من الفلسفة في المدرسة إلى مدرسة الفلسفة: ورش عمل فلسفية لاستعادة التعطش إلى المعرفة

From philosophy in school to a philosophy school: philosophy workshops to revive the thirst for knowledge

Chirouter,E 2019,’From philosophy in school to a philosophy school: philosophy workshops to revive the thirst for knowledge’ ,Education et socialisation,vol.43

ترجمت المقالة بعد الحصول على الإذن الخطي من المؤلف أو الناشر

“جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن المؤلف وليست مسؤولية معهد بصيرة أو دار بصيرة للنشر أو أي جهات أخرى متصلة بها من الجهات والهيئات الثقافية التنظيمية أو المانحة وغيرها”

إيدويج شيراوتر

Edwige Chirouter

أستاذة جامعية بجامعة نانت

حائزة على جائزة كرسي اليونسكو “ممارسات الفلسفة مع الأطفال”.

ترجمة: ريم السعيدي.

تدقيق: منى عبد الله.

الملخص

يتجاوز تقديم الفلسفة منذ سن مبكرة، غالبًا، الحاجة إلى سهولة الوصول إلى هذا التخصص الأكاديمي وتساؤلات التعليم المتعلقة به. ومع الممارسة تظهر أسئلة المعنى من نقل المعرفة والغرض الأساسي من التعليم. ومن أجل ذلك نفترض هذه الفرضية من تجاربنا في عدة تخصصات؛ ولأن النهج الفلسفي للمعرفة قد يضفي معنى أكبر للأنشطة الأكاديمية، فإن الفرضية القوية هي: أن النهج الفلسفي من شأنه أن يؤدي إلى اكتشاف ” النكهة المميزة” المحفزة على المعرفة كما وصفها جا. ب أستولفي J-P. Astolfi (٢٠٠٨). ويمكن للطلاب الكشف عن مخاوفهم وتساؤلاتهم التي تساهم في المعرفة البشرية عن طريق التشكيك في المعنى والحالة المعرفية للمعرفة. بل إنه من الممكن أن يفهموا النظرية المعرفية بشكل أفضل والتحديات التي تظهر أثناء تدريس المعرفة، وذلك من شأنه أن يهيئهم ويحسّن علاقتهم مع المعرفة. ويقودنا ذلك إلى التفكير في معايير ما نسميه بـ “المدرسة الفلسفية”، وهي المدرسة التي تحفز الطلاب على التساؤل عن الأسس المعرفية للمعرفة التي تُدَرّس بشكل يومي. حيث سيكتشفون الدهشة في مصدر المعرفة الأصلي.

الكلمات المفتاحية: الفلسفة في المدرسة – الإنسانية – العلاقة بالمعرفة – عدم المساواة – فلسفة التعليم.

مقدمة:

في عام ١٩٩٦ كتب ب. ريكور P. Ricoeur: “يبدو لي أن مهمة المربي الحديث هي إعداد الإنسان لهذا الكون المعقد” (٢٠١١، ١١٨). كما تبدو هذه المهمة السياسية ملحة بشكل متزايد على عدد من الفلاسفة المتأخرين الذين يدقون ناقوس الخطر بشأن التوتر المتصاعد بين قيم النظام المدرسي، التي لا تزال قائمة على تحرر المثل في عصر التنوير، والمجتمع الذي لم يكن الانتقال الثقافي من معطياته. تقول هـ. أرندت H Arendt ساخرة: “الأزمة في التعليم” تبدو الآن أكثر موضوعية من أي وقت مضى. ويُعدّ التنديد الذي صدر من الفيلسوفة الأمريكية م. نوسباوم M. Nussbaum في مقالتها الأخيرة “ليس من أجل الربح” خير مثال على ذلك. فقد استنكرت أزمة التعليم الصامتة التي انعكست في التحول الأساسي لسياسات التعليم (وبالتالي الفلسفات) في الغرب. كما أكدت على أن هذه السياسات تغفل العلوم الإنسانية والحاجة إلى إنتاج مواطنين متزنين يمكنهم التفكير بشكل ناقد. وتختار بدلًا من ذلك تطوير رؤية تكنوقراطية للمعرفة والمهارات التي تعمل على تكييف الفرد مع الحياة الاجتماعية، وخاصة الاقتصاد الليبرالي المتطرف.

ويرتبط العمل البحثي عن ​​الفلسفة في المدارس، المقترح هنا، بهذا الموضوع “السياسي” لدمقرطة تدريس الفكر الناقد واستعادة القيم والثقافة الإنسانية. أردنا أن نختبر صحة الفرضية القائلة بأن تقديم الفلسفة في سن مبكرة يتجاوز مجرد تلبية الحاجة إلى سهولة الوصول إلى هذا التخصص، وبالتالي ما وراء القضايا التعليمية أيضًا. ومثل هذه الممارسات التجريبية تشكك في المعنى الحقيقي وراء نقل المعرفة في الوقت الحاضر، كما تشكك في الدور الأساسي للمدارس. وهذا هو السبب وراء إحدى الفرضيات الرئيسية وهي: هل يمكن أن يستعيد النهج الفلسفي للتعلم “التعطش” أو أن يضفي “النكهة المميزة” للمعرفة كما وصفها جا. ب أستولفي (٢٠٠٨). وبدلًا من أن تعدّ الفلسفة موضوعًا قائمًا بذاته ومنفصلًا عن أي تعليم آخر جاءت فكرة (ساعة أسبوعيًا من “ورشة عمل الفلسفة”). وهي الحل لطريقة التفكير التي يمكن للفلسفة من خلالها أن تعطي معنى لما يتعلمه الطلاب كل يوم في جميع التخصصات. وكيف يمكن أن تحسّن العلاقة مع المعرفة والنظرة إلى المعلمين والطلاب. وقد دفعنا هذا إلى التفكير في معايير إنشاء ما نود تسميته بـ “مدرسة الفلسفة”، أو بعبارة أخرى، مدرسة يُطلب من الطلاب فيها التفكير في الأسس المعرفية لما يتعلمونه في حياتهم اليومية، ودعوتهم لاكتشاف “الدهشة” التي تكمن في مصدر المعرفة الأصلي، وذلك من خلال العودة إلى نقطة بداية المعرفة. كما يمكن أن تُدرَّس التخصصات في المدارس بطريقة تخلق إحساسًا بالإثارة مشابهًا لذلك الذي نشعر به عندما نكتشف أهم الاكتشافات في العالم.

