استعارات تدريس الفلسفة

METAPHORS OF THE TEACHING OF PHILOSOPHY

Felix Garcia Moriyon

فيلكس جارسيا موريون

Moriyón .F 2013, ‘METAPHORS OF THE TEACHING OF PHILOSOPHY’, childhood & philosophy, v. 9, n.18, pp. 345-361.

ترجمت المقالة بعد الحصول على الإذن الخطي من المؤلف أو الناشر

“جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن المؤلف وليست مسؤولية معهد بصيرة أو دار بصيرة للنشر أو أي جهات أخرى متصلة بها من الجهات والهيئات الثقافية التنظيمية أو المانحة وغيرها”

ترجمة: امتنان الحربي

تدقيق: أمل اسماعيل

استخدم الفلاسفة العديد من الاستعارات والتشبيهات لوضع نظريات حول طبيعة التفكير الفلسفي. ابتداءً من نظرية الكهف لأفلاطون (Plato’s cave) إلى نظريات التشابه العائلي لفتجنشتاين Wittgenstein (Family Resemblances). ويستعرض هذا البحث بعض هذه الاستعارات ويناقش ما تظهره حول طبيعة الفلسفة، والأهم: تدريس الفلسفة. إن تأييد الحوار الفلسفي وطلب فرض الفلسفة كمادة في مناهج التعليم الخاص أو الحكومي لا يكفي؛ فنحن في حاجة إلى تقديم وصفٍ دقيق وواضح حول نوع التعلم الفلسفي الذي نريده، ودراسة الأهداف التعليمية التي نعتقد أن الطلاب سيحققونها أثناء تعلمهم الفلسفة. استخدام الاستعارات والتشبيهات الفلسفية قد يساعدنا في تقديم الأسلوب الحواري الفلسفي المناسب الذي يمكن تنفيذه في الفصول الدراسية مما سيمكن الأطفال من تطوير تفكيرهم المنفرد بطريقة نقدية وإبداعية وتعاونية. يختتم هذا البحث بتشبيه هوسرل Husserl للفلسفة بأنها الحرية المطلقة للمسؤولية الذاتية، وتشبيهه للفيلسوف بأنه “الخادم المدني للإنسانية ” الذي يضع على أكتاف الفلاسفة ومعلمي الفلسفة المهمة الضخمة في الحفاظ على حياة التقليد الغربي، المتمثلة في حب الحرية والعقل الناقد.

استخدام الاستعارات

لا تستخدم الاستعارات فقط في الجانب الشعري أو الأدبي عامة، ولكن أيضًا في الخطاب السياسي أو حتى في التنظير العلمي، فبالنسبة لبراون Brown (Brown, 2008) يساعد وجود الاستعارات وقوتها الجانب العلمي في بناء نماذج مفهومة، ووضع توقعات وتقديرات، وتحقيق حسابات دقيقة. واستخدامها لا يقف هنا فقط – فوفقًا لنهج لاكوف Lakoff – فنحن نعيش باستخدام الاستعارات التي تساعدنا على التعايش مع مشاكل الحياة اليومية. كما يقول جونسون Johnson ولاكوف (Lakoff and Johnson, 1980, p. 103) “إذا كان فهمنا مجازياً إلى حد كبير، فإن أفكارنا وتجاربنا وأفعالنا اليومية ما هي إلا صورة مجازية”. وسيكون من الخطأ التفرقة بين اللغة المستخدمة في العلم أو الفلسفة ولغة الشعر أو الأدب أو حتى لغة الحياة اليومية.

استخدم الفلاسفة الاستعارات أيضاً، لا كوسيلة شعرية لشرح نظرياتهم التجريدية فقط، بل كما يفعل العلماء مع نظرياتهم؛ فالعلماء يستخدمون الاستعارات والتشبيهات في اكتشاف وتطوير وشرح وتقييم نظرياتهم (Thagard and Beam, 2004). لقد كان أفلاطون – أحد أشهر الفلاسفة – يستخدم الاستعارات والتشبيهات والقصص والأساطير في حواراته – خاصة في كتاباته الأخيرة التي كان بعضها قصير جدًا، وقد تصل إلى مجرد عبارة واحدة أو قصة قصيرة لا يزيد طولها عن عشرين سطرًا (Partenie, 2011). فبالنسبة له، تسمح الاستعارات أو التشبيهات للآخرين بالتعمق في فهمهم للمشاكل الفلسفية التي تطارد الفكر البشري. وتسمح للفيلسوف بعرض أصعب النظريات الفلسفية لعددٍ أكبر من الناس – ممن ليسوا بفلاسفة ويفتقرون للمهارات الإدراكية – مقارنةً بالذين تلقوا تعليماً فلسفياً سليماً. ويقول غارسيا Garcia (Garcia Moriyon, 1998) ما يزال بإمكاننا استخدام الأساطير الأفلاطونية الخصبة للبدء في الحوار الفلسفي مع الطلاب من المرحلتين المتوسطة والثانوية. تلك الأساطير التي لم تكن مفهومة – واختلف الكثير حول صحتها وقيمتها الفلسفية – إلى أن أخذها أفلاطون وأضاف إليها قيمةً تخصها – هي وجميع القصص التي أخذها من الأساطير اليونانية القديمة وأعاد صياغتها، وأيضاً القصص والتشبيهات الجديدة التي ابتكرها. (Edelstein, 1949).

إننا نبرهن على وجوب التعامل مع الاستعارات والتشبيهات الفلسفية باعتبارها أدوات نظرية تساعدنا على فهم أعمق وأفضل للمسعى الفلسفي. فالاستعارات والتشبيهات لديها حس من الحقيقة وتساعد في تقديم حجج منطقية في إقناع الناس؛ لا يمكننا تقييد استخداماتها فقط للأهداف الشعرية أو البلاغية التي تهدف إلى إقناع الناس سطحياً فقط، وتخفي ضعف حججنا. كما أنها وسيلة فعالة للغاية لتوضيح ما نقصده عندما نتحدث عن تدريس الفلسفة وتفضيلنا تطبيقها في المدارس رسمياً، من مرحلة الروضة فصاعدًا للمتوسطة والثانوية. ورغم حقيقة أن العديد من الفلاسفة – إن لم يكن جميعهم – اتفقوا بشأن الحاجة إلى إتاحة وقت أكبر لتعلم الفلسفة في الفصول الدراسية، إلا أن مواقفهم تختلف دائمًا وفقًا لخلفيتهم الفلسفية والتعليمية المتباينة؛ فمنهم من يدعم وجود الفلسفة في المرحلة الابتدائية – وحتى في مرحلة الروضة – ومنهم من يعتقد أن الفلسفة هي محتوى موضوعي ومجرّد للغاية ولا يمكن تعليمه إلا في أواخر فترة المراهقة. ومنهم أيضاً من ينظر للفلسفة وفقًا لنظرة كانط Kant؛ بأنها نظام إجرائي يعزز التفكير النقدي والإبداعي، ومنهم من يشدد أكثر على محتوى الانضباط الفلسفي ويحرّص على تسليم ونقل المعرفة المستجمعة حول التقاليد الفلسفية (تحديداً الغربية) للطلاب.

ورغم أن مفهوم تعليم الفلسفة للأطفال يعتبر قديماً، إلا أنه فعالٌ جداً في الوقت الحالي. فعلى مدى العقود الماضية، تعد الفلسفة للأطفال مجالًا نشطًا ومقبولًا جداً في كلٍّ من الممارسة والنظرية الفلسفية. وقد حازت قبول وتأييد كبيرين من الأكاديمية الفلسفية. ولكن بالرغم من هذا التأييد، فهناك اتفاق كبير حول تشابك وتداخل محتوى المادة الفلسفية وماهية الإجراءات المحددة والمهارات أو الأبعاد المعرفية والعاطفية. فالقوانين التعليمية التي أقرتها الحكومات وكذلك الأنظمة التعليمية التي أعدها معلمو الفلسفة في مدارسهم، تأخذ بعين الاعتبار: تحديد أهدافهم، وأهداف محتويات النظام وما يجب أن يتعلمه الطلاب من طرق تفكيرٍ ومن مهارات فكرية وعاطفية. الطريقة الوحيدة لتعلم الفلسفة لا تتأتى إلا بتعلم التفكير الفلسفي، والطريقة الوحيدة لتعلم التفكير الفلسفي تكمن في تعلم الفلسفة.

