حلقات مشاركة القصص باعتبارها تساؤلًا نقديًا – الجزء الثاني

ناتالي فليتشر، بيتر شيا، آريل سايكس

Fletcher, N , Gregory, M, Shea, p & Sykes,A 2021, ‘the story circle as a practice of democratic’, critical inquiry Childhood & Philosophy, vol. 17

ترجمت المقالة بعد الحصول على الإذن الخطي من المؤلف أو الناشر

“جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن المؤلف وليست مسؤولية معهد بصيرة أو دار بصيرة للنشر أو أي جهات أخرى متصلة بها من الجهات والهيئات الثقافية التنظيمية أو المانحة وغيرها”

ترجمة: شيماء الزنبقي

تدقيق: أمل اسماعيل

مخيم الفلسفة واستخدام حلقات مشاركة القصص (بيتر شيا) 

Philosophy Camp and the use of Story Circles (Peter Shea)

في عام 2001 وبعد عدة سنوات من التجارب في ورشات عمل نهاية الأسبوع، أطلق ستة أشخاص منتسبون لجامعة مينيسوتا برنامج “حياة جديرة بالعيش” وهو برنامج سكني ومحوره هو حلقات مشاركة القصص، وهي فرصة لقصّ قصة من ماضي المرء استجابةً للمحفز وأيضًا للاستماع لقصص الآخرين من الطلاب وأعضاء هيئة التدريس والزوار. وهذا النشاط الصباحي المحوري جزءٌ من الروتين اليومي. يجتمع المعلمون لمدة ساعة بعد الإفطار لصياغة المحفز لحلقة مشاركة القصص بناءً على موضوع أو فكرة رئيسة تنبثق من تجربة المجتمع. يبدأ اجتماع المجموعة بالكامل بحلقة شكر وامتنان، وتحديد الأشخاص أو الأحداث التي ساعدت كلًّا منا على الوعي في الساعات الأربع والعشرين الماضية، ومن ثم حلقة الإعلان – معظمها لترتيب الأنشطة على الجدول لوقتٍ لاحق – ثم يقدم المعلمون محفز قصة اليوم ويشرحونه. فيما يلي “دقيقة أفلاطون”: محاضرة صغيرة مرتجلة تربط محفز القصة بالموضوعات في جمهورية أفلاطون – الكتاب الذي يوفر الهيكل الفلسفي للدورة. بعد فترة راحة قصيرة، نجتمع لمدة 90 دقيقة من رواية القصص والحوار. في بعض الأحيان تأخذ القصص الفترة بأكملها، وفي أحيانٍ أخرى يطلب القائد الردود والتعليقات على القصص – بطريقة أقل صرامة من الحوار.

يتحمل كل طالب مسؤوليات يومية مثل الحفاظ على نظافة المنشأة وإعداد الوجبات وغسل الأطباق. هناك بعض الفعاليات المتفرقة التي تمت جدولتها على مدار الأسبوع – بما في ذلك وقت استوديو الفنون والحرف – ممارسة التأمل في قطعة فنية أو قطعة أثريّة أخرى – باستخدام عملية دائرة مستمدة من الممارسة القراءة المقدسة lectio divina – رحلات ميدانية لمساعدتنا على مقابلة جيراننا وفهمهم، واجتماع خاص يوم السبت يتناول القضايا الناشئة داخل مجتمعنا.

وإذا ما مضينا إلى ما هو أبعد من هذا الجدول فإن وقت الناس منوطٌ بهم؛ إذ يمكن لأي شخص – سواء كان طالباً أو مدرباً – اقتراح نشاط جماعي، فيصنع الناس الأشياء في الاستوديو الفني، ويتنزهون في البراري، ويلعبون مع حيوانات المزارع، ويعلمون الدروس ويخبزون ويقرؤون الشعر معًا.

يمكن للناس الاعتماد على مجموعة ثابتة من الناس الذين كانوا معا في معسكر الفلسفة لمدة حوالي تسعة عشر يوما: خمسة عشر طالبًا، وخمسة مدربين، ومُدَرِبَيّن مبتدئين، ومدرب فخري، وثلاثة من موظفي المزارع. يوجد لدينا حوالي 24 شخصًا حول مائدة الوجبات. كما نرحب بزميلين زائرين كل أسبوع من المعلمين والمستشارين والمهتمين من خارج الأكاديمية الذين يأتون لمراقبة عمليتنا.

