حي بن يقظان والتفكير الناقد

بقلم/ أ.داليا تونسي

نحن نأمل أن تصنع المدرسة نماذج مبكرة من التجارب الحياتية من خلال تفعيل التفكير الناقد وأن تصبح النصوص المدرسية حية تسمح للعيش بها ومن خلالها لتكون أدوات تعلم تساعدنا على الحكم الأفضل على الأمور.

لكن معضلة التعليم الحديث تقع بين فكي سندان. فمن جهة، إذا أخضعنا أفكار الطلاب للرقابة المستمرة أو اعتمدنا على التلقين فستصاب آلة التفكير الكبرى لجيل كامل بكسل الإرادة الحرة للتفكير المستقل، وبدون التفكير المستقل، كيف سيكون للتجارب التي يخلقها المعلم في الصف أي معنى إذا لم يتمكن الطالب من مقاربتها مع عالم أفكاره الخاص؟ أو يتمكن من تقيمها ونسجها مع هويته الخاصة والمتفردة؟ 

ومن جهة أخرى، فإن المشكلة التي قد تواجهنا هنا هو أننا حين نركز على التفكير المستقل فقط، فنحن غالبا ما نعزز معه شيئا آخر يتعلق بالرغبة في الفرادة والتنافس عند الطلاب. إذا لم ننتبه لذلك، قد ينطوي ذلك على نزعة للفردانية واقصاء الآخر في البيئة الصفية وقد يخلق مشكلات انسجام وفاعلية اجتماعية لاحقاً.

إذن هل تسعى مناهج التفكير الناقد لتعزيز استقلال الفرد أم لابد من الأخذ في الاعتبار بنية المجتمع المحافظ وثقل الأعباء الثقافية على هذا الفرد؟ وكيف نوازن بين هذا وذاك لنجعل التعليم يخلق افرادا لديهم حس المسؤولية والدافع لخلق عالمهم الجديد الذي هو أرض الواقع لأحلامهم وطموحهم؟ 

لنتصور المعضلة دعونا نتخيل قصة الفيلسوف ابن طفيل (حي بن يقظان) الذي عاش في جزيرة، دعونا نتصور فرضاً أنه في جزيرته المنعزلة، قد توصل لمختبرات هائلة ونتائج بحثية قضى فيها عمره منفرداً دون أن يملي عليه أحد كيف يفكر، هل سيكون لديه قدرة على تصحيح الذات ومراجعة فعالية ما وصل إليه؟ وإذا جاء يوم وخرج ليواجه المجتمع لأول مره ويخبرنا عن مكتشفاته العلمية، هل سيقنعنا بها؟ بالطبع لا، لأن العنصر الأساسي من عناصر المنهج العلمي سيكون مفقوداً، لم يوجد غيره في الجزيرة للتحقق من النتائج التي توصل اليها ولتصحيح أحكامه المسبقة التي هي نتيجة طبيعية لمدخلات الحواس وطرق التعلم التي مارسها وحده. هذا التحقق هو مقاربة التفكير الموضوعي الذي نبحث عنه وهو مصدر الحياد الذي يضمن رجاحة الفكرة وفاعليتها ومقاومتها للدحض.

 هنا يأتي دور مجتمع المدرسة الذي يعزز التفكير الناقد والمستقل لكن من خلال منهج يسمح بمشاركة الآخرين في عمليه تمحيص الأفكار، ونقصد تحديدا القدرة في التفكير باستقلال، مع الآخرين. لأن التفكير المستقل، وياللمفارقة، يحتاج إلى الامكانات الفعالة للتفكير ضمن مجموعة. وهذا التكامل بين الفرد المستقل والمجموعة هو مدخل لما نسميه بمنهجية مجتمع التساؤل. 

مجتمع التساؤل الصفي هو فكرة لمنهجية تعليمية متكاملة يعرفه روجر ستكليف بأنه “مجموعة من الأشخاص الذين يفكّرون سوياً بهدف زيادة فهمهم وتقديرهم للعالم من حولهم ولبعضهم البعض وللعمل على توجيه نواياهم وأفعالهم نحو عالم أفضل”. 

وبناءً على هذا التعريف فهو يهدف الي خلق بيئة تعتمد على التفاعل التعاوني بين الطلاب كأصدقاء (والمعلم واحدٌ منهم) وبدلاً من تعزيز قيم الفردية والمنافسة، فإنه يعزز طرق التقييم التي تكون فيها الوحدة الأساسية هي البناء المفاهيمي ضمن مجموعة من خلال استقراء الجزء للسعي للوصول إلى الكل. 

إنها الفكرة الفيجوتسكيه التي تقول إن التعلم في صورته المثلى يكون داخل مجموعات اجتماعية مصغرة تتناقل الخبرات وتتداول الأفكار. ولأن مجتمع التساؤل يركز على تطوير مهارات التفكير العليا، لكن روحه مفعمة بحس المصلحة العامة، فإن هذا يعني أن الطالب سيقدر أفكار الآخرين بنفس الدرجة التي يقدر بها أفكاره الخاصة بغض النظر عن موقفه الشخصي تجاه موضوع ما مما يساهم في خلق نماذج جديدة للأفكار من ذات المجتمع المحلي تكون أكثر احتراما لحقيقة الواقع المعاش وأكثر التزاما بفكرة المستقبل المشترك داخل النسيج الاجتماعي العام من أجل عيش حياة أفضل بميزان معتدل.

حمل مقالة حي بن يقظان والتفكير الناقد