في الأقسام الثلاثة التالية، سأحلل ثلاثة أمثلة من الاستعارات التي تسمح لنا بالحصول على فكرة أدق عن نهج تعلم الفلسفة وتدريسها. سأنتقل من نظرية وصفيّةٍ خالصة لتدريس الفلسفة إلى نظرية أكثر معيارية. أي إنني سأتحدث لصالح أسلوب وطريقة معينة في تدريس الفلسفة وتعلمها من شأنها أن ترتبط ارتباطاً أفضل بمساهمات الفلسفة في تاريخ التعليم الغربي، ولكنها ليست الطريقة الوحيدة الممكنة لتدريس الفلسفة؛ وفي الحقيقة فهي ليست طريقة تدريس مألوفة في النظام التعليمي الحالي.

الملك – الفيلسوف ضد سمك الطوربيد THE PHILOSOPHER KING VS. THE TORPEDO FISH:

يقدم لنا أفلاطون الاستعارة الأولى (الجمهورية The Republic) التي حظيت بقبول كبير في التقاليد الغربية. وهي واحدة من حواراته التي يقارن فيها الفيلسوف بالملك. وهي أن لا يحكم الدولة المثالية – التي أطلق عليها اسم (كاليبوسCalipolis ) – إلا ذوو التعاليم الفلسفية. فهم فقط يمكنهم حكم المجتمع؛ إذ سيضمنون الرفاهية للمواطنين والعيش بتناغم مجتمعاً واحداً متكاملاً. وعلينا هنا أن لا نخلط الفيلسوف بالخبير أو السفسطائي الذي يقدم فقط مظهراً سطحياً للمعرفة، دون فهم حقيقي وعميق لطبيعة المعرفة التي توفر للبشر الحكمة اللازمة لإدارة المجتمع وحياتهم الخاصة. المعرفة الحقيقية ليست رأياً؛ والفيلسوف ليس شخصاً ذا آراء لا أساس لها، بل هو الشخص الذي في ذهنه نموذج مثالي للعدالة والجمال والصلاح والحقيقة. فتمثل (الجمهورية) المثالية، نموذجاً لمجتمع يبدأ فيه التعليم بعد الولادة مباشرة؛ مع الاختيار المسبق لمن سينجب الأطفال من الأزواج. ويهدف التعليم في (الجمهورية) إلى اختيار أفضل الأشخاص – نخبة النخبة – الذين يمكنهم الصعود لأعلى مراتب العلم وينالوا تعليماً فلسفياً. ونتيجة لذلك سيحصلون على لمحة أولية عن المعرفة الأبدية للجمال والخير، لا فقط الجميل من الأشياء أو الأعمال الإنسانية الجيدة؛،وإنما الجمال الكامن في أنفسهم.

إن أفلاطون لا يفضّل المجتمع الديموقراطي – على الأقل بمعناه الكلاسيكي الذي كان يطبقه بريكليس Pericles، قائد أثينا آنذاك – حيث عاش أفلاطون. بل يؤيد الحكم الأرستقراطي للمجتمع؛ حيث لا يحكم المجتمع إلا نخبة النخبة فقط. فبالنسبة له، عندما نصل إلى هذا المجتمع المثالي – حيث يكون الفلاسفة ملوكًا والملوك فلاسفة – عندها، وعندها فقط، سيكون لكل فرد في المجتمع دوره ووظيفته الملائمة. “ما لم يصبح الفلاسفة ملوكًا في بلادنا – أو يصبح الملوك والحكام الموجودون الآن فلاسفة حقيقيين – حيث تتقارب السلطة السياسية مع الحنكة والفطنة الفلسفية، وما لم يُستبعد مِن تولي الحكم ذوو الطباع الدنيئة الذين يسعون وراء هذا دون ذاك، فأنا أؤمِن يا عزيزي جلاكون Glaucon أنه لا يمكن أن تكون هناك نهاية للمتاعب في بلادنا أو في حياةً للبشرية كلها.” (Plato, 473 c-d). وفي وقت لاحق من هذا الحوار، عزز أفلاطون الاستعارة باستخدام تشبيه آخر كان له أيضًا تأثير كبير في التقاليد الغربية، إذ أضاف قائلاً: “في السفينة، يجب أن يكون القائد ذا معرفة كاملة بجميع التقنيات والمهارات اللازمة لإدارة السفينة. وإذا قرر الطاقم تسليم السفينة لقائد لا يملك هذه الكفاءات – ولكن يملك سحره الديماغوجي (الغوغائي) – فحتماً ستغرق سفينتهم.” (Plato, 488, a-d).

هنا ليس المكان المناسب للتعليق على الآثار السياسية لهذا المجاز الأفلاطوني. فقد قدم بوبرPopper نقداً شديد اللهجة في الفصل الثامن من كتابه “المجتمع المفتوح وأعداءه” (The Open Society and his enemies)، تحديداً في فصل عنوانه “الملك الفيلسوف” (The King Philosopher). نركز هنا فقط على الآثار التربوية التي يمكننا استخلاصها من هذه الاستعارة. وقد يساعدنا اقتباس بوبر Popper المثير للاهتمام من كتابه، ونركز عليه الانتقادات، إذ يقول فيه: “لقد قيل إن أفلاطون هو المخترع لمدارسنا الثانوية وجامعاتنا. أنا لا أملك حجّة أفضل تعطي وجهة نظر تفاؤلية بشأن البشرية، ولا يوجد دليل أفضل على حبهم الأبدي للحقيقة والأخلاق ولأصالتهم وإصرارهم وصحتهم من حقيقة أن نظام التعليم المدمر هذا لم يدمرهم كليًّا. فعلى الرغم من خيانة العديد من قادتهم، ما يزال هناك عدد لا بأس به من كبار وصغار، ومهذبين وأذكياء ومخلصين لواجباتهم. يقول صموئيل بتلر Samuel Butler: “أتساءل أحيانًا كيف لم يكن الضرر واضحا وضوح الشمس في كبد السماء “… يبدو أن السبب هو (الغريزة) في معظم الحالات، إذ تمردوا تمامًا ضد تدريبهم للقيام بما قد لا يستطيع المعلمون جعلهم يقومون به” (Popper, 1966, p. 132).

من وجهة نظرنا، هناك ثلاثة عواقب تربوية مهمة وخطيرة لهذه الاستعارة؛ الأول هو اعتبار المعلم ملكًا، وسيدًا حكيمًا، وأن واجبه مساعدة بعض الطلاب على الارتقاء المعرفي إلى الحد الذي لا يمكن الوصول إليه إلا لذوي الكفاءة الفطرية والتعليم الصحيح. ليتم بعد ذلك التعليم باستخدام نموذج “البنك” – وهي استعارة فريري Freire: التي تشير أن المعلم هو “بنك” موفور المعرفة ينقل هذا الجزء الكبير من المعرفة للطلاب، الذين بدورهم يجب أن يستخرجوا المعنى من تعلمهم هذه المعرفة. العاقبة الثانية هي حصر الفلسفة والدفاع عن وجوب تدريسها للنخبة من المتعلمين حصراً، وعدم تدريسها أبداً لمن هم أقل من 16 أو 18 عامًا. فالفلسفة تعتبر نشاطًا نخبوياً – محدداً ومقصوراً لفئة ولا يمكن ممارسته إلا من قبل ذوي المفردات المفاهيمية والكفاءات الإجرائية التي لُقنت لهم بعد عملية طويلة من التعلم. وهي أيضاً مادة لطلاب الكليات أو طلاب السنوات الأخيرة من الثانوية، تحديداً لمن يحضّرون الأقسام العليا من التعليم العالي أو الثانوي. ويضيف سيفالوس Cevallos (Cevallos, 2007) أن الفلسفة لا تدرس على الإطلاق في المرحلة الابتدائية أو تتاح للعامة.