نشعر أن العناصر التي اجتمعت في هذه الدورة تتناسب مع بعضها بعضًا بسُبلٍ تعليمية معقولة، وجدنا سُبلًا لربط جميع العناصر معًا لتصبح أجزاءً من هيكلٍ مرنٍ وصامد ضروري لمجتمع التعليم الفعال. ترتبط حلقات مشاركة القصص ارتباطًا غير وثيق ببقية الدورة – أي بلا نظرية تكامل صريحة. تحث بعض قصصنا على ترسيخ المفاهيم التي تحدد مقومات الحياة الجيدة مثل: الصداقة والمنزل والعدالة. ويمارس آخرون أساليب التفكير التي وجدنا أنها ذات قيمة: البحث عن “بط/أرنب” بعيد المنال في حياتنا أو تجاربنا في الأشياء غير التعليمية. وهناك آخرون يستنبطون قصصًا تتناسب لربط أواصر المجتمع: قصة حول الوقت الذي تحليت فيه بالأمل أو قصة عما أصبح عليه الطموح الفتي. نحن لا ننشئ منهجًا شاملًا حول القصص. عوضًا عن ذلك، تعمد حلقات مشاركة القصص إلى إثراء العلاقات التي تحدث على مدار ثلاثة أسابيع. يسودنا شعور أن كل الأنشطة من القصص والطبخ الجماعي والرحلات الميدانية مفيدة لمختلف الناس وعلى أصعدة مختلفة. نضعهم في مكان ما ونراقب ما يحدث ومن المرجّح أن نرى نسبة ضئيلة من ذلك. لقد حاولنا – بقوة ملاحظتنا وتبادل الانطباعات بين طاقم المعلمين – إبقاء المكان آمنًا ومفعمًا بالتطورات الإيجابية والتأملية عمومًا، وإذا ذهبنا إلى ما هو أبعد من ذلك، فإننا نتخلى عن وهم السيطرة.

كيف ترتبط حلقات مشاركة القصص بالتساؤل النقدي؟ الجواب الأول هو أن حلقات مشاركة القصص هي عنصر مركزي في المجتمع البديل، وقد صُمِّمَّت لتتحدى المفاهيم المهيمنة للحياة الناجحة. بدأنا بمجموعات عشوائية من الناس الذين يتعرفون على بعضهم بعضًا فورًا حالما يلتقون وجهًا لوجه في بيئة مستقرة خالية من المشتتات. ولقد وضعنا معًا عينة من المجتمع بضوابط جديدة لنرى كيف تسير الأمور. إن أعجبنا هذا الأسلوب من العيش فمن الطبيعي أن نسأل عن مدى التكامل الذي نريده في حياتنا العادية أو الحياة المستقبلية التي نبنيها لأنفسنا. إذا وجدنا أننا نفضّل جزءًا محدّدا من هذه الحياة “الأكل برفقة آخرين، وسرد القصص، وتشارك المهمات الاجتماعية” فكم من ذلك يمكننا جلبه إلى حياتنا الحقيقية؟ من الصعب تخيل أن المرء يستجوب عن مفاهيمه للعيش الطيب في مكان يسمح له بالتعبير عن نفسه عوضًا عن تجربة سُبل عيش بديلة.

كما أن هذه القصص تعتبر تساؤلًا نقديًا بطريقة أكثر تحديدًا؛ فهم يشككون في الخيارات الفردية وطريقة التجاوب والتصرّف، ويعززون من هذه التصرفات التي يعتبرها “إينيس” Richard Ennis أساسية للتفكير الناقد الذي يتألف من إلقاء نظرة ثانية على دوافعنا وانطباعاتنا الأولى – تصرفات تُرى من خلالها الصورة كاملة، أو التيقظ، أو التفكير في البدائل. ومع تطور الحلقات، نتصور جميعًا نهجًا بديلًا لأنفسنا، وطرقًا بديلة لفهم ما نقوم به. ودون أن نعبر بالضرورة عن الاختلافات في المفاهيم، نلاحظ كيف يمكن لقصة أن تؤثر على أخرى، وكيف يمكن لنهج ما أن يتجنب المشاكل التي يواجهها نهجٌ آخر.

فيما يلي وصفُ أحد طلاب معسكر الفلسفة في المرحلة الجامعية لتجربته في حلقات مشاركة القصص:

حلقات مشاركة القصص التي يتناوب فيها الجميع الأدوار دون مقاطعات أبدًا، أتعلمون! وجدت هذا الأمر بالتحديد قيِّمًا، وهو ما أود أن أحاول تقديمه في الحياة التي أعيشها عندما أعود، فقط أعر الكثير من الانتباه لما يقوله الناس، لأنني لم أفعل ذلك طوال حياتي، ولكن عندما تعتاد على القيام بهذه الحلقات، وتنصت إلى ما يقوله الناس عن الأمل أو تغيير وجهات النظر أو أشياء أخرى، أتوقع أن ذلك سيؤثر حقًا على الطريقة التي تعيش بها حياتك؛ ثم تدرك أنه… يمكنك أن تعيش حياة أكثر قوة بالأخذ بعين الاعتبار – بكل ما أوتيت من قوة – بما يجب أن يقوله الآخرون وكيف يشعرون، والعمل معهم يمكن أن يجعل حياتك أكثر قيمة بكثير. (والاس 2004:12).

