القلق، والخوف من المخاطرة، وتقليل الكفاءة، وجعل الاسترشاد بالله الكامل المعرفة أمرًا لا غنًى عنه (Kizel, 2016a). تعترف الأبعاد الفلسفية السابقة بقدرة الأطفال على التفكير بعمق، وبقدراتهم الطبيعية، وبالطبيعة المستقلة للطفولة، مما يتعارض مع هيكل التعليم المدرسي للكبار الذي يسحق الأطفال تحت قوة السلطة المضخَّمة بدل تعزيز مهاراتهم وتطويرهم. وعلى عكس نموذج التعليم “المصرفي” الذي ذكره فريري في نقده السابق Freire (1970)، تزرع هذه الأبعاد مساحة تسمح بانتقاد أصول التدريس التقليدية. وبموجب هذا، فهي تمكن الأطفال أيضًا من التعبير عن آرائهم دون خوف بوصفهم مفكرين مستقلين.

وانتقد ليبمان Lipman (1973) بشدة النظام التعليمي وطرائقه التربوية المختلفة، وأشار إلى الشذوذ الكامن في هيكل المدرسة، حيث إنه يغرس الكاريزما السيئة في الطلاب بحسب رأيه؛ إذ إنه بعدم اعترافه بقدراتهم الفكرية، يعجز عن غرس الثقة بالنفس فيهم، مما يجعلهم مرتابين من كل مصدر فكري أو مهمة أو مشكلة تواجههم، ويخنق فضولهم الطبعي. وميَّز لاحقًا (1980) بين التعليم والتدريب، مقارنًا ذلك بالتمييز بين المثال والواقع في إطار التعليم. وأكد أنه يفترض بالتعليم أن يعلم الأطفال كيفية التفكير وتطوير قدراتهم، سامحًا لهم بالإثراء والتأثير بدلًا من التنافس بينهم؛ حتى يمكنهم من النمو. في المقابل، عادةً ما يفتقر التدريب إلى المعنى، حيث يسعى إلى تزويد الطلاب بمهارات القراءة والكتابة الأساس وتأخير دخولهم إلى سوق العمل (Lipman, 1980).

مع إدراكنا لعجز النظام التعليمي، نسعى باستمرار إلى تصحيحه بدلًا من إعادة تصميمه. ويتطلب الإصلاح معالجة سلسلة من القضايا الأساس، كأهداف التعليم وعملية التعلم، ونوع المعرفة المكتسبة ومدى ملاءمتها للطلاب. ويعتمد التعليم المدرسي على القيم النفعية خارج الفرد (ثم خارج التعليم)، فلا يسعها إشباع جوع الأطفال للمعنى (Lipman, 1988)، فيصبح التعليم ذاته بلا معنى من جهتهم (Lipman, 1973).

يجب أن يشكل أي بديل للتعليم المدرسي تجربة ذات معنى، وينظر للخوف بعين الحسبان في دائرة الوعي والتصميم. فعلى العملية التعليمية المعتمدة في المدارس أن تمكن الطلاب من اكتشاف قدراتهم وتعزيزها وتنمية صورهم الذاتية (Lipman, 1991)، التي تتطور عندما يستخدم التلاميذ مهاراتهم بنشاط وإبداع. ولا يمكن للتعليم (التدريب) الذي يحرم الطلاب من المشاركة النشطة وتحديد أهدافهم المشتركة أن يعزز تعبيرهم الفردي أو يتعرف إلى أفكارهم ووجهات نظرهم المميزة (Lipman, 1980). لذا، يجب أن يفسح الإصلاح التربوي مجالًا للطلاب لخلق المعرفة والمشاركة فيها بنشاط بأصواتهم المميزة.

يتناول نقد ليبمان للنظام التعليمي أيضًا الظروف الاجتماعية في المدارس عامةً وفي الفصول الدراسية خاصة. فيجب أن تتوفر للتلاميذ بيئة تغرس الاحترام المتبادل والحوار والإبداع، بدلًا من التحيزات المخادعة والعلاقة الهرمية بين المعلمين والطلاب التي تشجع استعمار الكبار (Lipman, 1988)، إذ يجب أن يُمنَحوا الفرصة لأن يُحضِروا أنفسهم وعوالمهم إلى الفصل الدراسي بدل أن يُطلَب منهم الاستماع استماعًا سالبًا لمعلمين يقدمون معارف متحجرة.

ومع تأكيد وجوب تشجيع البيئة التعليمية للطلاب على تطوير أفكارهم وآرائهم، يدرك ليبمان Lipman (1980) أيضًا أن السياسات الحالية لا تعزز مثل هذه القدرات أو أشكال التعبير، فتحرم التلاميذ من حرية التعبير الفكري. إن بيداغوجيا الخوف تحول طقوس سن البلوغ ونقل المعرفة من جيل إلى جيل إلى عمل مؤسساتي؛ رغبةً منها في الحفاظ على كل شيء كما هو، واستبقاء الوضع التعليمي الراهن. في المقابل، فإن أساليب التدريس المرتكزة على التفكير الفلسفي الحر تنقل المعرفة من الكبار ومخاوفهم ومن ثقافة الخوف، بحيث يكون مركز الاهتمام وتصميم التعلم هو الطفل (Lipman,  1973)، وهذا يتماشى مع الفكرة التقدمية القائلة بأن هدف التعليم هو التفكير لا الحفظ.