وأخيرا وليس آخرا، تحيّز معلمو الفلسفة للفلسفة، فمالوا لفكرة تقضي بأن تخصص الفلسفة أعلى مكانة في العلوم الإنسانية وفي التعليم. وحججهم قائمة فقط لصالح تدريس الفلسفة، ويرون أن فكرة تطوير التفكير المنطقي والمستقل للطلاب يكون بتعلم الفلسفة فقط؛ مسلّمين بفكرة أن التعليم الحالي يفتقد بعض الخصائص المهمة للتعليم الذي يهدف إلى تطوير التفكير الديموقراطي والنقدي. ويرى لنوسبوم Nussbaum (Nussbaum, 2010) أن مسيرة التعليم على خطأ في كل أنحاء العالم؛ لأن هدفها الأساسي هو تعليم الطلاب أن يكونوا منتجين اقتصادياً بدلاً من السعي إلى تطوير وتعزيز كفاءاتهم في التفكير النقدي أو أن يصبحوا مواطنين ذوي علم وتعاطف. وعلى الرغم من أن هذا النقد قد يكون صحيحًا، إلا أن الحل الذي يقترحونه خطأ؛ فنحن لا نحتاج إلى استعادة العلوم الإنسانية (والفلسفة) التي هي بالأساس جوهر تلك العلوم الإنسانية – كمواد دراسية أو كتخصصات، ليس علينا استعادتها كأنها (ملكة العلوم)؛ كما وصفها بوثيوس Boethius في استعارته وتشبيهه للفلسفة، ولا علينا أيضاً تقبل الفلسفة ووضعها في دور ثانوي في المناهج الدراسية – كما يحدث في هذه العصر الحديث – حيث قلّت مكانتها في التعليم إلى أن أصبحت مادة مساعدة أو إضافية. إن النظام التعليمي يحتاج إلى الفلسفة والعلوم الإنسانية باعتبارها نهجاً فكريّا وتعليمياً مشتركاً وملتزماً بالديمقراطية جديًّا؛ حيث تصبح الفلسفة مشتركة مع جميع التخصصات وتصب في نفس الهدف الساعي لتغيير وتحسين العالم الذي نعيش فيه. يجب أن يصبح التفكير النقدي والمستقل ركنا أساسيا في أي تخصص.

أفلاطون بنفسه يستخدم استعارة أخرى قوية جدًا في حواره (مينون Menon). ففي أحد أجزاء الحوار، يرد مينو Meno على سؤال سقراط حول معنى العدالة باتهامه بأنها مثل سمكة الطوربيد – التي تصعق ضحاياها بأشعتها الكهربائية. وقد أقر سقراط هذه المقارنة؛ لأنه يعرف أن أسئلته تزعج الناس وسبب هذا الانزعاج هو أنه يجعلهم يشكون في قناعاتهم الخاصة؛ بما يجبرهم على الاعتراف بأنهم لا يعرفون ما يعتقدون أنهم يعرفونه. يقدم سقراط تبريراً لسلوكه المزعج وغير المهذب في طرح الأسئلة التي تزعج من يحاوره، فيخبر مينو أنه يشبه سمكة الطوربيد حين يخدّر نفسه أولاً لجعل الآخرين يتخدرون. يقول أفلاطون (Plato, 80 c-d) “كوني أجعل الآخرين يشكون لا يعني أنني أملك اليقين؛ بل يعني أنّي أكثر منهم شكاً، لذلك أجعلهم يميلون للشك أيضاً.” إن الأسئلة ليست بلاغية، بل هي أسئلة حقيقية لشخص يتجاهل الإجابات ويبحث عن الحقيقة. ولا يوجد اتفاق واضح يبيّن المعنى الحقيقي لسخرية سقراط. فبالنسبة لبعض الفلاسفة – وكذلك بعض زملائه المعاصرين وخاصة خصومه – إن سقراط ليس جاهلاً، بل يتظاهر بأنه لا يعرف الإجابة لا أكثر، وما سخريته إلا حيلة لجعل خصومه يقرون بإجاباته.

أما التبرير الآخر الذي قدمه سقراط إلى مينو، فيبدو الأفضل لفهم عملية التدريس وفلسفة التعلم. إن سقراط يتجاهل بالفعل أو يعطي إجابة مبدئية – إجابة ليست سوى جزئية، وضعيفة، ومؤقتة – تفتح المجال لأسئلة أكثر من تلك التي تحلها. وفي الواقع، بعد تشبيه سمكة الطوربيد، أضاف أفلاطون مفارقة تربوية على لسان سقراط: “هل ترى ما الخطأ في الحجة التي تطرحها؟ حيث لا يمكن لأحد التساؤل عما يعرفه أو حتى ما لا يعرفه؟ إنه لا يستطيع التساؤل عما يعرفه؛ لأنه يعرفه فلا يحتاج إلى تساؤل، ولا يمكن له أيضا أن يكذب بالتساؤل فيما لا يعرفه لأنه لا يعرف عمّ يتساءل”. إن السخرية ليست حيلة أو أداة تعليمية لجذب الآخرين، بل هي خاصية حاسمة لفهم سقراط للتعلم تنص على أن أولئك الذين يعترفون بجهلهم فقط هم الذين يمكنهم خوض عملية التعلم الطويلة والصعبة في مجتمع حواري ملتزم بالبحث عن المعنى والحقيقة (Kohan, 2009).

لطالما كانت السخرية السقراطية أسلوبًا فلسفيًا ثابتًا في التعليم الغربي من أفلاطون حتى الآن، على الرغم من أنها لم تلعب دورًا مركزيًا في تدريس الفلسفة. في أوائل القرن التاسع عشر، دافع الفيلسوف الألماني ليونارد نيلسون Leonard Nelson دفاعا مستميتًا عن الأسلوب السقراطي وأبدى اقتراحا لتنفيذه في البيئات التعليمية غير الرسمية والرسمية – حتى أنه أسس في عام 1922 أكاديمية (Philosophisch-Politische) الألمانية الموجودة إلى الآن، لتشجيع تنفيذ الحوار السقراطي في بيئات مختلفة (Nelson, 1965). وطورت هذه الأكاديمية و(الجمعية البريطانية لتعزيز الفلسفة النقدية) الحوار السقراطي خارج الإطار التعليمي بعد عام 1980. وبعد عدة عقود، ابتكر ماثيو ليبمان Matthew Lipman (Lipman, 1980) الاقتراح المبتكر لتطبيق الفلسفة مع الأطفال، من الروضة وصولا إلى المرحلة الثانوية – بمساعدة آن شارب Ann Sharp وزملائه الآخرين – فبنى منهجا فلسفيا يركز ارتكازا خاصا على الأسلوب السقراطي، وأنشأ مركزًا لتدريب المعلمين IAPC)). وتعتبر الطريقة السقراطية في الوقت الحاضر نهجا أساسيا لتدريس الفلسفة.

إن أسلوب السخرية ليس إلا الخطوة الأولى من الطريقة السقراطية، وهي نقطة البداية التي تثير الحيرة والغموض لدى الطلاب، وتثير لديهم التفكير الفلسفي. عن طريق عملية الحوار الفلسفي – مع المعلم أو الميسر – يوضح الطلاب المفاهيم، ويقدمون أسبابا لتبرير آرائهم أو وجهات نظرهم، ويستخلصون النتائج ويطرحون أسئلة جديدة. وهذا ليس نشاطًا يستهدف فقط النخبة – أو الأشخاص ذوي الخلفية الفلسفية – كما فعل سقراط في أثينا، وحواره مع الأشخاص العاديين بناءً على تجاربهم ومعرفتهم الخاصة باستخدام لغة حياتهم اليومية بشأن الموضوعات الفلسفية الكلاسيكية. لذا، يمكنك ممارسة الحوار الفلسفي مع الأطفال والمراهقين والبالغين وكبار السن، وتعزيز تفكيرهم النقدي والراعي والمستقل وإدخالهم في التقاليد الفلسفية الغربية وغير الغربية. أعطى ميشيل توزى Michel Tozzi (Tozzi, 1994) وصفاً واضحاً ودقيقاً لهذه العملية، وقسّم الحوار الفلسفي لثلاث مراحل: أولاً، جعل معتقداتهم المسلّمة قابلة للشك والتحليل. ثم التصور، والبحث عن الاستخدام الأدق للكلمات الشائعة، وأخيرًا، المجادلة؛ أي تقديم وتقييم أسبابهم الخاصة وأسباب مجموعتهم في المجتمع الحواري الفلسفي.

