فن الهبوط التجريدي: تمهيد حول نظرية ليونارد نلسون في التساؤل الفلسفي

حمد الريّس / باحث أكاديمي وكاتب ومترجم من البحرين

التاريخ: 18 ديسمبر 2022

نُشرت المقالة بعد الحصول على الإذن الخطي من المؤلف

“جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن المؤلف وليست مسؤولية معهد بصيرة أو دار بصيرة للنشر أو أي جهات أخرى متصلة بها من الجهات والهيئات الثقافية التنظيمية أو المانحة وغيرها”

ترتبط الفلسفة جوهرياً بمنهجية تعليم التساؤل الفلسفي، وهي تتميز بذلك على بقية الحقول المعرفية. فالتساؤل الفلسفي يختلف عن منهجية السؤال في الحقول المعرفية الأخرى من حيث انطوائه في حد ذاته على باب المعرفة الفلسفية، وهو ما لا يشترك فيه مع الفلسفة أي حقل معرفي آخر. على سبيل المثال، يمكن للمهتم بالفيزياء أو الرياضيات الانطلاق من الاستنتاجات الراسخة لذلك العلم والبناء عليها، أما الفيلسوف فلا يمكنه الحديث عن “استنتاجات” دون الانهماك في تعليم المتلقي كيفية الوصول إلى تلك الاستنتاجات، أي بنائها من الصفر. من هذا المنطلق يتحدث ليونارد نلسون عن “المنهج السقراطي” في محاضرة بنفس العنوان ألقاها أمام جمعية غوتنغن التربوية بألمانيا عام 1922. تعتبر هذه المحاضرة من النصوص التأسيسية لممارسةٍ في الفلسفة لم تلق حظها من الشهرة، فالأفكار الواردة فيها تشكل القاعدة التي بنت عليها كاثرين ماكول (Catherine McCall) مثلاً ممارستها الفلسفية التربوية، إذ يستعرض نلسون في تلك المحاضرة مفهوم “التجريد التراجعي” أو “الهبوط التجريدي” الذي جعلت منه ماكول أساساً لمنهجها التعليمي الحاضر بقوة في ميدان فلسفة الطفولة. غير أن النص وكاتبه ما زال يكتنفهما الغموض حتى للمتخصص. ما هي أبرز القضايا التي يتعرض لها نلسون في هذه المحاضرة؟ وما علاقتها بالممارسة الفلسفية بصفتها ممارسة تربوية، كما تتصورها فلسفة الطفولة؟ نقدم في هذا المقال لمحات مبدئية حول هذه المحاضرة المهمة.

ما يستدعي الانتباه في محاضرة “المنهج السقراطي” هو أنه يجمع بين البحث في المنهج الذي على الفلسفة اتباعه بالتزامن مع الطريقة التي ينبغي بها تعليم الفلسفة، فتصبح فلسفة التعليم وتعليم الفلسفة وجهان لعملة واحدة.

ينطلق نلسون من تصور معين للعملية التعليمية، بوصفها تسعى لترسيخ ما يسميه بروح “الاستقلالية العاقلة” في نفس الطالب. تتمثل هذه الروح في مقاومة المؤثرات الخارجة عن إرادة المرء عند التصرف، واعتماد بصيرة المرء الخاصة للحكم على القضايا في الطريق إلى اتخاذ القرار. إذن الفلسفة مقترنة مبدئياً بمسألة الحرية. وبحسب نلسون، يمثل هذا التصور نقيض “التعليم الوثوقي”، الذي يأتي فيه المعلم إلى الدرس مدججاً بالمبادئ والأسس المعرفية التي يقوم عليها العلم المنشود، وينطلق من تلك الأسس بالتدريج لاستشكال باقي أنحاء ذلك العلم، فيكون التمكن من العلم قرين التمكن من تطبيق تلك المبادئ. مثلاً في الهندسة الإقليدية القديمة، ينطلق المعلم من عمليتين أساسيتين هما رسم الخط والدائرة بوصفهما مسلّمات تقع حكماً خارج نطاق التساؤل والاستشكال، أي عملياتٍ أولية غير قابلة للمزيد من الشرح والتحليل، ومن هناك يمضي لتعليم التلميذ كيفية إنشاء بقية الأشكال الهندسية المركبّة على قاعدة هذين الشكلين الأوّليين. وربما اعتبرناه من البديهي أن ينطوي كل علم على مسلّمات أو فرضيات مبدئية تشكل القاعدة أو الأساس لذلك العلم، غير أن البداهة – حسب نلسون – غير ذات قيمة فلسفياً، ناهيك عن كون الارتكان إلى “بداهةٍ” ما يمثل شكلاً من أشكال الغيرية الفكرية، أي تفويض الفكر إلى مؤثر خارجي، وبالتالي تقويض حريته.