وأخيرًا، فإن الدورة نفسها قيد التطوير المستمر، وهي جزء من تساؤل مستمر. لسنا متأكدين من التحولات بالنسبة للأشخاص عندما يسمعون قصص بعضهم بعضًا. من الواضح أن القصص تجعل تكوين المجتمع أسهل – وهو ما يحدث أيضًا عندما يختار الناس القصة التي يريدون سردها، فيغيرون رأيهم عندما يسمعون قصصًا أخرى حول الحلقة، بعد ذلك يتذكرون القصص، ويتفاعلون مع أشخاص آخرين يتذكرون ما سمعوه – هكذا يمضي الأمر فيتحقق، بينما نحاول أن نفهم طريقة عمل “آلة” تعليمية كانت مرضية ومنتجة لدرجة تتجاوز توقعاتنا.

توسيع حلقة مشاركة القصص لتشمل مرحلة الطفولة 

(ناتالي م. فليتشر Natalie M. Fletcher)

يعتقد مايلز هورتون Myles Horton بوجوب تعلم الثقة من تجاربنا باعتبارها مصادر مهمة للمعرفة. ومع ذلك – في تقديره – غالبًا ما يفتقر البالغون إلى المهارات التحليلية اللازمة للتعامل بنظرة ناقدة مع تاريخهم الفردي والجَماعي؛ والأطفال يفتقرون إلى الخبرة الحياتية اللازمة لسرد القصص المتعلقة بالقضايا الكبرى:

على عكس الأطفال في النظام المدرسي العادي فليس لهم ماض يُروى تقريبًا – إذ أخبرتهم المدارس بأن حاضرهم لا يستحق شيئًا البتّة – و… يدرسون عن المستقبل. أما بالنسبة للبالغين،… فالخروج من الماضي بخبراتهم – التي ربما لم يتعلموا منها الكثير لأنهم لم يتعلموا كيفية تحليلها ولكنها موجودة – يجعل دورنا يتلخص في مساعدتهم على فهم قدرتهم على تحليل تجاربهم والبناء عليها وربما تحويلها. ثم التمتع بالطاقة التي يشعرون معها بالراحة ” (هورتون ومويرس، 1982:250-1).

ولكن حقيقة أن قصص الأطفال قد تكون أقل كمًّا لا يعني أن قصصهم أقل قيمة. إن فلسفة الأطفال تتحدى فكرة قصور الطفولة هذه عن طريق البرهنة على الثراء الفلسفي لخبرات الأطفال وبراعتهم في التفكير الفلسفي (ماتيوس، 2009). ومن المهم سياسيا وتنمويًّا مساعدة الأطفال على التفكير في تجاربهم الحياتية الخاصة بهم، لأن ذلك يمكن أن يساعدهم على رؤية أنفسهم عناصر ناشئة لديها وجهات نظر مهمة تستحق المشاركة.

في أعقاب تعريفي بحلقات مشاركة القصص في الدورات الدراسية التي عقدتها في معهد النهوض بالفلسفة للأطفال في ميندهام بولاية نيوجيرسي، بدأت في دمج حلقات مشاركة القصص في الفلسفة للأطفال الخاصة بي، حيث تمارس باعتبارها وسيلةً أخرى لتقديم أنماط غنية من الوجود للأطفال بغية خلق المعنى. حَضَرت فيما بعد معسكر الفلسفة في مينيسوتا حيث كانت ممارستي على هيئة ورش عمل تديرها شركة بريلا للشباب Brila Youth Projects– وهي مؤسسة تعليمية كندية وجدتها متعهدة بإلهام الشباب عن طريق الحوار الفلسفي، والمشاريع الإبداعية وإنتاج المجلات الرقمية.