ومن العجيب أن نلاحظ أن العديد من الأعمال تدعم النهج الثقافي لإهمال المعرفة التي تستحضر ممارسة الفلسفة في المدارس بالرغم من أنها واحدة من أنسب أنشطة التعلم التي تساهم في التغلب على هذه التحديات. فنجد مثلاً م. نوسباوم التي تدعوا في مقالتها “ليس من أجل الربح” إلى تجديد العلوم الإنسانية بهدف تعزيز المواطنة والتعاطف. واكتفت ببضعة أسطر لتجارب م. ليبمان M. Lipman في هذا الجانب. لذلك نقترح في هذه الورقة بناء رابطة قوية بين الممارسات الفلسفية التي تم اختبارها في المدارس لأكثر من أربعين عامًا حتى الآن وبين المطالبين باستعادة معنى المعرفة من خلال التفكير والثقافة.

وقد أسسنا لاختبار هذه الفرضية، في عام ٢٠١١، مجموعة بحثية تعاونية تسمى بـ PHILéAS(الفلسفة، الأدب، المدرسة، احتياجات التربية الخاصة) في جامعة نانت وحدة الأبحاث في التعليم (CREN). تشكَّلت المجموعة من ثلاثة محاضرين باحثين، وخمسة معلمين في المرحلة الابتدائية متخصصين في احتياجات التربية الخاصة. وعلى مدى أربع سنوات عملت هذه المجموعة على مشاريع متعددة التخصصات في الصف، وعلى ربط ورش عمل الفلسفة مع المواد الدراسية الأخرى. وطوال فترة العام الدراسي نفذت مجموعة البحث المشاريع على خمسة صفوف على التوالي، وهي مشاريع: “العلوم والفلسفة”، و”الفن والفلسفة”، و”التاريخ والفلسفة”. وعملت مجموعة البحث بنفسها على التحضير للجلسات وتنفيذها وتحليلها. وتمكّنا من استخدام مواقف من الحياة الواقعية لاختبار الفرضية القائلة بأن النهج الفلسفي للمعرفة يمكن أن يعطي معنى أكبر للأنشطة المدرسية. ومن خلال التساؤل عن معنى المعرفة، تمكّن الطلاب من استعادة “التعطش إلى المعرفة” أو بعبارة أخرى، كشف المخاوف والأسئلة التي تكمن في مصدر المعرفة البشرية. وأصبحوا قادرين على فهم التحديات المعرفية لما تعلموه وبالتالي تحسين علاقتهم بالمعرفة للأفضل في بعض الحالات. وأكد الباحث ب. شارلوت B. Charlot أن المعرفة لا يمكن أن تكون مناسبة حقًا إلا إذا كانت علاقتها مع العالم الذي يعيش فيه المتعلم في منظورها الصحيح (١٩٩٧). لذلك يجب أن يشمل تعليم المعرفة العالم المحيط، وعلاقتنا مع أنفسنا ومع الآخرين.

في هذه الورقة نركّز على التحديات الفلسفية والسياسية لمثل هذا النهج. أولاً من خلال تقديم نموذج لـ “مدرسة التفكير” التي تسعى جاهدة لاستعادة التعطش إلى المعرفة، سوف نقدم “تفكيرًا فلسفيًا” لأهمية ورش العمل الفلسفية كوسيلة للتغلب على عدم المساواة، ثم سنخلص بعد ذلك إلى وصف الاستنتاجات الرئيسية في هذا البحث التعاوني قبل استخلاص النتائج للدفاع عن رؤية معينة للمدرسة.

بين الدوغمائية والنسبية – تؤسس الفلسفة لعلاقة معقدة مع المعرفة.

تؤكد نوسباوم في مقالتها “ليس من أجل الربح Not for Profit” أن الخطاب الرأسمالي قد أثّر في التعليم وأدى إلى تطوير “التعليم من أجل الربح education for profit” (٢٠١١، ٢٣) الذي يهدف في المقام الأول إلى تزويد “الطلاب” بالمهارات التي يمكنهم استخدامها للنجاح في عالم غارق في عولمة التنافس الاقتصادي. وتقارن م. نوسباوم التعليم من أجل الربح بالتعليم من أجل الديمقراطية والمساواة: تتطلب الديمقراطية من مواطنيها أن يكونوا منفتحين ورحيمين وقادرين على التفكير لأنفسهم، وهي صفات لا يمكن تحقيقها إلا من خلال تطوير العقل الناقد والتعاطف. وهذا هو الدور الذي تؤديه الآداب والعلوم الإنسانية. أو بتعبير أكثر دقة، ممارسات معينة في العلوم الإنسانية تجمع بين الانتقال المعرفي الخاص بثقافة معينة مع ممارسات الفكر الجماعي وتنمية الحساسية العاطفية من خلال تنوع الخبرات وكثافتها. وتتناغم أفكار م. نوسباوم مع الإرادة لتطوير الممارسات الفلسفية التي تربط العقل والحساسية معًا؛ العقل الناقد والمشاعر. وتصرّح قائلة: “إن التطلع إلى تأسيس صفوف سقراطية في المرحلة الابتدائية والثانوية ليس يوتوبيا ولايتطلّب عبقرية. فهو بمقدرة أي مجتمع يحترم عقول الأطفال واحتياجاتهم الديمقراطية النمائية”. (٢٠١١، ص ١٠٠).