استعارة الكهف والفن السقراطي في (التوليد) THE CAVE AND SOCRATIC ART OF MIDWIFERY:

رغم أن هناك تعارضاً واختلافاً معيناً ما بين الاستعارتين اللتين طرحتهما في القسم السابق (الملك الفيلسوف وسمكة الطوربيد)، إلا أننا لا بدّ أن نكون يقظين وألّا نختار نهجاً دون آخر أو نستبعد كليهما. على الرغم من أننا نحتاج أثناء الممارسة التربوية إلى أن نختار ونقرر أيًّا من النهجين أنسب – لكن لا معضلة هنا تمنعنا أو تطالبنا بالتخلي كليا عن أحد الخيارين – إذ يعتمد ذلك على نوعية الطلاب الذين نتعامل معهم، وخلفيتهم الفلسفية، لما قد يقود اختلافهم إلى التنقل من نهج لآخر. إن دورنا نحن مدرسي الفلسفة في المدارس الرسمية يجب أن يكون أقرب كثيرًا إلى (الميسر الساخرthe Ironic Facilitator)؛ الذي يدعو الأطفال إلى التفكير بأنفسهم، بدلاً من أن نكون مثل أستاذ قضائي – ذي معرفة عميقة بالفلسفة يقدم أجوبة جاهزة لطلابه نظرا لعلمه بالتراث الفلسفي دون أيّ جهد مبذولٍ منهم. فعلى النقيض تماما؛ كلما كنتَ عالماً بالتراث الفلسفي، كان دورك أسهل كميسّر ساخر؛ فبناء جسرٍ ينقلنا من ضفة لأخرى ليس صعبًا البتة.

هناك تشبيه آخر لأفلاطون يمكن أن يساعدنا في التعمق أكثر حول فكرة تدريس الفلسفة. ألا وهو تشبيه (الكهف)؛ الذي يعرض فيه أفلاطون قصة تمثل شرحاً موجزاً لبعض أفكاره الفلسفية الأساسية. ولكن هنا لن نشرح المعنى الفلسفي الكامل لهذا التشبيه، سنتناول فقط الآثار التربوية القيّمة الموجودة في التشبيه الذي سيسمح لنا بتخطي التعارض أو الاختلاف ما بين الاستعارتين السابقتين. تبدأ القصة بتشبيه الناس على أنهم سجناء مقيدة أرجلهم بسلاسل في داخل كهف لا يرون فيه سوى الظلال الممتدة أمامهم يُسقطها ضوء ساطع على جدار أمامهم، ولا يسمعون إلا صدى أشخاص لا يرونهم. فبالنسبة لهم، عالم الظلال هذا حقيقي، وتلك الأصوات التي يسمعونها هي أصوات الظلال الحقيقية. ثم يتحرر سجين، ويجبر نفسه على الوقوف ويدير ظهره ليحاول بعدها الخروج من الكهف لرؤية ما هو “الحقيقي”. وبعد معاناته ومحاولاته الشاقة مشياً لمخرج الكهف ورؤية العالم خارجاً (كل محاولات الخروج تم وصفها بكلمات مؤلمة)، يخرجُ أخيراً من الكهف متعباً وغاضباً، فتزعجه أشعة الشمس ويفتقد ظلام كهفه وقيوده. لذلك تذكرنا هذه الأسطورة بحقيقة مفادها: لا توجد معرفة دون جهود شخصية شاقة. فالمعرفة شاقة، ولا يمكنك الحصول عليها بلا مقابل. رحلة اكتشاف الحقيقة هي رحلة وتجربة فردية تماماً، ولا أحد يستطيع أن يخوضها عنك. لذا إذا أردت التعلم، كن مستعداً لهذه الرحلة الصعبة التي في نهايتها ستكون حراً طليقاً حتماً، وستستحق نتيجتها كل هذا الجهد العظيم.

الفلسفة والتفكير الفلسفي هما نشاطان وتدريبان بوجهين؛ فمن جهة هناك البحث الحر عن الحقيقة: فالطريقة الوحيدة التي تمكننا من الحصول على الحرية والسعادة تأتي من التفكير الفلسفي؛ فكما قال سقراط للقضاة في (دفاع سقراط): “حياة بلا بحث لا تستحق أن تُعاش”. ولكن هذا الأمر يقودنا إلى الجانب المحزن من التفكير الفلسفي؛ إذ إنه يجبرنا على قطع علاقتنا مع عالم الاختزال والوساطة الذهبية “”aurea mediocritas. بمجرد أن نقبل هذا الجهد الشخصي لنكون أحرارًا، علينا فقط أن نؤمن بأننا جديرون بالسعادة، فكما يقول كانط Kant: “ليست الأخلاق هي المذهب الذي يعلمنا كيف نكون سعداء؛ بل المذهب الذي يعلمنا كيف نكون جديرين بالسعادة. وعند إضافة الدين وحده، يشملنا أمل أن نحظى بالسعادة بقدر سعينا بألّا نكون غير جديرين بها، ومن هنا يتجلى دور الدين في الأخلاق، إذ إن الأمل في تحصيل السعادة لا يبدأ إلا مع الدين“. (Kant, 2002, A 234).

وكان هيوم أكثر تشاؤمًا حول تأثير المساهمة الفلسفية على البشر. وقد طرح علاقة صلة قوية ما بين الرغبة في المعرفة والاكتئاب – الذي قد يصل حتى للانهيار العصبي (Lemmens, 2005). وهذا الطرح الذي قدمه هيوم Hume قريب جدًا من شكوى الاكتئاب للفيلسوف المتواضع في قصة فولتير (Voltaire’s Story of the Good Brahmin).

بالعودة إلى أسطورة الكهف، مجرد أن يعتاد السجين المحرّر على الوضع الجديد ويدرك القيمة المطلقة للعالم الحقيقي للأفكار، يتخذ قرارًا “بطوليًا” بالعودة إلى قاع الكهف من أجل مساعدة السجناء من زملائه وكسر قيودهم والخروج من ظلام الكهف إلى العالم الخارجي – حيث تشرق الشمس، وتوجد الأسباب لكل شيء. وهذا أيضاً مجاز عن الفيلسوف الذي يتمثل دوره في مساعدة الناس في توسيع مداركهم، وكسر اعتمادهم على عالم الظل الذي يمنحهم شعورًا زائفًا بالأمان. وتتمثل الخطوة الأولى في عملية التعليم هذه بجعلهم يشككون في وضعهم الشخصي، ليكتشفوا أن خلف هذا المظهر من الأمان حقيقة أنهم مضطهدون، ويفتقرون إلى الحرية الشخصية. وهذه نفس طريقة تعليم فريري Freire للمضطهدين (Pedagogy of the oppressed)، وطريقة الفيلسوف (سقراط، كمثال مثالي) حيث يبدأ عملية تحرير من يحاوره بتناول الموضوعات المهمة بالنسبة له، والمستمدة من تجاربه الشخصية. وفي هذه الخطوة الأولى من التعليم، لا تعتبر اللغة الفلسفية المعقدة ذات أهمية كبيرة؛ فالتطور المفاهيمي للمتعلمين سيكون نتيجة انخراطهم في الحوار الفلسفي: فيكتسبون الثراء المفاهيمي الفردي وكفاءات التفكير والاستدلال من خلال عملية التساؤل عن طبيعة مشاكل الحياة الواقعية التي يواجهونها. فبالنسبة لغارسيا Garcia (Garcia Moriyon, 2009) بعتبر حل المشكلات والحوار الفلسفي هما الأكثر كفاءةً في طريقة التعلم هذه، حيث يتحكم الطلاب بعملية التعلم بالطريقة التي تناسبهم. فالهدف الأهم لتدريس الفلسفة يكمن في تمكين الأطفال والشباب والكبار بطريقة يفكرون بها بأنفسهم.

كما أن تشبيه أفلاطون للكهف قريب أيضًا من استعارات فيتجنشتاين Wittgenstein حول الفلسفة، مما قد يساعدنا أيضًا في البحث عن طريقة محدده لتعلم الفلسفة: كما يقول فيتجنشتاين Wittgenstein (Wittgenstein, 1963, p. 103) في استعارته إننا يجب أن نساعد الطلاب على (كما ذكرها في استعارته) أن “ندلّ الذبابة على طريق الخروج من مصيدة الذباب”. فبعض الفلاسفة – أو الناس العاديين – يشبهون الذباب العالق داخل المصيدة، ودور الفيلسوف الحقيقي هو أن يريهم مخرج المصيدة. فمعنى هذا المجاز مرتبط ارتباطاً جليًّا بفلسفة فيتجنشتاين Wittgenstein التي يرى فيها أن السلاسل أو القيود التي تبقي الناس سجناء هي اللغة – أو في وصف أدق – الاستخدام السيء للغة: حيث يقول إن المشكلات الفلسفية تنشأ عندما “تغيب اللغة في عطلة” (Wittgenstein, 1963, p. 19)، وأن الفلسفة “هي معركة ضد افتتان عقولنا بوسائل اللغة” (Wittgenstein, 1963, p. 47). ومرة ​​أخرى، تشير هاتان الاستعارتان إلى أن المشاكل الفلسفية تأتي من التشويش اللغوي، حيث يكون الحل الوحيد لنا هو تجنّب هذا التشويش. وشبّه فيتجنشتاين Wittgenstein الأخطاء اللغوية بالسلاسل في مجازه. وطريقة الهروب هي توخي الحذر الشديد عند استخدام اللغة. ويفسر أيضاً طريق الفلسفة على أنه طريق علاجي أكثر منه طريقا للحرية، وغاية رحلة الفلسفة ليست للوصول إلى عالم واقعي حقيقي، بل عالم أكثر بساطة وزهداً؛ عالم “لا يستطيع المرء فيه أن يتكلم، بل يجب أن يكون صامتًا” كما يقول في السطر الأخير من عمله Tractatus .