تساعد العناصر المتأملة المرتبطة بالتفكير العميق والمتعقل الذي تروجه PwC/P4C على زيادة فهم الأفكار الكبيرة، ثم تمكين الطلاب من أن يصبحوا كبارًا مستقلين غير تابعين (Kizel, 2016c). وتعزز أيضًا -استجابةً لحاجة الطفل للمعنى والارتباط- التفكير المنفتح والحر والمستقل الذي يبرز أهمية تسليط الضوء على حياة الأطفال، لا بصفتهم مواطنين مستقبليين فحسب، بل رعايا مفكرين بذاتهم.

إن العوامل الأربعة المذكورة أعلاه (القيمة، والارتباط، والمعنى، والعلاقات التي تتغلب على جوانب القصور في نظام التعليم التقليدي) يُعبَّر عنها في ممارسة متأملة توفر للأطفال فرصة حقيقية للبحث، وتعميق المعارف، والتعرض لآراء مختلفة، والتحرر من عبء المعايير النفعية كالدرجات. وتتيح المناقشة الفلسفية للطلاب الصغار دراسة القضايا من منظورهم الخاص، والاستماع لوجهات النظر المتباينة، واكتشاف مسارهم الفريد عبر العالم. وقد تأسس -قبل كل شيء- على خطاب بين أفراد يحققون الحد الأدنى من شروط المواطنة الاجتماعية. فبدلًا من تأكيد الخطاب والتعليمات الهرمية، ونقل معارف محددة، وتأكيد الحقيقة الواحدة، والإجابات ووجهات النظر المفردة، يجب أن يشجع التعليم الحوار؛ من أجل تزويد الطلاب بالخطاب والتفكير والمهارات اللفظية والتجربة الديمقراطية التي تبرز التنوع.

إن المنهج الذي روجه ليبمان وأتباعه على النحو المبين في P4C/PwC يمكِّن الطلاب من التهرب -فلسفيًّا وعمليًّا- من الظل الذي يلقيه الكبار عليهم ومن بيداغوجيا الخوف. تحوِّل المجتمعات الفلسفية الاستقصائية السلطة من الكبار إلى عالم الطفل، في حين يمكن الميسِّر سير العملية. فالتنازل عن السلطة والمشاركة والحوار القائم على المساواة يسمح بتنمية التفكير المستقل والناقد، وأيضًا بتشكيل الهوية بالمعنى الاجتماعي (Kizel, 2016d).

المراجع

 Bauman, Z. (2006). Liquid fear. Cambridge: Polity. Dewey J. (1894). “The theory of emotion. (I) Emotional attitudes.” Psychological Review 1: 553–569. Dewey, J. (1962). Individualism: Old and new. 3rd ed. New York: Capricorn. English, A., & Stengel, B. (2010). “Exploring fear: Rousseau, Dewey and Freire on fear and learning.” Educational Theory, 60(5): 521–542. Fisher, R. M. (2011). A ‘Fear’ Studies perspective and critique: Analyzing English and Stengel’s progressive study of fear and learning in Educational Theory. Technical Paper No. 37. In Search of Fearlessness Research Institute. Fisher, R. M. (2006). Invoking ‘Fear’ Studies. Journal of Curriculum Theorizing, 22(4): 39-71. Fisher, R. M. (2003). Fearless leadership in and out of the ‘Fear’ Matrix. Unpublished dissertation. The University of British Columbia, Canada. Freire, P. (1970). Pedagogy of the oppressed. New York: Continuum. Furedi, F. (2006). Culture of fear revisited: Risk-taking and the morality of low expectation. Continuum [original published in 1997]. Gur-Ze’ev, I. (2010). Diasporic philosophy and counter-education. Rotterdam: Sense. Kant, I. (1960). Education. Michigan: University of Michigan, Arbor Ann Press. Kizel, A. (2015). “Pedagogy of fear as paralyzing men’s question.” In Tadmor, Yeshiayahu & Frayman, Amir (eds.), Education: Men’s Questions (pp. 214 –23). Tel Aviv: Mofet (Hebrew). Kizel, A. (2016a). “Pedagogy out of fear of philosophy as a way of pathologizing children.” Journal of Unschooling and Alternative Learning, 10(20): 28–47. Kizel, A. (2016b). “Philosophy with children as an educational platform for self-determined learning.” Cogent Education, 3(1): 1–11. Kizel, A. (2016c). “From laboratory to praxis: Communities of philosophical inquiry as a model of (and for) social activism.” Childhood and Philosophy, 12(25): 497–517. Kizel, A. (2016d). “Enabling identity: The challenge of presenting the silenced voices of repressed groups in philosophic communities of inquiry.” Journal of Philosophy in Schools, 3(1): 16–39. Kohlberg, L. (1984). The psychology of moral development. San Francisco: Harper & Row. Kukkola, J. (2014). “Fear as ‘disclosure of truths’: The educational significance of an existentialphenomenological insight.” Meta: Research in Hermeneutics, Phenomenology, and Practical Philosophy, 6(1): 378–396. Lipman, M. (1973). Philosophy for children. Montclair, NJ: Montclair Institute for the Advancement of Philosophy for Children. Lipman, M. (1980). Philosophy in the classroom. Philadelphia: Temple University Press. Lipman, M. (1988). Philosophy goes to school. Philadelphia: Temple University Press.

حمل مقالة الفلسفة مع الأطفال بوصفها طريقة للتغلب على الظل الذي يلقيه الكبار على الطفولة بيداغوجيا الخوف