يتعين اليوم على مجتمعنا الحديث أن يحارب اتجاهين شرسين مناهضين للديمقراطية وهما: الدوغمائية، والفلسفة التشاؤمية أو الكلبية. ويجب على المجتمع الجمهوري والديمقراطي تمكين مواطنيه في المستقبل من تطوير الأدوات الفكرية لتجنّب الوقوع في فخ الأصولية أو الفردانية المندفعة التي تغذيها الليبرالية المتطرفة. ولمكافحة هذه الأخطار، يُستخدم النموذج التفسيري في القراءة الفلسفية للسرد أو الروايات، والذي يبدو من الممارسات الواعدة جدًا بالنسبة لنا. وتؤدي الأزمة الثقافية إلى نوعين من ردود الفعل المعاكسة: النسبية، والأصولية. وكلاهما من أمراض الحداثة المتأخرة. يبحث البعض في الاتجاه النسبي عن حل (خاص بهم) ويعتبرونه الحل الوحيد القابل للتطبيق، أما أصحاب ردة الفعل الأصولية فلا يوجد حل أفضل من الآخر بالنسبة لهم؛ لأن كل شيء ذاتي.

عندما لا يكون العالم نظاما متكاملاً أو مرحلة محددة في المسيرة نحو التقدم، يمكننا التشكيك به. إذن ألا يجب أن نُهيئ الطلاب لهذا السؤال؟ إن تفضيل التأويل وإعطاء مقابل للنصوص المكتوبة تحوِّل العالم إلى نص يمكن تفسيره، ولكن تساعد الفلسفة الطلاب على تقبّل حالة عدم اليقين المتأصلة المحيطة بالأسئلة الميتافيزيقية العظيمة للحياة، والتي لا توجد لها إجابة واحدة صحيحة ونهائية. فعندما تواجه أسئلة حول الحرية، أو السعادة، أو الحب، أو الأخلاق، يجب أن نكون مستعدين لنقول: “لا أعرف”، أو “ربما”، أو “هناك العديد من الاحتمالات”. فيتعلم الطلاب قبول عدم اليقين وتأسيس نقاط مرجعية، وذلك بفضل المؤلفين والأعمال التي قرؤوها على وجه الخصوص. إن عدم وجود “إجابة” واحدة موثوقة لا يعني أنه لا يمكننا الوصول إلى “الأفكار” أو المعتقدات التي يمكن أن تساعدنا في تشكيل تجربتنا في العالم والتصرف بطريقة أفضل. ومن خلال بناء علاقة مختلفة مع المعرفة والفلسفة يفتح انعدام اليقين الباب على مصراعيه أمام التفكير بمستوى أعلى. ويزداد الأمر جمالًا إذا اعتمد على الوسط الثقافي الذي يوقظ الأحاسيس كما في الأدب أو الأعمال الفنية. من خلال المشاركة بانتظام في مجتمعات التساؤل. يفهم الأطفال تدريجيًا أننا في الفلسفة يجب ألا نخاف من عدم المعرفة أو عدم اليقين. بل هو ضرورة للتساؤل؛ لذا تحول ورش عمل الفلسفة دون الانزلاق إلى النسبية وتقوم بتطوير نهج تفسيري للأسئلة الإنسانية الأساسية.

الفلسفة كوسيلة لاستعادة “التعطش إلى المعرفة”

تصل الممارسات المذكورة أعلاه إلى ما هو أبعد من تعليم الفلسفة وحدها، من خلال فتح سبل التفكر في المدرسة بشكل عام. نود الآن أن نظهر أن العلاقة بالمعرفة هي جزء من التفكير في المدرسة كمكان لتعلم التفكير الناقد. يمكن أن تساهم ورش عمل الفلسفة، عن طريق إثارة فضول الطلاب، في التعلم الهادف في المدرسة. كما أنها تسهم في تخفيف التوتر التربوي بين انتقال المعرفة الجديدة والحرية في اكتشاف المعرفة الخاصة.

ومن أجل اكتشاف “نكهة” المعرفة، وتصدُّر التساؤلات في بناء الخطاب العلمي ولجعل الفضول والتساؤل عادة يومية، يجب أن يشعر الطلاب بالأمان بما يكفي للدخول إلى المجهول والمجازفة بالتفكير. ومن أحد الاهتمامات الرئيسية لـ P4C “تعليم التفكير الفلسفي” أنه يعرّف الأطفال على عمق علاقتهم بالعالم: فلا يستند الإيمان دائمًا على المعرفة العلمية، ويمكن فهم المعرفة بطرق مختلفة حسب الموضوع المراد مناقشته. ومن خلال تمكين الطلاب والمعلمين من تبني “وضع” مختلف عن المعتاد في الصف الدراسي، يقدّم مجتمع التساؤل نموذجًا لمدرسة التفكير هذه.