وقد تبنت المؤسسة الخيرية نموذج حلقات مشاركة القصص للأطفال من سن الخامسة فما فوق، واستخدمته حافزًا لحوارات مجتمع التساؤل الفلسفي. وفي جلسة نموذجية، يقدم المعلمون مهمة ذات طابع فلسفي محددة مسبقًا لتحفيز مختلف الروايات الشخصية فيما يتعلق بمفهوم معين مثل الاحترام أو المجتمع أو السلطة أو العدالة. ثم يأتي دور الأطفال للمشاركة بقصة ذات صلة بحياتهم دون أي مقاطعة أو تبادل للأحاديث للمدة التي يرونها مناسبة، بينما ينصتُ الآخرون باهتمام ويدوّنّون ملاحظات ذهنية حول الموضوعات الشائعة للناشئة، ثم يتشاركون جمع أفكارهم ومنظوراتهم حول المفهوم أثناء استخلاص المعلومات، وإيجاد روابط بين الروايات المشتركة وغالبية الأصوات، وبالتالي التعلم مجددًا من ماضٍ أعيدت صياغته.

على سبيل المثال، أثناء سلسلة من ورش عيد القديسين، طلب معلمو بريلا من فلاسفتهم الشباب أن يعودوا بذاكرتهم إلى الوقت الذي تعرضوا أثناءه لإحساس الخوف. وبمجرد مشاركة الجميع، جرى تقسيم الأطفال إلى ثنائيات لتنفيذ العصف الذهني حول الأنماط والتباينات التي وجدوها في القصص، وتدوينها على لوح أبيض كبير وُضع في منتصف الحلقة. بعد بضع دقائق فقط، بنت المجموعة بداية نظرية الخوف استنادًا إلى القصص التي شاركوها، كاملة بالمعايير والفئات والعواقب. وكان الخوف مرتبطاً بالشعور بعدم القدرة على الكلام والعجز، والوعي الذاتي بسبب الافتقار إلى المعرفة والقلق بشأن المهارات غير الكافية واحتمالات الفشل. كانت قصصهم كافية ليدركوا مدى تعقيد مفهوم الخوف، وشرعوا في مناقشة تأثيراته على الكيفية التي ينظرون بها إلى بعضهم بعضا، إذ ألهمت الحوار الفلسفي الذي أعقب ذلك. ولقد قفز سؤال إلى أذهانهم: هل نستطيع أن نفهم خوف شخص آخر؟

استلهمت المواقف الفلسفية التي استُحدثت في الحوار الذي أعقب ذلك من الأساليب التي يعمل بها الخوف في القصص التي شاركوها، من الخوف من المجهول الذي عاشه طفل لاجئ إلى الخوف من التغيير الذي وصفه طفل تطلق أبواه.

وفي حين أن أفكارهم حول الخوف قبل حلقات مشاركة القصص ركزت على مشاعر الرعب، فإن تعاريفها بعد ذلك كانت أكثر ارتباطا بعدم اليقين واليأس، بالنظر إلى مضمون روايتهم:

“الخوف حين تشعر بالقلق من أنك لا تعرف ما يحدث.. رغم أن الأمر يعتمد عليك ليحدث”.

“في بعض الأحيان تخاف لأنك لست آمنًا. كل ما في الأمر أنك لا تعرف كيف تتعامل مع خوفك لذلك يتغلب عليك“.

“تشعر بالخوف لأنك لم تشهد قط ما لا تعرفه، والخوف هو طريقة رد فعلك على المجهول عندما لا يكون من المسلي التفكير فيه“.

“لذا فإن الأمر لا يخلو من أمرين أقوى من الخوف: الأمل واليأس. إنها معادلة: فإذا انتشلت الأمل وزرعت الخوف فستحصد اليأس”.

في مشروع مبتكر في أعقاب حوارهم الفلسفي، صمم الأطفال مربعات مخاوف متعددة الحواس لتعكس النتيجة التي توصلوا إليها، وهي أننا لا نستطيع أن نفهم حقًا خوف الآخر إلا بالتقارب معه، أو التجارب المماثلة، أو حقيقة كونه إنسانًا.