ونلاحظ أن تشبيه الكهف لأفلاطون قريب من الخطوة الثانية من الأسلوب السقراطي، المايوتيك maieutic (Fortunoff, 1998)، وهي اللحظة التي يحقق فيها كل المحاورين إمكانياتهم في الفلسفة. يقود الفيلسوف – بصفته ميسِّرًا للتساؤل المجتمعي – ذهن التلاميذ، بجذبهم إلى اكتشاف الذات. لا يهدف أبداً إلى ملء عقولهم – كما اعتاد السوفييتيون والعديد من المعلمين في الوقت الحاضر ذلك. في هذه الحالة، يعد الاسم المايوتيك (maieûtikos)، استعارة خصبةً للغاية؛ لأنه يقارن سقراط بالقابلة (المولّدة Midwife). الذي كان في الواقع ابنا لقابلة، وكان ينظر إلى مساهمته الخاصة في الحوار الفلسفي كمساهمة المولّدة في الولادة؛ فالقابلة هي (مولّدة) تساعد النساء في ولادتهم، وهو (مولّد) للأفكار؛ يساعد الناس في استخراج الأفكار من داخلهم، فتساعدهم أسئلته المثيرة للنمو وتحقيق التطور المفاهيمي الكامل (Holyoak and Thagard 1995, p. 217). بالطبع، لست مضطرًا لتأييد (نظرية المعرفة) لأفلاطون من أجل قبول هذا الاستعارة طريقةً للتعلم. النقطة الأساسية هي النظر إلى التعليم كعملية تفاعلية بين الكفاءات الفطرية والتأثيرات البيئية، حيث يعمل المعلم “كالقابلة” فيساعد الأطفال على استخدام وتحسين تلك الكفاءات الفطرية في طريقهم لبحثهم الشخصي عن المعنى. وبالحقيقة، لا يتعلم الأطفال في المدرسة شيئاً لا يعرفونه مسبقًا، فهم يكتسبون فهما أوضح وأكثر عمقا للعالم الذي يعيشون فيه ولأنفسهم لا أكثر، بالمعلومات التي يحصلون عليها من بيئتهم الاجتماعية والمادية.

بمجرد أن ننتقل من الملك – الفيلسوف إلى أسطورة الكهف؛ سنجد حلا لبعض المشاكل التي كشفنا عنها في القسم السابق. من الممكن انتقاد الدور النخبوي لتدريس الفلسفة، دون التضحية بمساهمة معلم الفلسفة القيمة في تعليم طلابه. فلم يعد المعلم الفيلسوف الحكيم الذي ينقل المعرفة للطلاب؛ بل أصبح العاشق للحكمة(philo-sophos) والمرافق لطلابه؛ الذي من خلال أسئلته يرافق الطلاب في عملية نموهم الشخصي. وهو يغير الدور المعتاد للمعلم ويتبنى نهجًا تعليميًا مختلفًا تمامًا، الذي يصل إلى مرحلة – كما يقول دونالد فينكل Donald Finkle –  “بالتدريس العميق؛ التدريس وفمك مغلق” (Finkle, 2000). يحتاج معلم الفلسفة للاعتراف بجهله وقبول أنه ملتزم أيضًا بالبحث عن الحقيقة والمعنى؛ وأن يكون فيلسوفًا؛ أي أن يتطبع بالطابع الفلسفي ويكون ملماً بالتراث الفلسفي. فكلما كان أكثر إلماماً بهذا التراث، وأعمق في فهمه للمشكلات الفلسفية التي ناقشها الفلاسفة على طول هذا التراث، كان من الأسهل بالنسبة له أن يعمل “كالقابلة”؛ ويساعد الأطفال على كسر “قيودهم” لتبدأ مسيرتهم للحرية.

يساعدنا هذا النهج التعليمي أيضًا على حل مشكلة أخرى في استعارة الملك الفيلسوف: إن الفلسفة نشاطٌ لا يمكن ممارسته إلا من الناضجين بما يكفي لخوض الحوارات الفلسفية التجريدية العميقة. وكان كانط Kant مؤيداً لرأي أفلاطون هذا، فهو يعتقد أيضًا أن تعليم الفلسفة للشباب الصغار خطأ فادحًا يمكن أن يسبب ضررًا أكثر من النفع. ولكن ليس واضحا ما إذا كان كانط Kant يؤمن بأنها معضله قد نتغلب عليها بتدريس الفلسفة بأساليب ملائمة. أو أنه كأفلاطون، يعتقد تماماً أن هناك حدًا أدنى للعمر ولا يمكن تدريس للفلسفة لمن دونه؛ لأن عقول الأطفال لم تنضج بما فيه الكفاية لفهم الفلسفة (McDonald, 2007). فاقترح عدم استخدام الطريقة الحوارية لسقراط وأفلاطون، بل استخدام طريقة zetetic)) وهي أسلوب من التساؤل الفلسفي الذي أتى من Sextus Empiricus، وهي طريقة لا تقتصر على التفكير فحسب، بل المشاركة في تساؤل فلسفي نشط.

يتماشى نهج كانط Kant – الذي سيقبله معظم معلمي الفلسفة الحاليين – مع سقراط (المايوتيك) ومع فهم أفلاطون لدور الفيلسوف في قصة الكهف. ومع ذلك فليس من السهل تنفيذه لأنه يتعارض مع معظم أنظمة التدريس الحالي.  في نظام التدريس الحالي، يتدرب الطلاب في المدرسة على كتابة أفضل الإجابات التي لديهم (التي تكون موجودة في الكتب النصية أو التي تعلموها من معلميهم)، على حساب تفكيرهم النشط. ثم يتم استخدام الأطفال (بعد سنوات من التعليم الإلزامي) لتعلم ما هو “ذو معنى حقيقي” ولكنهم بالمقابل يفضلون تعليمهم الإجابة الصحيحة – التي ستسمح لهم بالحصول على درجات جيدة في امتحاناتهم. فتغيب ميولهم للارتقاء؛ ويتجنبون اتباع الطرق الصعبة وغير المألوفة للخروج من كهفهم.

على كل حال، إن أكثر اقتراح مثمرٍ لرواية الكهف – كما فسّرناه – هو تقديم أسلوب عملي لتدريس الفلسفة. وهو أسلوب يمكن للمعلمين تعلمه وتطبيقه في عملية التدريس. يتيح لنا هذا النهج أيضًا إمكانية بناء جسر يسمح للطلاب بالتغلب على الانقسام بين الفلسفة العامة والخاصة (المصممة لفئة محددة من الناس)، ما بين الفلسفة الاحترافية والأكثر عمقا وصعوبة، والفلسفة الأكثر حيوية وخفه، مثل تلك التي يشترك فيها الفلاسفة الهواة في “café-philo” أو في العديد من الأماكن الأخرى حيث يبدأ مجتمع التساؤل الفلسفي حوارًا فلسفيًا بحثًا عن المعنى، ومناقشة الموضوعات الفلسفية المتجسدة في تجربتهم اليومية في حياتهم.

شجرة الفلسفة لديكارت، والسلاسل، والكابل، والويب:

في بداية عصر الباركويةBaroque ، قدم لنا ديكارت Descartes استعارة أخرى مثيرة للاهتمام في عمله (مبادئ الفلسفة Principles of Philosophy)؛ في الطبعة الفرنسية. ذكر فيها استعارته (شجرة الفلسفة) التي تعرض فهمه الشخصي للمعرفة البشرية. فيقول واصفاً: “إن الفلسفة مثل الشجرة المتكونة من جذور وجذوع وفروع؛ فالميتافيزيقا هي الجذر، والفيزياء الجذع، وجميع فروع الجذع هي جميع العلوم الباقية. التي قسمت الى ثلاثة أقسام رئيسة: علوم الطب وعلوم الميكانيكا وعلوم الأخلاقيات. وبعلم الأخلاقيات أعني أسمى الأخلاق وأكملها، أي تلك التي تفترض معرفة كاملة بالعلوم الأخرى، والتي هي أقصى مراتب الحكمة.” (Descartes, 1953, p.566) وهذه الاستعارة أيضاً تعتبر تشبيهاً؛ لأن ديكارت Descartes شبه الأجزاء المختلفة للشجرة بالمجالات المختلفة للمعرفة البشرية. فكل منها يمثل علاقة وظيفية وتسلسلاً هرمياً: حيث الشجرة والمعرفة البشرية متشابهتان في الهيكل والوظيفة.