المدرسة كـ “واحة تفكير”

تمكّننا ورش عمل الفلسفة مع الأطفال من التفكير بإسهاب في دور المدرسة

بالنسبة للمجتمع الديمقراطي. وأحد أشهر الأعمال التي قام بها م. ليبمان هو “التفكير في التعليم”. لذا فإن عملية التفكير في المدرسة هي بالضبط ما نحاول تعزيزه. ونعتقد أن الممارسات الفلسفية يمكن أن توفر إطارًا جيدًا، فمدرسة الفلسفة ليست مدرسة يدرس فيها الطلاب ساعة من الفلسفة أسبوعيًا وحسب، ولكنها، بوصف أكثر دقة، المدرسة التي تحلق “روح” الفلسفة فيها لإحياء كل جانب من جوانب الحياة الصفية، وتبث حياة جديدة في التعلم ككل. وفي هذا النوع من المدارس سيحتاج المعلمون إلى اتباع النهج المتفكر والمتسائل دائمًا، وبالتالي تعزيز “العادة التأملية” للتفكير الناقد عندما يتعلق الأمر بالمعرفة. وفي ورقة أخرى تربط بين فلسفات م. ليبمان وهـ. آرندت. تلخّص أ.م. شارب A. M. Sharp كل الأهداف السياسية لمجتمع التساؤل.

وفي هذا العصر المضطرب الذي يمر بالعديد من الأزمات، وفي ظل الإرهاب وظهور التطرف الديني الأصولي يقع على عاتق الفلسفة واجب تقديم مفاتيح العمل على تعزيز الديموقراطية والمبادئ العلمانية الموروثة من عصر التنوير. قد تساهم فلسفة التعليم وتعليمات الفلسفة في جعل مدرسة التفكير هذه حقيقة واقعة من خلال تمكيننا من إعادة التفكير في دور المدرسة ضمن الديمقراطية ومنحنا الأدوات لاتخاذ الإجراءات على التوالي.

بإمكاننا القول أن التفكير في ابتكار تعليمٍ يأخذ في الحسبان الفرد ككل ويعطي نفس الوزن للأخلاق والقيم والمعرفة والمهارات هو أحد أهم التحديات الأساسية لما بعد الحداثة. وبذلك لن تُفقد الصفات الأخرى مثل الخيال والعواطف وعلاقتنا بالآخرين. ومن هنا تأتي أهمية الجمع بين أنواع التفكير الناقد والإبداعي والرعائي بشكل مستمر. وساهم تمييز هـ. أرنت بين “الذكاء” و”الفكر” في زيادة الفهم بشكل خاص في هذا الصدد. فتفترض من خلال مفهومها المعروف عن “تفاهة الشر” أن العقل الخالص أو المعرفة الموسوعية لن تنقذنا من البربرية. والإيمان البارز والمفرط الذي كان لدى فلاسفة التنوير في التعليم بوصفه الحل لإنقاذ العالم من الحرب والتعصب قُضي عليه بفعل أهوال معسكر أوشفيتز Auschwitz.

وبالنسبة لأرندت فإن مفتاح تعلّم الحكم على الآخرين هو التعاطف، الذي يمكّننا من التصرف بإنصاف وجعل العالم مكانًا أفضل، ومن هنا تأتي أهمية فهم الآخرين ووجهة نظرهم وأن تكون متعاطفًا معهم. ويمكن تعلّم الحكم على أسس جيدة فقط داخل مجتمع التساؤل الذي يتيح الحوار والخواطر الجماعية. هذه المساحات المشتركة في بناء التفكير الناقد والإبداعي والرعائي سيؤدي بنا إلى عالم أفضل. وهذا النهج الطموح للتعلّم يتجاوز جميع التخصصات المدرسية ويتجسد في التطبيق العملي للممارسات الفلسفية مع الأطفال. وفي هذه المساحة من التفكير في القضايا الميتافيزيقية حيث أساس التمرن عليها هو التساؤل وقبول ضعف المرء وجهله يتعلّم الأطفال بصبر تكوين الأفكار، واقتراح الأمثلة المضادة، والتعرف على الافتراضات وعواقب الآراء أو الأفكار المسبقة، وتحديد التماسك وعدم الترابط في الخطابات، والانتباه لمنظومات القيم وبناء الجسور بين نظرتهم ونظرة الآخرين للعالم. وطبقا لما ذكرته م. شارب:

“في الواقع، يتم تشجيع كل مشارك على بناء الجسور بين وجهات النظر المختلفة، وفهم مشاعر أولئك الذين تأتي آراؤهم ووجهات نظرهم للعالم في سياقات مختلفة. والتعاطف مع الآخرين والاهتمام بهم، مع الحفاظ على صدق الذات واستخدام ملكات النقد لإصدار الأحكام… وهذا هو المفتاح لإصدار الأحكام بشكل أفضل.” (٢٠١٤،٢٥).