وقد يبدو هذا السرد، في ظاهره، وكأنه توصية غريبة كدعم للتساؤل النقدي في ممارسات الفلسفة للأطفال، حيث إنه يتألف في المقام الأول من مونولوج وهو ما وصفه جون ديوي بأنه “فكر منقوص”، ولكن في محاولة لجعل قصصهم قابلة للنقاش مع الآخرين، ينخرط الأطفال مع بعضهم بعضًا في مراجعة كبيرة غير ذاتية قبل أن يشرعوا حتى في الرد على بعضهم بعضًا شفهياً. وإذا كانوا بمفردهم فربما يجازفون بتضليل أنفسهم وإيمانهم بأن نسخة الأحداث التي خلقوها هي نسخة حقيقية أو صحيحة أو واحدة فقط، فيما يحاصرون أنفسهم بالتفكير النسبي أو النرجسي (“قصتي، حقيقتي”) و”التساؤل عن الاعتقاد الأكثر انسجاما مع نظامهم”، كما حذر تشارلز ساندرز بيرس Charles Sanders Peirce (1997: 44). ومع هذا العدد الكبير من الروايات المتميزة للتلاعب بنموذج حلقة مشاركة القصص، فإن المفهوم المعنيّ يصبح مضطربًا بالنسبة للأطفال، الأمر الذي يغذي فضولهم حول “مدى نقاء الحياة بالقيم والمعاني” (جيمس، 1916: 265). إن الفرصة التي تتاح لهم للذكرى وإعادة تفسيرها في ضوء ظروفهم الحالية تُمكّن الأطفال من التفكير في القصة، مما يثير التفكير في معتقداتهم الناشئة والتفاعل بين مختلف وجهات النظر العالمية. ونتيجة لذلك، قد يطورون عادات مفيدة في الإصغاء التعاطفي وخلق معنى تأويلي ذي توجّه مجتمعي. ومن الممكن أيضاً أن نعتبر حلقة مشاركة القصة بمثابة نهج تأملي في التساؤل النقدي، لأنها تدعو إلى التأمل الوجودي والعمل الذاتي، وتشجع حالات الإدراك مثل الوعي، والانفتاح، وعدم التشتت والامتنان، ويتيح رؤى عميقة لإحساس المرء بالهدف والشخصية. وتساهم هذه الرؤى في مفهوم علائقي للذات على نفس القدر من التعقيد والتضارب الاجتماعي في كثير من الأحيان (بالمر، 1998). إن أنواع الحساسيات التي تهذبها حلقات مشاركة القصص على وجه العموم تتلاءم تلاؤما جيدًا مع المواقف والتصرفات التي ربطها إينيس بالتفكير النقدي لتشكيل مجتمع يقدّر الشفافية ويدير وجهات النظر المتنافسة من دون المساس بالتزامه بالأحكام المنطقية.

إن الفوائد المحتملة المترتبة على إدراج حلقات مشاركة القصص في الفلسفة للأطفال مقنعة إلى حد كبير، ومن الجدير بنا أن نذكر ثلاثة منها بإيجاز. فأولًا – من حيث التقارب بين المجموعات – تعمل عملية تقاسم الروايات على خلق علاقة حميمية خاصة للغاية بين الأطفال في مجتمع التساؤل الفلسفي الناشئ. تساعد حلقات مشاركة القصص في رعاية المجتمع حيث يمكن إجراء التساؤل الفلسفي بطريقة أفضل، ولأن الأطفال يشعرون بالارتباط بشكل أكبر، يبدو أنهم يولون القيام بالفلسفة التي تمثل تحديًا، اهتماما أكبر. ثانيًا، تعمل حلقة مشاركة القصة على تعزيز أداة الإدراك: فالأطفال يشهدون في الوقت ذاته كيف تساهم قصصهم في الاستيعاب المفاهيمي للمسائل المعقدة دون حاجة للرجوع إلى “الخبراء”، ويحددون ما يقدرونه فيما يتعلق بما عاشه الآخرون- نجاحاتهم وانتكاساتهم – بزوايا جديدة قد تكون أُغفلت من دون القصص كحافز لها.  إن عملية استخلاص الحكمة من القصص الشخصية المهملة غالبًا ما تعطي معنى آخر لمفهوم مفكر ناقد “مُلِّم”، وأن تكون حساسة لخصائص التجارب الملموسة مع مراعاة الصورة الأكبر – لا سيما النظرية التي تتكشف منها. ثالثًا، تساعد القصص المشتركة في تحويل التساؤل المفاهيمي للأطفال إلى حقيقة ملموسة ليتسنى لهم أن يروا أهمية الفلسفة في العالم الحقيقي.  وتعمل هذه القصص على توسيع تصنيفاتها من الاعتبارات الأخلاقية والسياسية والمعرفية والظواهرية ذات الصلة، وتوعيتهم بالأسباب التي دعت الأخرين للتفكير والتصرف بطرق معينة.  حتى لو شارك طفل قصة يرى آخرون أنها مثيرة للمشاكل – على سبيل المثال – لأنها تقدم معتقدات متحيزة، فإن التجارب العملية المرتبطة بالقصة تزود الأطفال باعتبارات سياقية مهمة. كما يُكلَّف معلمو مجتمع التساؤل الفلسفي بدعم الأطفال في تطوير مهارات التفكير لديهم حتى يتسنى لهم أن يصبحوا من فلاسفة التساؤل، لذا يتعين عليهم أيضاً أن يساعدوا الأطفال على صقل قدراتهم كقصاصين عن طريق تنظيم دقيق لذلك النوع من “الحيز الديمقراطي” الآمن الذي وصفه والاس أعلاه. وهناك نهج آخر يتمثل في ترتيب واضح للعناصر المختلفة للرواية الجيدة – بما في ذلك الاهتمام بالتفاصيل – والوصف الغني بالتشبيهات، والاهتمام بالأصالة والأداء الحقيقي، وشدة المرح بين الفكاهة والتشويق.  إن أداة المساعدة اللمسية والبصرية البسيطة التي تساعد على سرد القصص التي صمّمتها بريلا هي عبارة عن حجر نرد يتضمن تلميحات واقتراحات بدلًا من الأرقام: ماذا؟ من؟ أين؟ متى؟ لماذا؟ كيف؟ – لتشجيع الأطفال الذين تبدأ حكايتهم كحدثٍ ليثروا رواياتهم بتفاصيل أكثر بروزًا وإذهالًا وتوضيحًا. فالأطفال – كقصاصين يحصلون على فرصةٍ لنسج عناصر من حياتهم في سرد متماسك لكي يتعلم الآخرون منه ويقدروه – يتعلمون في الوقت نفسه أن يشرحوا هذه الأشياء من أجل الأحجار الفلسفية التي يمكن أن تدعم تساؤلهم النقدي اللاحق حول المفاهيم الأساسية.

