في عمق الغابة

قصة لأنثوني براون

بقلم : داليا تونسي

تغيرت اتجاهات أدب الطفل كثيراً مع بدايات النصف الثاني من القرن العشرين فبعد اللإرث الفكتوري الذي صدرته بريطانيا عن طريق الاستعمار حول العالم، والذي كرس صورة وصائية عن الطفل جعلت منه متلقي صامت ومطيع للبالغ الذي عليه دوما أن يقولب النصائح التربوية، صار مسموحا أن نداهم النص الفلكلوري الذي ورثناه من التاريخ الأوروبي مثل قصة ليلى الحمراء بفكرة تكسر نمطيته وتزعزع الحس الغائي فيه لتجعله يتناسب مع طفل معاصر يعرف أكثر عن حقه في التساؤل والبحث عن المعنى كما الكبار.

طفل القرن العشرين أكثر تعقيداً من الطفل البسيط الذي عاش حياته كمتلق سلبي من المعلم والأهل والقاص أو الحكواتي، وطفل اليوم يفوقهم تعقيداً مع دخول جوجل وعالم الإنترنت لدرجة تجعلنا نتساءل أحيانا عن الحد الفاصل بشكل دقيق بين البالغ والصغير .

كان لابد لأدب الطفل أيضا أن يواكب هذه التغيرات في مفهوم الطفولة وأن يغير خطابه. كثير من التوجهات في أدب الطفولة الحديث صارت لا تفرق حقيقة في نصوصها بين التراكيب الأدبية البسيطة والمعقدة، صار أدب الطفل الحديث يهوى المغامرة ويكسر الحدود الفاصلة بصرامة والأسلوب القطبي في التعامل مع النص: إما نص للصغار أو للكبار. أنثوني براون أحد هؤلاء الكتاب المعاصرين وله مجموعة كبيرة من القصص المرسومة. تشتهر أعماله بالنصوص المركبة والصور السوريالية وتبتعد أميالا عن الطريقة المدرسانية في حل عقدة الحبكة.

أنثوني براون يحترم عقل الطفل ويسير معه في اتجاه المخيال المركب للغة. رغم كل ذلك وعندما تمسك كتاب لهذا المؤلف لا يمكنك سوى أن تتساءل هل للطفل أن يستوعب فكرة تقوم على الاستعارات والترميز ؟

(في عمق الغابة )

هي قصة كمثال لكتب لأنتوني براون تتحدث عن صبي اختفى والده فجأة في ظروف غامضة وتعاملت أمه بسلبية مع الحدث، في اليوم التالي طلبت الأم من الصبي أن يحمل معه سلة الكعك إلى بيت جدته في الغابة، هناك طريقان، طريق آمن طويل وطريق الغابة القصير والمليء بالمخاطر.

في حركة تمرد رفض الصبي  نصيحة والدته واختار طريق الغابة ليبدأ رحلة تشافي سوريالية من حالة الفقد التي يمر بها في هذه الغابة الموحشة

يتشافى وعي الصبي حين يعبر بين الأشجار عبوراً سيكولوجيا عبر مخاوفه الشخصية، تتجسد مخاوفه في كل شخصيات قصص الفلكلور الغربي للأطفال التي يقابلها في الطريق من جاك والفاصوليا إلى هانزل وجرتل وغيرها.

كيف تعامل الصبي مع الشخصيات المنثورة في غابة موحشة توصله إلى بيت جدته؟ منتهى الغموض السيكولوجي الذي لا تستطيع القبض عليه بفكرة تصمد للتأويل، لكن أليس هذا الغموض هو المكون الأبرز لنفسياتنا حين نمر بتجربة الفقد؟

يتناثر في الغابة حذاء سندريلا وقلعة رابونزل والدببة الثلاث بين ظلال الأشجار المرعبة. هذا التناثر “للأشياء” ذات القيمة الرمزية، والتي كانت في يوم ما ذات صوت واضح في سياقها المناسب داخل قصة شهيرة توارثتها الأجيال، هو في ذاته فكرة في غاية الطيش والتمرد، إنه يعطي شعوراً بالتبعثر والشرود الذي يشعر به الصبي يتبعثر عالمنا الذي نعرفه حين يغيب عنه من نحب أليس كذلك؟

كل مافي الغابة يتلون بدرجات الأسود، كذلك الظلال معقدة وداكنة عدا الصبي الذي يحافظ على واقعية لونه، ربما يرغب بروان كاتب النص، الذي هو الرسام أيضا، أن يجعلنا نصنع هذا الفرق بين الصبي وخياله. لكن شيئا آخر يتلون في القصة حين يجد الصبي رداء ليلى الحمراء، يرتدي الأحمر ويصطبغ بقوته، يتشجع ويمضي قدما نحو كوخ الجدة، إنها قوة الرمز الذي ستحول لرمز القوة،

الأمل الذي نتعلق به أو الرسالة التي نتعثر بها في الطريق لتعطينا انفعالا ضمنيا أن كل شيء سيكون على ما يرام.

رغم أن القصة بشكل عام تتقمص أجواء الفكرة الرئيسية لقصة ليلى الحمراء، إلى أن الذئب هذه المرة ليس سوى في خيال الصبي إنه أفكاره السوداء التي تتراكم في لا وعيه لآخر صفحة، فكرة فوق فكرة ورمز يعقد رمزاً آخر حتى تنتهي نهاية قاطعة وبسيطة تتمثل في ابتسامة الجدة وحضور الأب الذي ينهي كل الأحزان.

هل لابد حقا أن نعبر غابة مخاوفنا بشجاعة حتى نصل إلى كوخ الأمان؟

هذا التساؤل هو الجوهر المعنوي للنص، لن تجده مكتوبا كما لو أن النص كان ينتمي للحقبة السابقة في اتجاهات أدب الطفل،

لكنك ستشعر به بين طيات الأفكار المنثورة هنا وهناك ويبقى الجهد الأكبر على المتلقي

سواء كان طفلاً أو بالغاً أو كلاهما معا، لفك الرمز واستقبال رسالته أو تساؤله ذو الحس الفلسفي العميق.

 

حمل مقالة في عمق الغابة