الفلسفة رحلة أكثر من كونها خطابًا مكتمل الأركان. وتحقيقًا لهذه الغاية فإن مجتمع التساؤل يصنع جوهر ما أسمته هـ. أرنت بـ “الواحات” (٢٠١٤،١٥٣). ومما يسهم في ذلك تجهيز الزمان والمكان بعيدًا عن ضجيج العالم، حيث يمكن للمشاركين الرجوع بتفكيرهم خطوة إلى الوراء ومشاركة بعضهم البعض التفكير في هذه المساحة الحوارية المفتوحة التي تعزّز فكرة تساوي جميع الآراء في القيمة، واحترام الاختلاف، ومحاولة إيجاد الأفكار بطريقة عقلانية قدر الإمكان من خلال الحجج. واستطرادًا لذلك يصر آي. جيسبير I. Jespers على الطبيعة السياسية لمجتمع التساؤل الفلسفي عن طريق رسم صورة موازية لـ”واحات” إتش آرندت:

“إنها ملاذات حيث يمكن للبشر أن يلجؤوا إليها بعيدًا عن ضجيج اضطراب العالم، ويلتقطوا أنفاسهم. يتصف مجتمع التساؤل بصفات أخرى بالإضافة إلى هذه الصفات. وعلى الرغم من أن الروايات ومشاركة القصص تعمل كمراجع مشتركة إلا أنها ليست سوى عنصر واحد طوال الرحلة التعليمية التي تتميز بالتساؤل والعمل المفاهيمي والبدء في الحياة الديمقراطية من خلال المناقشة – وهي عملية معقدة تتطلب القدرة على إصدار حكم بناءً على السياق والتحليل الناقد.” (ص ٢٠١٤،١٥٣).

يجب أن تكون المدرسة ككل “واحة” تفكير، وليست مجرد ورشة عمل أسبوعية للفلسفة. والروح الفلسفية تحتاج إلى تغذية الممارسة الصفية كل يوم. كما يجب أن ترافق الفلسفة التعليم لا أن تسود عليه. ويمكن أن تكون ممارسة الفلسفة منذ سن مبكرة تمهيدًا لتدريس الفلسفة، بل بمثابة نموذج للمدرسة ككل.  نحن نحافظ على هذا التراكم الموسوعي للتراث الثقافي الذي أصبح أداة للإنتاج والتكاثر الاجتماعي ، والمهارات غير الشخصية وغير الجوهرية، والأساليب والتقنيات والوسط القائم على النهج الفلسفي للمعرفة والثقافة. الذي يعد فعّالًا للغاية وذا مغزى ويساعد على تقليل التوتر الناتج عما بعد الحداثة.

ويرتبط هذا المشروع لتخيل مدرسة الفلسفة كحجر الزاوية لما بعد الحداثة أيضًا

بأعمال مدرسة فرانكفورت وأعمال أ. هونيث A. Honneth وهـ. روسا H. Rosa على وجه الخصوص. وتبنى المدرسة الفلسفية على نموذج مجتمع التساؤل الذي يلبي بنفس القدر الحاجة الملحة لتعزيز المعرفة الحقيقية ومحاربة الاغتراب والتسارع الديكتاتوري للزمن.

في الاغتراب والتسارع، على سبيل المثال، يدعم هـ. روسا النظرية القائلة بأن حداثتنا المتأخرة تتشكّل أساسًا من الضغط المستمر للإيقاع المتسارع، حيث يواجه الأفراد، بالغين وأطفالًا، فيه عالمًا لا يمكنهم العيش فيه ولا يمكنهم صنع العالم الخاص بهم. والشعور بالاضطرار إلى الإسراع باستمرار (“أسرِع” هي العبارة التي يسمعها الأطفال كثيرًا كل يوم) ودائمًا يطغى هذا الشعور مصحوبًا بقيم المنافسة الذاتية والأداء المتعلق بها والفردية غير المقيدة التي تولّد القلق، والشعور العام بالذنب، وفقدان المعنى، والشعور بصعوبة الحضور في اللحظة الحالية. أصبح الواقع مثقلًا بالمعلومات وتنتهكه في بعض الأحيان المشتتات لتركيزنا مثل (الإعلانات التي تدّعي أنك يجب أن تكون “نفسك” ولكنها أيضًا تضعك في إطار محدد). فأصبحنا لا نعرف أنفسنا ولا العالم من حولنا. وهذا التوتر من شأنه أن يُضعف المثل العليا للتنوير: الوعد بعالم مبني على حرية الفكر العقلاني والأخوة العالمية. إذًا من الضروري بناء العلاقة مع الزمن من جديد حتى يستطيع فيها كل فرد أن يستعيد عافيته ويتحكم في سرد قصته ويجمع الخيوط المختلفة في نسيج وجوده. وعلى الرغم من أن التحدي “وجودي” فنحن نؤكّد بالفعل على (الحاجة إلى المقاومة في مقابل “صعوبة أن تكون على طبيعتك”) لأنها أيضًا “سياسية”. كما بين هـ. روسا أنّ تسارع الزمن يؤدي إلى أزمة ديمقراطية وإنسانية (وهي نفسها التي استنكرتها م.نوسباوم) من خلال منح القوة في أفضل الأحوال لأولئك الذين يعرفون كيفية التواصل وفي أسوأها للشعبويين.

وهذا هو الوقت الذي يمكن للفلسفة أن تتخلّله لإيقاف الزمن والسماح بالتفكير، وتمكين الروابط بين المعرفة والأفكار وإجبارنا على مراجعة أفكارنا. وإذا كانت استعادة السيطرة على الزمن هي مصدر مهم للتمكين اليوم، إذًا يتحتم على الفلسفة في المدرسة هذا الدور الحاسم لتحقيق هذا الهدف السياسي.

 PHILéAS: البحث التعاوني كوسيلة لاختبار مفهوم مدرسة الفلسفة.