إن مشكلة تصنيف العلوم وترتيبها في مدرسة الفلسفة لمشكلةٌ ضخمة جدًا، ناقشها أرسطو Aristotle في أعماله وكذلك فعل ديكارت Descartes – الذي اقترح لاحقاً استعارته (شجرة الفلسفة) حلاً لها. يمتلك ديكارت Descartes خلفية فلسفية عميقة جداً ودقيقة، اكتسبها أثناء سنواته في مدرسة (La Fléche) – وهي مدرسة نخبوية يحكمها كهنة اليسوع.  وتعتبر استعارته هذه متوافقة مع نهجه الفلسفي الجديد – مزيج من الفلسفتين القديمة والحديثة (Ariew, 1992). كانت رغبته تكمن في توحيد العلوم جميعها ومزجها في علم واحد شامل؛ مرجعه الرياضيات. وأن يكون هذا العلم منهجيا ومنظما بشكل هرمي متسلسل، حيث كانت استعارة الشجرة هي الأقرب لفكرته بشأن تنظيم العلوم.  ونظرته هذه متناسقة أيضاً مع نهجه (قواعد توجيه العقل): ففي القاعدة الأولى كان واضحًا جدًا بشأن الهدف النهائي لمسعاه الفلسفي؛ فكان يرفض فصل العلوم وأن لكل علم طريقه ومنهجه، فهو يرى العكس تماماً؛ إن العلوم كيان واحد شامل لا فصل بينها. ويقول “إن العلوم جميعها متماثلة ومطابقة للحكمة البشرية، وتظل دائماً كياناً واحداً، لكن تطبيقها يجري في مجالات مختلفة.”

الفلسفة بالنسبة لديكارت Descartes هي التخصص الأساسي في معرفة البشرية، وأساس المعرفة، وتتجلى حتى فوق النهج الرياضي الذي يعتبر الملهم الأول في تجديد نشاطه الفلسفي. وتمثل الميتافيزيقا جذور هذه البنية المعرفية عندما تكون هذه الجذور قوية وثابتة حصراً وفق أسس الفلسفة التي لا تعطي مجالاً في الشك والحكم أن طريق السعي الفلسفي بلا جدوى – كما يفعل بعض المشككين – عندها فقط تبدأ مسيرة الفرد الحقيقية للسعي العميق لفهم العالم وفهم أنفسنا. ومن ناحية أخرى أيضاً، لا تتضارب الفلسفة مع المصالح الانسانية – المصالح التي نحكم بها ما إذا كانت الحياة جيدة وتستحق أن تُعاش. إن تعلم إعطاء حكم سليم حول أي شيء هو الأفضل لتعزيز الإحساس الجيد. ولأن هدف البشرية جمعاء العيش في حياة جيدة؛ يأتي دور الأخلاق في التفكير الفلسفي، وهي نقطة البداية في التفكير الفلسفي وأعلى مستويات الحكمة. إن بحثنا عن الحقائق يساعدنا لعيش حياة أقرب إلى الكمال والسعادة.

يتعمق هايدغر Heidegger في استعارة ديكارت Descartes ويحاول فهم المعرفة البشرية. فهو يتقبل فكرة أن الفيزياء (الجذوع) والميتافيزيقية (الجذور) هما أساس شجرة المعرفة. ولكن يضيف متسائلاً: إذا كان ذلك صحيحاً فعلينا أن نقبل أيضاً أن كل جذور تحتاج إلى أرض خصبة لتنمو. إذن ما هي تربة جذور شجرة الفلسفة؟ ومن أي تربة تتغذى الجذور التي من خلالها تتغذى الشجرة كاملة؟ وما هو العنصر الذي يعيش في هذه الجذور ليغذي الشجرة وفروعها؟ ما هي الميتافيزيقيا؟ ما هي أرضية الميتافيزيقيا؟ ما هو أساس الميتافيزيقيا؟ بالنسبة لهيدغر Heidegger، فإن الميتافيزيقيا تفكر فقط بالموجود كموجود؛ ومن خلال الوجود تتجلى الموجودات. فالوجود – لا الموجود – هو أعمق ينبوع للمعرفة البشرية. لذا، تنسى الجذور نفسها وتتفرع بداخل التربة لتنمو الشجرة. فبمجرد أن تمتص الجذور هذا العنصر يتحول إلى نسغ يتدفق على طول الشجرة ليمكننا من الحصول على الفاكهة بدلاً من مساعدتنا في الحصول على حياة جيدة.

اقترح هورسل Husserl تفسيراً آخر يستحق النظر إليه حول هذه الأرض الخصبة ليعطينا أيضاً أفكاراً لتدريس الفلسفة. إذ  يقدم مفهوم (عالم الحياة) بطريقتين مختلفتين؛ ولكن متوافقتين: من حيث المعتقدات الشخصية، التي تعرّف على أنها مجموعة الأفكار المسبقة المبررة لأفعالنا تجاه أنفسنا وتجاه العالم المجرد: أو كالبيئة الاجتماعية أو الثقافية التي تشكل نظاماً إدراكيا أو ذا معنى تجعل من الممكن تكوين مبادئ موضوعية مشتركة. ويشير (عالم الحياة) و(عالم الحياة الشخصي) إلى القاعدة الأساسية لنظام معتقداتنا، وهو النظام المُعد والمحدد مسبقاً للأفق العالمي لتجاربنا. ويجب أن يبداً من هنا التفكير الفلسفي والميتافيزيقي – من حيث أفعالنا – التي غالباً ما تكون مكتسبة، لنضعها موضع الشك والتساؤل لنتمكن من الخروج بمعتقدات أكثر دقة وصحة وتكوين مبادئ مشتركة موضوعية.

وتعطي استعارة الشجرة أيضًا تفسيرًا محتملًا آخر، فبمجرد أن نركز على دور (النسغ the sap) الذي يخرج من الجذور ويغذي الشجرة بأكملها من الجذوع للفروع، مع توفيره للعنصر المغذي لتزدهر بثمارها. يناقش معلمو الفلسفة الطريقة المثلى والأنسب لتعليم الفلسفة؛ ما إذا كان يجب للفلسفة أن تكون تخصصاً أساسياً منفصلاً (حيث تمثل صورة جذور الشجرة “الميتافيزيقيا”، والفروع تمثل الأخلاق؛ التي هي أعلى مستويات الحكمة البشرية). أو أن تضاف كمادة داخل المنهج (التي يمثل دور النسغ للشجرة)، أو اقتصار استخدام المعلمين لها كأنشطة فلسفية في موادهم. بالنسبة لليبمان Lipman (Lipman, 2002) إذا كان الأطفال لا يملكون وقتا محددا في جدولهم المدرسي لقضاء وقت في مجتمع من التساؤل الفلسفي، فإن تطورهم التعليمي سيفتقر للكفاءة الفلسفية، والكفاءة المعرفية والعاطفية الأساسية. و إذا لم يكن لديهم وقت كافٍ في كل تخصص وكل مجال لمناقشة المفاهيم الأساسية (الفلسفية) الموجودة في موادهم، فإن فهمهم وتعلمهم لتخصصهم سيفتقر إلى أساس ثابت (Giordamina, 2005). لا يجب علينا أن نختار واحدا من خيارين، بل لا بدّ من تطبيق كل منهما لنضمن تحسين النمو الحقيقي لشخصيات الأطفال.