تأملات من الميدان 

(آرييل سايكس Ariel Sykes) 

بدأتُ في دمج حلقات مشاركة القصص في ممارستي الفلسفية في السياقات التعليمية التقليدية وغير التقليدية بعد البحث عن طريقة للدخول في حوار فلسفي يتضمن أصوات طلابي وتجاربهم.  لقد وجدت أن الروايات الفلسفية، والكتب المصورة، والروايات الشعبية والقصص القصيرة – التي استخدمتها لتحفيز الحوار – أثارت اهتمام طلابي بالقدر الكافي للدخول في حوار فلسفي حيوي، ولكني لم أستطع رؤية أي دليل على أثر مجتمع التساؤل الفلسفي على حياتهم خارج الحوار.  يبدو أن هناك فجوة بين فهمهم داخل مجتمع التساؤل الفلسفي وخارجه. إن قوة الأمثلة في مجتمع التساؤل النقدي شجعتني على النظر في الدور الذي تلعبه هذه الأمثلة كحافز للتساؤل ذاته. بعد تعريفي لحلقات مشاركة القصص في ندوات معهد النهوض بالفلسفة للأطفال في ميندهام بولاية نيوجرسي برفقة موغن Maughn وناتالي Natalie، بدأت في ربط دوائر القصة مع مجتمع التساؤل الفلسفي ووجدت أنها تشكل جسرًا للتمكين: حيث يتعلم الطلاب ملاحظة التعقيدات الفلسفية المشتركة في حياتهم والعمل على تحقيق هذه الأمور بأساليب فعّالة.  والآن، ألاحظ التغيرات في سلوك الطلاب بتكرار داخل غرفة الصف وخارجها بصورة مشجعة.

في حين أن هناك جدلا سيُقام يرى أن ممارسة سرد القصص هي فعلٌ فلسفي بحد ذاته (شيا، 2008) – وأنا عموماً استخدم حلقات مشاركة القصص كمقدمة لمجتمع التساؤل الفلسفي، على غرار الطريقة التي وصفتها ناتالي أعلاه، إلا أن هاتين الصيغتين من أساليب الحوار تكملان بعضهما بعضا من نواحٍ مهمة: تنميان وعي المرء بذاته وبالآخرين – بما في ذلك سلوك التصحيح الذاتي – وترفعان من مستوى المشاركة في الحوار والتدابير المستقبلية، وتوفران حيزًا لبناء مجتمع متناغم.  وسأتطرق بإيجاز إلى كل أسلوب من هذه الأساليب.

توعية الذات والغير 

إن هيكل حلقة مشاركة القصة يتطلب منا جميعًا أن نفكر في موضوع مشترك، مما يزيد من وعينا بأننا لسنا مقيدين بتجاربنا في العالم. ولقد ردّ مؤخراً أحد طلابي في هذا السياق: “في حين كانت قصص الجميع مختلفة تمام الاختلاف، فقد كان من الواضح بالنسبة لي كيف نشترك جميعاً في هذه التجربة في الكفاح من أجل الحرية. وقد جعلني هذا أدرك أن الحرية قد تتضمن عدة معانٍ ولكنها في الوقت ذاته تحمل معناها المتعارف عليه”. تمنحنا حلقات مشاركة القصص ميزة مشاهدة أبعاد مختلفة من حيواتنا: حياتنا الاجتماعية والعاطفية والثقافية والسياسية والفكرية والروحية.