لاختبار فرضية مدرسة الفلسفة قمنا بتأسيس وإدارة فريق بحث تعاوني

منذ ٢٠١١ حتى ٢٠١٦. يتكون PHILéAS من ثلاثة محاضرين باحثين من CREN(وحدة الأبحاث في التعليم بجامعة نانت) وخمسة مدرسين للمرحلة الابتدائية متخصصين في الاحتياجات التربوية الخاصة. وبعد الفهم قررنا تنفيذ تجربتنا على الحالات الخاصة، فبدأنا بالعمل على الأطفال الذين لديهم إعاقة أو صعوبة كبيرة في الدراسة؛ أي الأطفال الذين ربما لم يسبق لهم أن تعرضوا لأي نوع من أنواع الممارسات الفلسفية.

وأحد الأهداف العلمية لـ PHILéAS هي تمكين الطلاب من الانخراط في التفكير على المستوى المادي للمعاني التي درسوها في: (العلوم، والرياضيات، والفنون، والتاريخ) وتسليط الضوء على كيف وفي أي ظروف يمكن أن تعمل لحظات التأمل الفلسفي على استعادة التعطش إلى المعرفة، وبالتالي مكافحة عدم المساواة في المدرسة. وقد نفذنا مشاريعًا لعدد من التخصصات في الصفوف الدراسية، وربطنا ورش عمل الفلسفة مع المواد الدراسية الأخرى خلال عام دراسي واحد، وعملنا على التوالي على الصفوف الخمسة، التي هي جزء من مجموعة البحث، في المشاريع التالية: “العلوم والفلسفة” و”الفن والفلسفة” و”التاريخ والفلسفة”. وقد قامت مجموعة البحث بتحضير جميع الجلسات وتنفيذها وتحليلها من خلال التشكيك في معنى الموضوعات (“لماذا نتعلم التاريخ؟”، “ما هي الحقيقة العلمية؟”، “ما هو الإبداع الفني؟”). هل يمكن للطلاب استعادة “التعطش إلى المعرفة”؟ أو بعبارة أخرى إعادة اكتشاف أوجه عدم اليقين والتساؤل الدائم في مصدر المعرفة البشرية؟

تم بناء PHILéAS على مبادئ البحث العملي التعاوني؛ فهي تضم مهنيين وباحثين، وأخلاقيات البحث تأتي في مقدمة العمل التعاوني فضلًا عن كونها قائمة على الحاجة للصرامة المنهجية.

وفي ضوء مبادئ هذا البحث الجماعي، قمنا بتنظيم عملنا على النحو التالي:

أعددنا برامج العمل بشكل جماعي، ونفذنا اجتماعات عمل جمعت أعضاء PHILéAS معًا في كل فصل دراسي لاتخاذ القرار بشأن الأهداف المفاهيمية، والخطوات المختلفة التي نحتاجها، وعدد الجلسات ومدتها، والاستراتيجية المستخدمة، وتنظيم المواد واختيار الوسائل التعليمية (مثل الإعداد لاختيار كتب الأطفال). ثم عدّلنا هذا البرنامج لكل صف حسب احتياجاته الخاصة. وصوّرنا جميع جلسات العمل ومن شارك في تطويرها ثم نسخناها. وقد ساعدتنا هذه الطريقة في جمع الكثير من المعلومات لتحليل هذا العمل البحثي التعاوني.

الجلسات التي تدار بشكل مشترك: ينفذ المعلمون البرنامج بين اجتماعات العمل البرنامج ويديرون ورش عمل الفلسفة بمفردهم أو بالاشتراك مع الباحثين، وقد صُوِّرت الجلسات الصفية، ونُسِخ بعضها. وحُفِظت جميع الأعمال المكتوبة التي أنتجها الطلاب، واستُخدِمت هذه الأعمال خلال اجتماعات “الشرح المشترك co-explanation”.

اجتماعات “الشرح المشترك co-explanation”: جمعت الباحثين والممارسين المعنيين بالهدف الرئيسي وهو تحديد آثار الممارسات الفلسفية المطبّقة في الصفوف على نظرة الطلاب إلى المعرفة. استندت هذه الاجتماعات إلى تحليل مجموعة البيانات التي تم جُمعت وقُدمت إلى مجموعة البحث للتحقق من صحتها. كانت هذه الاجتماعات مسجلة. كما نفذنا اجتماعات مع الطلاب تم تسجيلها قمنا بتسجيلها أيضًا، ونسخناها أحيانًا.

في هذه الورقة سوف نلخص بإيجاز الاستنتاجات الرئيسية لبحثنا (وفي ورقة أخرى سنقدم مزيدًا من المناقشة العميقة لهذا الجانب من البحث بالتحديد).

  • يمكن أن تغير القراءة الفلسفية للسرد أو الروايات في وسط ثقافي من موقف بعض الطلاب من المعرفة تمامًا. ويساهم استخدام الأدب في ورش عمل الفلسفة للطلاب في عملية التفكير والتعرف عليها من “مسافة آمنة” داعمًا عملية التعلم بشكل أفضل؛ فقد كان دور الأدب محوريًّا في اجتماعات “الشرح المشترك co-explanation”. ويبدو أن قراءة بعض الكتب أفضت إلى نوع من التنفيس العاطفي. أثناء اجتماعات التفسير المشترك، عملت المعلمتان كارولين Caroline وإيزابيل Isabelle على مشروع “الفن والفلسفة”، ولاحظتا المناقشات التالية مع الطلاب حول معايير تقييم “العمل الفني”، وبعد أن تمكنتا من التشكيك في فكرة ما إذا كان العمل الفني هو ما كان “جميلًا” أو “مرسومًا جيدًا” (أن تكون قادرًا على طرح الأسئلة وتفكيك ارتباط عمل فني بجماله وتقنيته) فكّر أكثر من نصف الطلاب في هذه التساؤلات في جلسات الفنون والحرف. وذهبوا في زيارات إرشادية لمتاحف بيكاسو وبومبيدو The Picasso and Pomidou museums في باريس ضمن مشروع “الفن والفلسفة”. حيث أن هذه الزيارات مكملة ومرتبطة مباشرة بورش عمل الفلسفة التي نُفِّذت في الفصل لإكسابهم فهمًا أكثر تفصيلًا لأسئلة الجماليات. وكأنها عملية تحرّر من الفكرة القائلة: لكي تكون “جيدًا في الفن”، يجب أن تكون “جيدًا في الرسم” (أي تحتاج إلى إتقان التقنية). شارك الطلاب طوعيًّا في أكثر الأنشطة مما يدل بوضوح على أنهم يتفقون على أن التعبير عن نفسك وعملية الإبداع نفسها لا تقل أهمية عن البراعة التقنية في احتراف الرسم.