هناك استعارة ثريّة أخرى استخدمها ديكارت Descartes لوصف التفكر الفلسفي، إذ اعتبرها كعمل المهندسين المعماريين الذين يبنون المبنى على أسس صلبة؛ فيبدأ المهندس المعماري بإزالة التربة الرملية ليتمكن من وضع مبناه على أساس متين. وعلى هذا المنوال يبدأ الفيلسوف بتحليل كل ما هو مشكوك فيه ويتخلص منه حتى يلاحظ ما هو حقيقي ويستحال الشك فيه. فبمجرد أن يكتشف ديكارت Descartes الحجر الأساسي الذي يبني عليه مبناه الجديد للفلسفة، يتقدم خطوة بخطوة من أفكار واضحة ودقيقة للغاية يتغلب بها على كل نقد مشكك، ويستعيد فيها ثقته في قدرة العقول البشرية على التقدم في بحثها عن الحقيقة. ومع ذلك، لا ينبغي علينا أن نبالغ جداً في هذا التشبيه، أو نطبقه في تدريسنا بطريقة نقنع بها الطلاب بفكرة أنه من الممكن الحصول على إجابة أو حل واضح ونهائي لأسئلتنا الفلسفية. فإذا كانت استعارة أفلاطون تحمل تحيزاً دوغماتياً وأوتوقراطياً؛ فنسنجد هذا التحيز نفسه غالبا مع استعارة (المهندس المعماري) لديكارت Descartes، على الرغم من أن كلا منهما كان أكثر انفتاحاً مما يقوله المنتقدون لهما.

و لكي لا نتخلى عن هذه الاستعارة وإمكانياتها في بناء طريقة تسلسلية تنتقل من طرق تفكير أكثر شيوعاً ويسهل تطبيقها إلى طرق أكثر عمقاً. علينا أن ننظر لاثنتين من الاستعارات الفلسفية. الاستعارة الأولى (السفينة والبحّار) لنوراث Neurath – البحّار الذي يمنعنا من وضع بروتوكول ثابت يقودنا – كما يصفه ديكارت Descartes – نقطة انطلاق وأساسا راسخا للعلوم والفلسفة. فيقول بأننا لسنا مثل (المعماريين)؛ بل على العكس تماما “نحن مثل البحارة الذين يجب أن يعيدوا بناء سفينتهم في وسط البحر؛ البحارة الذين لا يمكنهم أبدا تفكيك سفينتهم على أرض جافة، وإعادة بنائها بأفضل المواد. العناصر الميتافيزيقية وحدها هي التي تسمح لها أن تتلاشى دون أن تترك أثرا. لكن يبقى الخليط اللغوي المبهم دائمًا بطريقة أو بأخرى كقطع للسفينة. ” (Neurath, 1959, p. 201). إن مسار المسعى الكامل للبحث الفلسفي لا بداية واضحة له ولا نقطة وصول نهائية آمنة. كما يشير إليه فلاسفة التأويل؛ إنه مسار نمضي به دائمًا إلى الأمام، في دائرة ننتقل فيها من قناعات ومعتقدات راسخة إلى مراجعة تلك القناعات وتجديدها بعدما نقارنها مع تجربتنا الشخصية.

يضيف بيرس Peirce استعارة أخرى ناقدةً لاستعارة ديكارت Descartes (المهندس المعماري). بالنسبة له، يجب أن يُفهم المنطق على أنه (كابل cable) وليس (سلسلة chain): “يجب أن تقلد الفلسفة العلوم الناجحة في أساليبها، حيث تمضي قدماً من خلال الفرضيات الملموسة التي يمكن إخضاعها للتدقيق الدقيق، وتمضي إلى الثقة بتعدد حججها وتنوعها بدلاً من حسمية أيها. يجب ألا يشكل منطقها سلسلة غير محكمة الحلقات، بل كابلًا قد تكون أليافه رفيعة جدًا، لكن عددها كافٍ ومتصل اتصالا وثيقا.” (Peirce, 1958, pp. 40-41). وتعتبر استعارته هذه مهمه جداً؛ ليس فقط لأسلوب فلسفي أكثر ثراءً، ولكن لنهج أفضل لتنفيذ الحوار الفلسفي في الفصول المدرسية. فمن هذه الناحية يمكّننا من تبني أسلوب قد يتعرض للخطأ في التدريس والتعلم، حيث تكون المعرفة والشخصية البشرية ككل مثل الكابل الذي تأتي قوته من أليافه الرفيعة جدًا. إن الهدف ليس تشجيع تطوير السلسلة لتصبح قوية بتقوية حلقاتها؛ لأن السلسلة ككل لن تكون أقوى من أضعف حلقه فيها. هدفنا كمعلمي فلسفة يتجلى في مساعدة الأطفال على صنع كابل قوي للغاية مكون من سمات شخصياتهم المختلفة. فمنهم القوي ومنهم الضعيف. وأيضاً تحويل غرفة الصف إلى مجتمع تساؤلي فلسفي، مثل التي تم تطويرها من خلال الطريقة السقراطية والعديد من مناهج التدريس الأخرى الفعالة جداً في الوقت الحاضر، التي تهدف أيضًا إلى بناء مجتمع تساؤلي قوي مكوّن من نقاط ضعف أعضائه وقوتهم؛ حيث يقدم كل منهم مساهمة شخصية (وفقًا لقدراتهم) للآخرين وفقًا لاحتياجاتهم الشخصية.

سنذكر آخر استعارتين تتممان الأفكار التي عرضناها في الأقسام السابقة ونعيد من خلالها صياغة أفكار ديكارت Descartes الموجودة في استعارة شجرة العلوم. كتب أولمان Ullman وكواين Quineكتابا عن المنطق البشري بعنوان (The Web of Belief )، ذكرا فيه استعارة (شبكة الإنترنت) التي تشير إلى أن المعرفة هي نتيجة اتصالات متعددة أكثر من كونها أسسا جيدة. استخدما أيضًا تشبيه (ميكانيكي السيارات) نقيضاً لاستعارة ديكارت Descartes (المعمارية)، ولكنها تتماشى مع قواعد توجيه العقل: التي تنص على أن من الأفضل لنا عندما نشرح المعتقدات والحصول على معرفة أعمق أن نرى هذه العملية باعتبارها عملية كاملة تعمل أجزاؤها معًا، بدلاً من رؤيتها منفصلة بانفصال كل جزء عن الآخر (Quine and Ullian, 1970, p. 80). قبل ثلاثة قرون، اقترح أيضاً فرانسيس بيكون Francis Bacon – المعاصر لديكارت Descartes – استعارة أخرى قريبة من فكرة الويب، تعزز نهجًا متصل التخصصات، حيث فرّق بيكون فيها ما بين النملة (أهل التجربة) – حيث يجمع النمل ويستعمل فحسب – والعنكبوت (أهل الاعتقاد) – تغزل نسيجَها من ذاتها – والنحلة (الفيلسوف الحقيقي) – التي تتخذ طريقاَ وسطياً ما بين الاثنين فتستخلص مادةً من أزهار البستان والحقل، غير أنها تحوِّلها وتهضمها بقدْرتها الخاصة. وذكر “إن عمل الفلسفة الحقيقي لا يختلف عن هذا: فهي لا تعتمد على قوَّتها العقلية وحدها، ولا تختزن المادة التي يقدِّمها التاريخ الطبيعي والتجارب الميكانيكية في ذاكرتها كما هي، بل تُغيِّرها وتُعْمِل فيها الفكر؛ ومِن ثَمَّ فإننا نأمل الكثير باتحاد هاتين المَلَكَتين (التجريبية والعقلية) اتِّحادًا أوثق وأصفى مما تم لهما حتى الآن.”(Bacon, 1960, p. 63).

وهكذا

آمل أن تساعدنا هذه الرحلة الفلسفية الوجيزة التي شرحنا بها وفسرنا بعض الاستعارات الكلاسيكية والتشبيهات من التقليد الفلسفي الغربي، في تقديم طرق أكثر فاعلية لتدريس الفلسفة في التعليم الحكومي والخاص. نحن نتفق مع نوسباوم Nussbaum (2010) على أننا نعيش في أوقات عصيبة، وأن التعليم بحاجة ماسة إلى العلوم الإنسانية إذا أردنا التعامل مع هذه الأوقات الصعبة بنجاح. وأن هذا العالم المعقد والعالمي والمتصل ببعضه اتصالا وثيقا يحتاج إلى أفراد مستقلين ومبدعين، يتمتعون بالشخصية والثقة للبحث عن طرق جديدة تسمح للبشرية بالتغلب على التحديات الحالية ومواجهة المستقبل بأمل لحياة أفضل. ولكن في تدريس الفلسفة، نحن بحاجة إلى تقديم نهج أكثر دقة؛ لأن تدريس الفلسفة في الفصول الدراسية يعتمد اعتمادا كبيرا على أسلوب التدريس وماهية الفلسفة التي نريد تعليمها.