بالاستماع إلى الآخرين، نتعلم أشياء جديدة عن أنفسنا ونعيد اكتشاف ذواتنا أيضًا. من الشائع في حلقات مشاركة القصص أن يتذكر المشاركون التجارب التي ظلت ساكنة في أعماق ذاكرتهم. تذكّر مشاركٌ حديثٌ في حلقة مشاركة القصص فقال: “كانت هذه تجربة تنويرية وتثقيفية، وبينما كنت أستمع إلى قصص الأخرين بدأت أكتشف قصصا جديدة داخلي.  لقد أثار ما قلته شيئًا في نفسي وعندما جاء دوري وجدتني أخبرهم قصة لم أكن أخطط لسردها غير أنها كانت استجابة مباشرة لأمر سمعته في قصتك”.

طُوّرت توعية الذات والغير عن طريق حلقات مشاركة القصص التي تدعم مجتمع التساؤل الفلسفي. وأجد أن الطلاب يضمّنون منظورات أكثر تباينًا، ويعملون على حل الخلافات بمزيد من الدقة، ويتنقّلون عبر المشاركة تنقّلا أكثر إنصافًا داخل مجتمع التساؤل الفلسفي بعد المشاركة في حلقة مشاركة القصّة. قال أحد طلاب المدرسة الثانوية: “أشعر وكأنني الآن – بفضل سرد قصصنا – لم أعد هجوميًا أو رافضًا أثناء تساؤلاتنا. وبات يهمني حقاً معرفة خلفيات الجميع ومن أين جاؤوا”.

التفاعل والعمل

من المرجح أن نتفاعل أكثر عندما ندرك صوتنا ونشعر بأنه يُسمع داخل المجموعة. بينما يرسّخ الطلاب عادات جديدة في الربط بين بعضهم بعضا عن طريق حلقات مشاركة القصص، إذ يرون أنفسهم مشاركين فعّالين في مجتمعهم. وهذا الانتقال من العزلة إلى الترابط ومن المجهول إلى المعروف ومن الشعور بأنهم غير مرئيين إلى مدعومين ومُمَكّنين – حيث يُسمح للفرد بالاستثمار في تشكيل المجتمع. ويتخذ هذا الاستثمار شكل المشاركة في جميع المشاريع المشتركة – بما في ذلك المشاركة في مجتمع التساؤل الفلسفي. أجد أن المشاركة أكثر توزيعًا في مجتمع التساؤل الفلسفي بعد تقديم حلقات مشاركة القصص كنشاطٍ في فصلي الدراسي. يبدأ مجتمع الفصل الدراسي في إدراك ما تبنّاه هورتون: “لدى الناس الإمكانات والذكاء والشجاعة والقدرة على حل مشاكلهم الخاصة” (هورتون وآخرون، 1990: 87).

عندما تقترن حلقات مشاركة القصص صراحةً بمجتمع التساؤل الفلسفي، فإن أسهم الاستثمار في الإجابة على السؤال تزداد. لقد صرّح أحد طلاب الصف الخامس الابتدائي: “أحب استخدامنا قصصنا للتفكير في السؤال عوضاً عن الكتاب، وجعل تلك المناقشة مثيرة للاهتمام ومفيد بالنسبة لي”. يصبح الارتباط بين العمل الفكري للفلسفات والوقع العملي للحياة أوضح عندما ترتبط حلقات مشاركة القصص بمجتمع التساؤل الفلسفي. يميل الطلاب إلى معقولية المواقف باختبارها في سياقات مختلفة مع مراعاة كيفية عيشهم في العالم. وقد علقت إحدى طالبات الكلية على الكيفية التي ساعدتها بها حلقات مشاركة القصص في الانخراط في مجتمع التساؤل الفلسفي بطريقة مختلف: “في البداية كنت أعتقد أن التساؤلات كانت مناقشات مثيرة للاهتمام أجريناها في غرفة الصف، والآن بعد أن بدأنا في تطبيق حلقات مشاركة القصص قبل التساؤلات، صار باستطاعتي رؤية ما قدمته لي التساؤلات من مساعدة في حياتي كما أنه من الأسهل بالنسبة لي أن أربط الأفكار بأمثلة في حياتي الآن”. إن اقتران حلقات مشاركة القصص بمجتمع التساؤل الفلسفي يساعد على تعميق مستوى التأمل الذاتي وإعادة النظر؛ فالطالبة تتأمل في التساؤل من حيث قصتها الشخصية، ومن المرجح أن تصل إلى فهم جديد للقصة وبالتالي إلى نفسها.