في الحالة المذكورة أعلاه مكّن التأمل الفلسفي بعض الطلاب – بفضل هذا التأمل الفوقي المعرفي في المواد التي تُدَرّس – من اكتساب الثقة والمشاركة بشكل أكبر في الأنشطة المدرسية. شجّع تقييد الوقت المطلوب للجلسة أثناء المناقشات الفلسفية على التنظيم بين المعلم والطالب مما يسّر التعلّم وبناء مجتمع فلسفي يتبنى التساؤل جنبًا إلى جنب مع نهج مختلف للوقت والمعرفة.

وأسهم في ذلك النموذج القياسي وهو أن يطرح المعلم أسئلة مغلقة ويتوقع من الطلاب تقديم إجابة توافق اعتقاداتهم ليتم   لتفكيكها. وتشهد كارولين على العلاقة القوية بين الفلسفة وورش العمل، وفهم بعض القواعد الأخلاقية التي تتعلق بالعلاقة بين المعلم والطلاب، وتعديل نهجها اليومي لتنظيم صفها ونقل المعرفة. ووضّحت خلال مؤتمر في الكونجرس عام ٢٠١١ أن عقد ورش العمل الفلسفية غيّر طريقتها في التدريس بشكل جذري؛ فلم تعد قادرة على الفصل بين ورشة الفلسفة وأنشطتها الأخرى في الفصل. شعرت باللحظة تمامًا بعيدًا عن أي منغصات أخرى وهي، بصفتها معلمة، لم تتخيّل يومًا أن تمنح الطلاب الفرصة للتحدث وخلق مساحة للتفكير وتخصيص وقت للنقاش الديمقراطي بعد إسقاط الحدود بين المعلم والطالب. فقد انتهى بالنسبة لها عهد الأخلاقيات القديمة للعلاقة بين المعلم والطالب والمطالبات الفكرية بذلك بمجرد أن بدأت “ورشة الفلسفة”. وهذا يدل على أن ورش العمل الفلسفية تؤدي إلى ظهور نوع جديد من التدريس (من خلال تغيير نظرة المعلم تجاه الطلاب والمعرفة)، وأخلاقيات علاقة جديدة يمكن أن تغيّر ممارسات الصف تمامًا. ويمكن قول الشيء نفسه فيما يتعلق بالعلاقة بالمعرفة في جميع التخصصات المدرسية؛ لأن جميع الأنشطة يمكن أن تدور حول عمليات التفكير والمعنى. وختمت كارولين حديثها بـ “لا أستطيع أن أتخيل كيف سيكون صفي بدون هذه الممارسات الجديدة”. ورش العمل – خاصة عندما يكون هدفها هو التساؤل حول موضوع المادة التي يتم تدريسها – تتطلب أن يقوم المعلمون بإعادة صياغة موقفهم التربوي على الأغلب بشكل كامل. بالإضافة إلى كيفية رؤيتهم للعلاقة بالمعرفة وكيف يعرّفون وظيفتهم، وحتى المدرسة بشكل عام. هذا الانقلاب ليس بالأمر السهل. يشرح م. غانيون M. Gagnon لماذا لا يخلو عقد هذا النوع من ورش العمل من المخاطرة، ويتطلب شجاعة فكرية حقيقية تتولّى منصب المعلم: ” فجأة يضطر [المعلم] إلى التخلي عن منصبه كصاحب المعرفة ليعلن جهله ليراه الجميع، وعليه أن يتعلم كيفية التعامل مع ما هو غير متوقع ولا يمكن التنبؤ به مع تعزيز التعلم، وعليه أن يولي اهتمامًا خاصًّا لعمليات التفكير وأن يتعامل مع التعقيد من خلال بناء عملية التدريس بناء على القدرات الفكرية تحديدًا…” (٢٠١٥).

ولا يمكن للطلاب أن يغيروا موقفهم إلا إذا فعل المعلم ذلك. فالأمر يتجاوز مجرّد التأكد من أن جميع الطلاب يمكن تدريسهم الفلسفة؛ لأن القضية الحقيقية هي معنى التجربة المدرسية ككل. وهذا هو السبب في بناء الجسور بين أنواع المعرفة المختلفة وقبول تعقيد العالم وضعفنا فيما يتعلق بـ “ألغاز الحياة الكبرى”. بينما يُعدّ الاعتماد على الثقافة أيضًا (الأدب والسينما والأعمال الفنية) لتحسين فهمنا للعالم، والعودة إلى الوراء للتساؤل عن معنى ما نقوم به في المدرسة، وأخذ استراحة من خلال هذا التوقف الفلسفي للفكر لفهم كيف نتفاعل مع العالم؛ هذا كله من المتطلبات الأساسية لـ “مدرسة الفلسفة”.