نحن بحاجة إلى أشخاص تعلموا مقاومة السلطة التعسفية والتسلسل الهرمي للسلوكيات. ليخاطروا بأن يفكروا بأنفسهم فيتعاونون فيه مع معاصريهم بهدف مشترك، وكذلك مع الأجيال التي سبقتهم ومع أولئك الذين سيأتون من بعدهم. وفي الواقع، فإن البشرية كانت بحاجة دائمة إلى هذا النوع من الناس لأنه كان عليها دائمًا التعامل مع مشاكلها وتحدياتها الضخمة من أجل عيش حياة تستحق أن تُعاش؛ أي حياة تأملية. إذا أردنا أن ننتج مثل هؤلاء الناس، فنحن بحاجة إلى شكل من أشكال التعليم الذي يعزز الحوار النشط، الذي تم تطويره بطرح الأسئلة السقراطية. وهذا هو الهدف الرئيس لتدريس الفلسفة: النضال من أجل مدرسة الحرية والتفكير النقدي (UNESCO, 2007)، وهي مدرسة ملتزمة التزاما تاما بنمو المجتمعات الديمقراطية.

أريد إنهاء هذه البحث باستعارة أخيرة: منذ ما يقارب 80 عامًا، كانت أوروبا تعاني من وقت عصيب، عندما انتشرت مخاوف الحرب القادمة، ألقى هوسرل Husserl محاضرة في فيينا وبراغ، لاحقًا أصبحت كتابا بعنوان “The Crisis of the European Sciences and Trascendental Philosophy “. كانت الفلسفة بالنسبة له تعني الحرية المطلقة للمسؤولية الذاتية، وكان الفيلسوف “الخادم المدني للإنسانية ” الذي يضع على أكتاف الفلاسفة ومعلمي الفلسفة المهمة الضخمة في الحفاظ على حياة التقليد الغربي – المتمثل في حب الحرية والعقل الناقد. قد تكون الفقرة الأخيرة من هذا الكتاب نهاية مناسبة للغاية لنختم به البحث، إذ يقول: “لا يمكن أن تنتهي أزمة الوجود الأوروبي إلا بإحدى طريقتين: إما بهدم نفورها من الإدراك المنطقي بالحياة، ووقوعها في كراهية وحشية تجاه الروح؛ أو ولادتها من روح الفلسفة، بشجاعة العقل التي ستتغلب كلياً على كل ما هو طبيعي. إن الخطر الأكبر الذي يواجه أوروبا هو السأم. دعونا نتقاتل “كأوروبيين جيدين” ضد هذا الخطر الأعظم بنوع من الشجاعة التي لا تتهرب حتى من المعركة التي لا نهاية لها. إذا فعلنا ذلك، فمن حريق الكفر المدمر، ومن سيل اليأس الحارق المتعلق بمهمة الغرب إلى الإنسانية، ومن رماد السأم العظيم، سيظهر طائر الفينيق من روح حياة داخلية جديدة لتكون أساسا لمستقبل بعيد وعظيم للبشر، فالروح وحدها خالدة “(Husserl, 1965).

المراجع:

  • Ariew, Roger (1992): “Descartes and the Tree of Knowledge”, Synthese, 92:1 p.101- 116
  • Bacon, Francis (1960). Novum Organum. New York: Liberal Arts Press, Inc
  • Brown, Theodore L. (2008): Making Truth. Metaphor in Science. Illinois: Illinois Univ. Press
  • Cevallos Estarellas, Pablo (2007): Teaching Philosophy vs Teaching To Philosophise. Philosophy Now 63 (2007):12-15
  • Descartes, René (1953): The Principles of Philosophy, en Oeuvres et lettres. Paris: Gallimard. English translation by John Veitch, LL. D., http://www.fullbooks.com/The-Principles-of-Philosophy1.html –(1953b): The Rules for the Direction of the Mind, en Oeuvres et lettres. Paris: Gallimard. English translation Descartes, Key Philosophical Writings Ware, Herfordshire: Wordsworth Ed., 1997. p.
  • Edelstein, Ludwig (1949): The Function of the Myth in Plato’s Philosophy. Journal of the History of Ideas , Vol. 10, No. 4 (Oct., 1949), pp. 463-481 ( http://www.jstor.org/stable/2707185 )
  • Finkel, Donald (2000): Teaching with your mouth shut. Portsmouth, NH: Boynton/Cook Publishers
  • Fortunoff, David (1998). Dialogue, Dialectic, and Maieutic: Plato’s Dialogues As Educational Models. Twentieth World Congress of Philosophy, in Boston, Massachusetts http://www.bu.edu/wcp/Papers/Anci/AnciFort.htm
  • García Moriyón, Félix (1998): Selección y actividades. Platón, Mitos. Madrid: Siruela — (2009): Pregunto, dialogo, aprendo. Cómo hacer filosofía en el aula. Madrid: De la Torre
  • Giordmaina, Joseph (2005): Doing philosophy in classroom. Handbook for teachers. In MENON: Developing Dialogue through Philosophical Inquiry. Free download in http://nk.oulu.fi/menon/
  • Heidegger, M. (1956). The way back into the ground of metaphysics. In W.Kaufmann (Ed.), Existentialism from Dostoevsky to Sartre (pp. 206–221). Cleveland: Meridian Books.
  • Holyoak, Keith. J., & Thagard, Paul (1995). Mental Leaps: Analogy in Creative Thought. Cambridge, MA: MIT Press/Bradford Books.
  • Husserl, Edmund (1965). Phenomenology and the Crisis of Philosophy, Translated with Notes and an Introduction by Quentin Lauer. New York: Harper Torchbooks.
  • Kant, Immanuel (2002): The Critic of Practical Reason, translated by Thomas Kingsmill Abbott. http://www.gutenberg.org/cache/epub/5683/pg5683.html
  • Kohan, Walter (2009): Sócrates. El enigma de enseñar. Buenos Aires: Biblos,
  • Lakoff, George and Johnson, Mark (1980): Metaphors we live by. In O’Brien, Jody: The production of reality. Essays and Reading in Social Interaction. Pine Forge Press: Thousand Oaks, Calif. 5th ed.
  • Lemmens, William (2005). The Melancholy of the Philosopher: Hume and Spinoza on emotions and wisdom. In The Journal of Scottish Philosophy, 3 (1) 2005, 47–65
  • Lipman, Matthew (2002): Thinking in educationK. 2nd. Edition. New York, Routledge)
  • MacDonald Ross, George (2007): Kant on Teaching Philosophy. http://prs.heacademy.ac.uk/view.html/prsdocuments/15
  • Nelson, Leonard (1965): Socratic Method and Critical Philosophy, New York: Dover Pub.
  • Neurath, O. (1959). “Protocol Sentences.” In Logical Positivism, edited by A. J. Ayer, pp. 199-208. Glencoe, IL: The Free Press
  • Nussbaum, Martha (2010): Nor for profit. Why Democracy needs humanities. Princeton: Princeton Univ. Press
  • Partenie, Catalin (2011): “Plato’s Myths”, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Fall 2011 Edition), Edward N. Zalta (ed.), (http://plato.stanford.edu/archives/fall2011/entries/plato-myths/ )
  • Peirce, Charles. S. (1958). Charles S. Peirce: Selected Writings. New York: Dover
  • Plato (1969): The Republic., Platon in twelve volumes, translated by Paul Shorey. Cambridge, MA, Harvard University Press; London, William Heinemann Ltd. 1969 Plato (1967): Menon. Plato. Plato in Twelve Volumes, Vol. 3 translated by W.R.M. Lamb. Cambridge, MA, Harvard University Press; London, William Heinemann Ltd. 1967.
  • Popper, Karl R.: The Open Society and its Enemies. George Routledge and sons, 1984. Primera Parte, Pág. 138. http://archive.org/details/opensocietyandit033120mbp
  • Quine, Willard V. and Ullian, Jospeh S. (1978). The Web of Belief McGraw-Hill Humanities/Social Sciences/Languages; 2nd edition
  • Thagard, Paul and Craig Beam (2004): Epistemological metaphors and the nature of Philosophy. Metaphilosohy, vol. 34, 4
  • Tozzi, Michel (1994): Penser par soi même, Lyon: Chronique Sociale
  • UNESCO (2007). Philosophy a School of Freedom.Teaching philosophy and learning to philosophize. Status and proposals. Paris: UNESCO
  • Wittgenstein Ludwig (1963): Philosophical Investigations. Oxford: Blackwell

حمل مقالة استعارات تدريس الفلسفة