إحدى المعلمات التي بدأت مؤخّرا في ممارسة حلقات مشاركة القصص مع طلبة المرحلة الثانوية أدلت بشهادتها قائلة: “خلقت هذه الحلقات مساحة حيث كلُ شخص يعلم بأنه سَيُسمع في ظلّ صمتٍ بنّاء، وتعلّم أن الناس لا ينصتون لك ليردوا عليك أو يجادلوك، وكان هذا من شأنه أن يغير من جودة الاستماع”. في مثل هذه المساحة، تتاح للمشاركين الفرصة لأن يكونوا معروفين لدى الآخرين بطرق قد لا تحدث بصورة طبيعية نظرًا لأساليبهم التقليدية في التواصل. وتكشف القصة التي سُرِدَت شيئا ما عن الفرد وتسهم في ترابط المجتمع لأن مشاركة التجارب الشخصية فعل ذا طابع إنساني. من واقع تجربتي، فإن مطالبة الطلاب بمشاركة قصصٍ من حياتهم يساعدهم على تفكيك الحواجز المفروضة عليهم وتجاوز الأدوار التي يرى الآخرون أنهم يلعبونها في غرفة الصف.  فضلاً عن ذلك، فالاستماع إلى قصص الآخرين يكشف الروابط بين بعضنا بعضًا؛ مثل الكفاح المشترك أو وجهات النظر المتشابهة عن الحياة. ويبدو أن حلقات مشاركة القصص ترسّخ أخلاقيات الرعاية داخل المجتمع الذي يدعم مجتمع التساؤل الفلسفي. أجد أن الطلاب يستمعون باهتمام أكبر ويفكرون في وجهات النظر المختلفة بمزيد من الجدية ويميلون إلى التلميحات غير اللفظية ويدعون إلى سماع المزيد من الأصوات ويلتزمون التزاما كليًّا بالمشروع المشترك للتوصل إلى الإجابة الأكثر معقولية معًا.

من تجربتي، تُشكّل القصة التي تبدأ الحلقة هيئة القصص التي تُروى أو نمطها وتجربة المستمعين والمتحدثين.  وينطبق هذا خاصةً على المجموعات الجديدة في حلقات مشاركة القصص؛ حيث إنهم ما يزالون يشعرون بإحساس التجربة.  إذا بدأ الشخص الذي استهل الحلقة بقصة صادقة ومؤثرة، فهذا يفتح المجال ويحفز الآخرين ليفعلوا الشيء نفسه. ولكن إذا كان الشخص البادئ قد تحدث بإيجاز وبلا عاطفة، فقد يؤثر ذلك على جودة قصص الآخرين. ولهذا السبب، أشارك قصتي أولاً مع مجموعة جديدة لممارسة حلقات مشاركة القصص ولنمذجة نوع القصص التي يُرحب بها داخل هذه المساحة (مع مَيلي إلى مشاركة قصة تظهرني بأني معصومة من الخطأ أو معرضة للخطأ بشكل ما).  وفي حالات أخرى، بمجرد أن أعرف المجموعة التي أعمل معها، أدعو أحدهم على وجه التحديد إلى بدء الحلقة، راجيةً أن يتمكن من تهيئة المجموعة لخوض التجربة كليا.

المراجع:

Wallace, J. (2004) Notes on Learning Circles. In “Learning Circles: A Train-the-Trainers Approach,” pp. 10-23, retrieved 13 June 2017 from http://bonnernetwork.pbworks.com/f/BonCurFacilLearnCircles.pdf

Horton, M. and Moyers, B. (1982) The Adventures of a Radical Hillbilly: An Interview with Myles Horton. Appalachian Journal 9(4): 248-285

Matthews, G.B. (2009).’Philosophy and Developmental Psychology: Outgrowing the Deficit Conception of Childhood,’ in Siegel, H (ed.), The Oxford Handbook of Philosophy of Education, pp. 163-176. Oxford University Press

Peirce, C.S. (1997) “The Fixation of Belief.” In Pragmatism: A Reader, edited by Louis Menand. New York: Vintage

James, W. (1916) Talks to Teachers on Psychology. New York: Henry Holt and Company

Palmer, P. (1998) The Courage to Teach: Exploring the Inner Landscape of a Teacher’s Life. San Francisco: John Wiley and Sons

Shea, P. (2008) Philosophy for Children and Learning Circles: How Do We Help People to Want to Be Better? Retrieved 11 July 2017 from http://gambitsanddrafts.blogspot.com/2015/02/philosophy-for-children-andresidential.html

Horton, M., Freire, P., Bell, B., Gaventa, J. and Peters, J. (1990) We Make the Road by Walking: Conversations on Education and Social Change. Philadelphia, PA: Temple University Press

حمل مقالة حلقات مشاركة القصص باعتبارها تساؤلًا نقديًا – الجزء الثاني