والآن بعد كل ما قيل وفعل، لماذا الفلسفة؟

لماذا يجب أن تكون ممارسة الفلسفة مع الأطفال أفضل من أي فكرة أخرى في تقديم نموذج لمدرسة التفكير؟ لماذا الفلسفة بدلًا من الفن أو الأدب أو العلم الذي يُعلّم أيضًا التفكير المعقد والمسائل والانتباه والانفتاح على الآخرين والعطف؟

  • لأن الفلسفة واسعة وشاملة؛ فهي تشكك في جوهر كل الظواهر.

لا شيء جديد عليها. إنه “علم الوجود” (أرسطو) الذي لا يتفوق على جميع التخصصات فحسب (الفلسفة تتويجًا للمجد على مستوى البكالوريا) بل يبث الحياة فيها ويسكنها منذ البداية وما بعدها. وتتميز الفلسفة بأنها قادرة على أن تتخلّل جميع التخصصات المدرسية (نظرية المعرفة، وعلم الجمال، واللغويات، وما إلى ذلك)، للتساؤل عن جوهرها.

  • يمكن للفلسفة أن تضع الأسس التي يقوم عليها التعليم.

وذلك لأن الفلسفة أكثر من أي تخصص آخر تؤسّس بشكل جذري نهجًا مختلفًا للمعرفة. وهي ليست مطلقة أو عقائدية. وبذلك توفر أدوات للجدال ضد الدوغمائية وتمكّن الأطفال من تقبل ما نسميه “ضعف” بالاعتياد على قول “لا أعرف” وقبول ذلك أحيانًا. وكما قال المعلم بلانشوت M. Blanchot ذات مرة “مصيبة السؤال هي إجابته” (١٩٦٩، ص ١٥). ودعمًا لذلك أود أن أستشهد بـماثيو ليبمان وما يسميه “روح القابلية للخطأ”:

“إن روح القابلية للخطأ التي تسود في مجتمع التساؤل هي دعوة للجميع لاكتشاف إخفاقاتهم ثم إيجاد طريقة للتغلب عليها. هذا النوع من التقبّل يساعد على نزع فتيل العدوان الكامن المستوحى من الاستبداد والتعصب من خلال إيقاف العنف الذي غالبًا ما يثيره مثل هذا النوع من العدوان في مسيرته. وإن قرار مواجهة مشكلة ومعالجتها بطريقة معقولة هو عالم بعيد عن نظام التعليم الذي لا يتوقف عن الإصرار على نقل المعرفة المطلقة التي تعتبر موثوقة”. (١٩٩٥، ص ١٢٥).

  • لأن الفلسفة تقدم “نهجًا مختلفًا للوقت” من خلال ممارسة الفلسفة. فهي تخلق الظروف المناسبة لفهم أفضل لمعنى الأنشطة المدرسية من خلال تأسيس “واحات التفكير” التي دعت إليها إتش آرندت. وفي إشارة إلى إتش روسا المقتبس أعلاه لا يمكننا أن نقول إن ما أطلق عليه الإغريق ذات يوم “الراحة” (التفلسف لا غنى عنه) هو ما نسميه الآن “وقفة ضرورية للتفكر” أو “واحة تفكير” كرد فعل لعالم مزدحم، متسارع، متخم بالمعلومات، والمطالبات على حساب المكان والزمان.

لذلك تساهم ورش عمل الفلسفة بشكل كامل في تعديل أخلاقيات النظام المدرسي الجمهوري وتحرر المثل للتنوير. كما أنها توفر نموذجًا لتدريس التفكير المعقد والحاجة إلى الاهتمام. وهي كذلك وسيلة لإحياء فكرة الروح الجماعية في مرحلة ما بعد الحداثة ضد الأزمات والعنف، هكذا يقوم مجتمع التساؤل الفلسفي فيصبح نموذجًا لـ “مدرسة الفلسفة”. وهي مدرسة لا تفتح الباب فقط لاكتشاف الدهشة الموجودة في مصدر كل معرفة، بل تنتبه أيضًا إلى كل جانب من جوانب فردانية الإنسان (مزيج من العقل والأحاسيس) وتغذي المثل العليا للمساواة والأخوة في كل يوم.

المراجع

  1. Arendt, H. (1978). La vie de l’esprit. PUF.
  2. Chirouter E. (2019). De la philosophie à l’école à une école philosophique : Redonner de la saveur aux savoir pour lutter contre les inégalités scolaires. Éducation et Socialisation, 53 * En ligne : https://journals.openedition.org/edso/6842
  3. Charlot B. (1997). Du rapport au savoir. Éléments pour une théorie. Anthropos.
  4. Gagnon, M. (2015). Rapport aux savoirs et pratiques critique en communauté de recherche philosophique : quels enjeux pour les élèves et les enseignants, Éducation et Socialisation, 39
  5. In M-P Grosjean (Eds). La philosophie au cœur de l’éducation. Autour de Matthew
  6. Lipman. Vrin. Lipman, M. (1995). A l’école de la pensée. Bruxelles : De Boeck.
  7. Nussbaum, M. (2011). Les émotions démocratiques. Comment former le citoyen du XXIe siècle. Climats.

حمل مقالة من الفلسفة في المدرسة إلى مدرسة الفلسفة- ورش عمل فلسفية لاستعادة التعطش إلى المعرفة