السؤال الذي يتناوله نلسون من هذا المنطلق هو: ما السبيل إلى تعليم الفلسفة بحق، أي تعليمها دون الارتكاز على مسلّمات بديهية مفترضة؟ بل ما إمكانية التعليم دون تفويض الفكر إلى مؤثر خارجي ما يفرض عليه الطريق الذي يجب أن يسلكها؟ تبرز هنا المفارقة الجوهرية التي تسيطر على التصور الساعي لتحقيق “الاستقلالية العاقلة” عبر التساؤل الفلسفي. فالتعليم بطبيعته قائم على استمداد المعطيات “غيرياً”، أي عبر مؤثرات خارجية، وتلك لا تنحصر في المدرَِّس والمقرر الدراسي والمؤسسة التعليمية فحسب، بل تمتد لتشمل التجربة عموماً كتعبير جامع يشمل كافة أشكال التأثير الخارجي. بل من الطبيعي أن نتصور التعليم في حد ذاته بوصفه شكلاً من أشكال التأثير في الآخر-المتلقي، من أجل حمله على تبنّي الموقف “السليم” من موضوع ما. يقف التساؤل الفلسفي ههنا محتاراً: التعليم يقتضي الإرشاد “الغيري”، فكيف له أن يسعى – في حال تعليم التساؤل الفلسفي – إلى استخلاص النتائج من عين ذات المتسائل، أي باستقلالية عن التسليم بأي معطىً لا ينبع من ذات تجربة الطالب المتسائل؟ بكلمة أخرى، كيف لنا أن نؤثر في شخص ما (أي: “تعليمه”) بحيث تكون النتيجة أنه لن يسمح لنفسه بالتأثر بشخص آخر؟ أو كما يقول نلسون، مستلهماً عبارة روسّو حول “إجبار” المواطن المخالف للإرادة العامة على “التحرر”: كيف لنا أن نفرض على المرء أن يكون حراً؟ أليس في ذلك تناقض بيِّن؟ هذا التناقض هو ما يدعوه نلسون بـ”المفارقة التعليمية”، وهي المفارقة التربوية التأسيسية التي ينبثق منها التساؤل الفلسفي حسب نظره. وفي الواقع، وكما يشير نلسون في غير مكان، فهي في خطوطها العامة المفارقة التي تتناولها محاورة مينون السقراطية حول التعليم، والتي سنلتفت لها في مقال قادم. ومصير كل مفكر في حقل التربية أو الفلسفة، حسب نلسون، هو إما أن يتصدى لتلك المفارقة بشكل ما أو أن يبقى خارج نطاق الإشكال الأساسي الحاكم للحقل.

يقوم تصدي نلسون للمفارقة التربوية بداية على مقابلة عامة يعقدها بين تعليم الرياضيات وتعليم الفلسفة:

“إن التطور المذهل الذي أحرزته الرياضيات وتقدمها الذي يعترف به الجميع يتضح من هنا: أن مبادئ هذا العلم […] تعرض نفسها للوعي بسهولة وبساطة، أي أنها واضحة وضوح البداهة، ولذا فإنها ماثلة أمام الفهم بالكامل، لدرجة أنه […] يمكن للفهم الرياضي أن يستميل أي شخص كان. بل لا يفترض من عالم الرياضيات حتى أن يتكبد مشقة استنباط تلك المبادئ […] ذلك أن قابلية المفاهيم الرياضية للتخطيط الهندسي هي إحدى معايير تحققها العيني وعلامة أكيدة على أن نظريته لا تتناول مواضيعاً من نسج الخيال.”

تتيح هذه المقابلة لنلسون أن يتناول الفلسفة من باب منهجي بحت، ليتساءل: ما الطريق الذي على الفكر انتهاجه من المبدأ إلى النتيجة؟ بمعنى آخر: ما هو معيار الحقيقة والبرهان في الفلسفة؟ يتساءل نلسون:

“لا تقوم الفلسفة في مبادئها على حقائق ماثلة، بل إن المبادئ الأولى هي الجانب الأكثر إبهاماً وغموضاً وإثارة للنزاع في الفلسفة. […] فما أن ندير ظهرنا للتطبيق ونسعى لحلحلة المبادئ من إسار تعلقها بالتجربة لكي نتمثلها بتمام التجريد، حتى يجرنا البحث إلى غياهب الميتافيزيقا، إلا إذا استنرنا بضياء منهجٍ ما من صنع أيدينا.”

في عبارة “ضياء المنهج” أصداء جلية لفكرة “ضياء العقل الطبيعي” الذي اعتمد عليه ديكارت في مقاله عن المنهج، وكما سنرى فإن نلسون يتبع ديكارت (ومن بعده إيمانويل كانت) في تعيين سؤال المنهج كشغل الفلسفة الشاغل. فبالنسبة لنلسون، ليست مسألة المنهج تفريعاً على العلم الذي تطلبه الفلسفة، ولا هي مقدمة أو تمهيد لذلك العلم، بل سؤال المنهج جزء لا يتجزأ من المعرفة الفلسفية في حد ذاتها، والاثنان يعبران عن نفس العملية، وهي عملية التساؤل الفلسفي. بكلمة أخرى، سؤال المنهج في الفلسفة هو نفسه سؤال المعرفة الفلسفية، وعندما نبحث في سؤال المنهج فإننا نبحث في صميم المعرفة الفلسفية بالمعنيين: المعرفة التي تمثّل غاية الفلسفة، والمعرفة التي هي الطريق إلى تلك الغاية. الغاية والطريق، في الفلسفة، سيان. فما هو مفهوم المنهج الذي نتفحصه هنا؟ وما هي وظيفته الفكرية؟

لا بد من كلمة حول المنطق بداية. فلا شك أن القوانين المنطقية تمثّل عنصراً لا غنى عنه لخوض غمار التساؤل الفلسفي، لكن هل يمكننا أن نعتبر المنطق في حد ذاته “منهجاً يُلزِم تفكير الفيلسوف”؟ والجواب: كلا، “لأن الانصياع لقوانين المنطق شرط لا بد منه لأي علم”. فالمنطق لا يكفي إذن لتحديد الميزة الحاسمة لمنهج التفكير الفلسفي، وهو يبقى – بتعبير ابن سينا – محض آلة يتوسلها الفكر للانتقال من المعلوم إلى المجهول، أو من المقدمات إلى النتائج في أي علم كان. نعود فنسأل: ما هي تلك الميزة الحاسمة للتساؤل الفلسفي يا ترى؟ يقول نلسون:

“إن الدور الذي يجب على المنهج الفلسفي أن يؤديه هو تأمين الهبوط إلى المبادئ، فإنه إذا عدم المنهج دليلاً بات الهبوط المنشود محض وثبة في الظلام، نبقى بعدها كما كنا، نهباً للأهواء.”

المنهج الذي يجري الكلام عنه هنا، إذن، هو بمثابة البوصلة أو الدليل. وكما تكشف الاقتباسات السابقة، فالمطلوب منا أن ننأى بالمعرفة الفلسفية عن البداهات، ناهيك عن الاعتبارات العشوائية وفبركات الوهم. فأين يمكننا الحصول على مثل هذا المنهج-الدليل؟ يعترف نلسون بأنه ما أن نقدم على اختراق سطح الأحكام الحسية أو التجريبية المباشرة (مثل تعيين الموجودات الحسية حولنا: “هذه شجرة”، “الآن نهار”)، فإننا نتفاجأ بأنفسنا في ضباب فكري لا نبراس لنا فيه ولا مشكاة. فإذا كان باب التجريد المنفتح على مصراعيه يودي بنا في “ظلمات الميتافيزيقا” المتلاطمة، فإن الارتكان إلى أحكام الحس والبداهة لا يرتجى منه أكثر من تصريف أمورنا اليومية. لكن الفكر بطبيعته يرفض الانحصار في زاوية القريب والعملي والمواتي، وهو يرنو أبداً إلى ما يتجاوز سطح التجربة الحسية، وإن كان ينطلق حكماً من حيثيات التجربة الحسية (والشخصية عموماً) نفسها. يراهن نلسون، نسجاً على منوال كانت، على إمكانية استخلاص شروط التجربة من ذات صلب التجربة. وعلى وجه التعيين، فإن نلسون يقول بانطواء حتى أبسط الأحكام الحسية المباشرة وأكثرها بداهة على شروط معرفية مسبقة يمكن عزلها وتجريدها من التصورات الحسية. والأمر ينسحب على الأحكام التجريبية عموماً. ويقترح نلسون أن هذه النقلة الذهنية من الحكم التجريبي إلى شروط إمكانية الحكم التجريبي، أو من شروط التجربة إلى شروط إمكانية التجربة، هي بمثابة الهبوط المنشود من النتيجة إلى السبب، ووسيلة هذا “الهبوط” – كما أسلفنا – هي “تجريد” الحكم التجريبي من محتواه العيني، بحيث لا يبقى منه إلا الرسم المجرد للحكم، أو الصورة المجردة للتمييز بين مُدرَكٍ وآخر: ومن هنا يدعو نلسون هذا المنهج بمنهج “الهبوط التجريدي” أو “التجريد التراجعي”. يقول:

“تتلاشى الصعوبة الظاهرة هنا عبر التفحّص النقدي لأحكام التجربة. فكل من هذه الأحكام ينطوي في باطنه، إلى جانب معطيات التجربة المرصودة، على معرفة متوارية تُجسِّد صورة الحكم ذاتها، وهي بالتالي معرفة لا يمكن إدراكها كأمر منفصل عن التجربة.”

بعبارة أخرى، فإن التجربة – حسب نلسون – تنطوي في داخلها على مبادئ التساؤل الفلسفي حول التجربة: كيف يمكننا استخلاص تلك “المبادئ المتوارية” يا ترى؟ الإجابة: عبر “التجريد التراجعي”، أي عبر تنقيح الحكم التجريبي من كل ما يشوبه من ملابسات حسية، حتى نصل إلى المسلمات الأساسية التي ينبثق منها ذلك الحكم، وتلك المسلمات دائماً تتخذ شكل المبادئ الفلسفية المنشودة، ولا يعدو فعل التساؤل الفلسفي إلا تحويل تلك المبادئ الثاوية في قاع الأحكام التجريبية إلى تصورات واضحة، وبالتالي إعادة استملاكها عياناً، بعد أن كانت تفعل فعلها في الفكر من وراء حجاب. من هذا المنطلق، يعتبر نلسون الفلسفة، كحقل معرفي، تجسيداً لمجموع تلك المسلّمات المتوارية خلف أحكام التجربة كافة، وهي المسلّمات التي يعيد التساؤل الفلسفي صياغتها في شكل أحكام مطلقة (بخلاف الأحكام التجريبية): “بكل بساطة، فالتفكير الفلسفي يقوم على استخلاص تلك الأحكام المتوارية والتعبير عنها في صيغة أحكام مطلقة”. هذا التوصيف العام يتقدم بنا شوطاً فيما يخص المعضلة الرئيسية التي وصفها نلسون بـ”المفارقة التعليمية”، فههنا نلمح معالم منهج التساؤل الفلسفي المنشود، من جهة كون تجربة المرء (أياً كانَتْ وكان) تنبئ عن نفسها بنفسها. لكن ما هي آلية الكشف عن تلك المبادئ المتوارية خلف ستار التجربة؟ استناداً على ما جاء به نلسون، يمكننا القول أن الحكم التجريبي يقع من الحكم المطلق موقع النتيجة من المقدمة. والحال فالسؤال الأهم هو التالي: ما منهج الوصول من النتائج (الأحكام التجريبية، أو “سطح” التفكير) إلى المقدمات (الأحكام المطلقة، باطن الفكر)؟ هنا تكمن مهارة التساؤل الفلسفي، أو مهارة اجتياز المسافة الفاصلة بين التجربة والمطلق. وكما رأينا، فإن السبيل إلى الأحكام المطلقة كامن تحت ركام التجربة، لا خارجها أو بمعزل عنها. غير أن الأحكام التجريبية تتميز بأنها محدودة بحدود الناطق بها، فلا معنى لها إلا على لسان صاحب التجربة. إذن، بحسب نلسون، لا بد لكل فرد على حدة أن يقدم على تلك الرحلة بمفرده. تلك هي رحلة “الهبوط التجريدي”.

من هذا المنظور، فإن إتقان الفلسفة يعني إتقان هذا اللون من التساؤل، حيث لا يمكن أن يتم الإرشاد في مسائل الفلسفة عبر تلقين المبادئ المجردة للطالب، كما تعودنا في العلوم الأخرى، ولا عبر استعراض تنظيرات الفلاسفة منذ أفلاطون إلى اليوم (رغم القيمة العلمية التي ينطوي عليها ذلك دون شك). فلا يمكن الكشف عن الحقائق عبر اجترار النتائج التي توصل إليها الأسلاف أو غيرهم، بل السبيل يكمن في توجيه النفس للمضي في ذات الطريق الذي حاول هؤلاء اجتيازه: هم لا يستطيعون اجتياز الطريق نيابة عني وعنك. وكما قلنا فالفلسفة، على نقيض كل الحقول المعرفية الأخرى، لا تقوم على المسلمات ولا هي علم محدود بمعطيات التجربة، فالتساؤل الفلسفي وإن انطلق بطبيعة الحال من مثل تلك المعطيات فهو ينطلق منها ليتجاوزها إلى ما هو أعمق منها وأبعد غوراً. لهذا يخلص نلسون إلى أن التبصّر الفلسفي لا يمكن حيازته إلا عبر تعليم فن التساؤل الفلسفي، أي الممارسة الشخصية المستقلة والحرّة لفن الهبوط التجريدي:

“إن المعلم الراغب بجدّ في إذكاء شرارة التبصّر الفلسفي لدى المتلقي لا يسعه إلا أن يرشده في فن التفكير [أو التساؤل] الفلسفي. فهو لا يسعه إلا أن يبيِّن للطلاب كيفية الانصراف، كل على حدة، إلى المراجعة الفكرية العويصة التي وحدها تفضي إلى إدراك المبادئ الأولية للفلسفة. إن كان هناك ما يسمى بفن الإرشاد في الفلسفة، فهو لا يمكن إلا أن يكون إرشاد المرء في كيفية التفكير بنفسه، وبعبارة أدق: إرشاده في الممارسة المستقلة لفن التجريد.”

إذا كان أول العلم الاعتراف بالجهل، فإنه لا يمكن لهذا الاعتراف – مثل أي اعتراف – أن يتحصل إلا بمحض إرادة الفرد. من هذه القاعدة، يطرح نلسون منهج المحاورة السقراطية بديلاً لأسلوب التلقين في الصف. وبكلمة فإن المحاورة السقراطية – كما صورها أفلاطون في محاوراته – تهدف إلى “دفع التلميذ للاعتراف بجهله”، ومن ثم وضع مسلماته المعرفية قيد الشك. ولا يمكن للمحاورة أن تنجز ذلك إلا عبر الضغط على التلميذ للتعبير عن آرائه والذب عن معتقداته والتدليل عليها بالأسباب. وتعتبر هذه الخطوة أولى الخطوات التي على الفكر المستقل اجتيازها، وهي بمثابة تصفير رصيد المعرفة الظنية تجهيزاً لاستبدالها بمعرفة علمية بالمعنى الأوسع للكلمة. هذه الخطوة هي التي يتحقق فيها المطلب التربوي التناقضي القاضي بـ”إكراه” المرء على “تحرير” فكره. يعلق نلسون موضحاً:

“إن الإنجاز السقراطي الذي لا يماري فيه أحد يكمن في التالي: أنه [أي سقراط] يقود الطالب إلى الاعتراف بجهله وبالتالي يقطع الطريق على وثوقيته. هذا الاعتراف، الذي لا يمكن بحال انتزاعه بطريقة أخرى، يكشف عن أهمية الحوار كأداة إرشادية. أما المحاضرة فربما أفضت في بعض الأحيان إلى تحرير الفكر وإذكاء التلقائية المستقلة الكامنة فيه، ولا سيما في الطلاب الأكثر تمكناً، غير أنها غير قادرة على غرس تلك التلقائية المستقلة في الفكر بحيث تملك عليه كلياً بما لا يترك مجالاً للممانعة. فقط الضغط المتواصل على المرء للإفصاح عما ينطوي عليه فهمه، والتصدي لكل استشكال، والكشف عن الأسباب الكامنة وراء كل ادعاء من ادعاءاته، هو الذي يفضي إلى التسليم الكامل وقطع السبيل على أي ممانعة. هوذا فن إرغام العقول على الحرية، وهو السرّ الأول للمنهج السقراطي. […] غير أنه يبقى أول الأسرار فحسب. فهذا الفن لا يعدو أن يفضي بالمرء إلى التخلي عن أحكامه المسبقة والاعتراف بمدى جهله، وذلك بمثابة الشرط السالب لكل علم حق.”

أما الشرط “الموجب” للتساؤل الفلسفي السليم فيجده نلسون لا في المحاورات السقراطية بل في إسهام إيمانويل كانط التاريخي في حقل الفلسفة. هنا يبرز مدى الابتكار في نظرية نلسون حول الإرشاد الفلسفي، حيث يربط بداية الفلسفة مع سقراط بخواتيمها المتمثلة – حسب رأيه – في كانت. ولا بد من معالجة البعد الكانطي من نظرية نلسون في مدونة منفردة.

المرجع :

Nelson, L. (1965) Socratic Method and Critical Philosophy: Selected Essays. Translated by T. K. Brown III. New York: Dover Publications.

حمل مقالة فن الهبوط التجريدي- تمهيد حول نظرية ليونارد نلسون في التساؤل الفلسفي