الطفولة وتساؤلات المعنى
بقلم : داليا تونسي
من هو الطفل
يقال أن الطفل بلا هوية فكرية، أنه كائن جاهل في حالة حدوث، أنه غير مكتمل وهو بهذه الصيغة منفصل عن عوالم الراشدين.
إنه من قبيله مختلفة وإذا رغبنا في التواصل معه لابد من المشي إليها لابد من زيارة تلك القبيلة إما أن نتحدث لغتها أو أن نحتلها ونفرض عليها نموذجنا نحن الكبار
وفي الجهة المقابلة يقال أيضا دعه وشأنه، Laisseze-faire يقول روسو; لماذا تريد أن تجره إليك؟ تسحبه في اتجاهك اتجاه الرشد والقوانين الصارمة والقواعد بل القوالب العقلية والفكرية دعه ينموا على مقاسه وبطريقته وبالتسارع الذي يناسب حقيقته هو.
هذا الصراع الطويل بين الشد والجذب يستمر ليملي علينا وعلى الطفولة شرط وجودها من خلال أعين الكبار ويغبش علينا رؤيتها كما هي…..كما هي أم كما يجب أن تكون؟
املاءات الكبار
لكن كيف يرى الطفل العالم حقا؟ أو كيف يفهم العالم؟
هل يري الطفل العالم كما هو عليه بتصور حرفي وأن الناس يعنون دوما ما يقولنه؟ هل الطفل بهذه السذاجة التي في تصوراتنا عنه؟
هل يصدق الطفل أن العالم له طبقات في المعنى وأنه متغير وأن هذا التغير مليء أحيانا باللامعقولية والسخف؟
هل يفهمه كما هو، قاس وبليد؟ كما في قصة هانزيل وجريتيل السوداء التي تكسر شيئا في داخلنا عن علاقة الأم بالأبناء وتنهش في الشفرة الجينية لما نفهمه عن بديهيات العلاقات الإنسانية الأساسية؟
هل يفهمه كما يجب أن يكون؟ وهل يعني هذا أن النهاية السعيدة لسندريلا هي الشكل الرائع للعالم كما يجب أن تكون في ذهن الطفل؟
هل يفهمه بناء على ما يجب أن يتجنبه؟ وهنا يأتي دور البالغ لحمايته من كل المشاعر الخاطئة بالنسبة للنمو الشعوري السليم مثل شعور غيرة اخوات سندريلا ورغبة حيازة الفساتين الجميلة والهروب من المنزل حتى منتصف الليل؟
لكن لمذا نكذب على أنفسنا؟ أليست كل هذه القصص التي نقيس بها فهمنا للطفولة هي من صنع الكبار، هي جزء من منظومة السلطة والتحكم في صياغة المعنى في ذهن الطفل، أليست طريقة لتمرير وصايتنا على المعنى في ذهن الطفل من خلال بوابة الأدب؟
الطفل الحر والمجاز
ماذا لو حدثنا الطفل في حالة حرة، بالرسم مثلا، حين يرسم الطفل ذو الأعوام الثلاثة شخمطات على شكل دوائر أو خطوط ثم يشير إليها: هذه ماما وهذا عصفور، ألا تعطي هذه الترابطات بين الشكل الدال واللغة المنطوقة علامات بدائية على خلق الاستعارة؟ أليس المجاز هو القدرة علي تصور التعالق الذهني بين الحسي والمعنوي بالضبط كابتسامة الطفل الأولي حين يشعر بالفرح
اذن فالطفل قادر على خلق الاستعارات بل ربما هو مصدرها، يلعب بالشوكة والملعقة ويقول هذه ماما وهذا بابا. مع الوقت نقول للطفل أن العالم مبني على التصنيفات المنطقية والقوالب التي تساعدنا علي الفهم . لذلك لا يصح أن تقارن الشوكة ببابا والملعقة بماما، هذا خيال فاسد لابد أن نتعلم أن نصنف الأشياء أولا وحتى نحصل على نتائج أفضل “وأدق” قارن ماما بشبيهاتها من النساء وقارن الملعقة بشبيهاتها من الأشياء.
وبذلك ننجح في تقليص المجاز ويستفحل الواقع ويضعف الخيال ويتهيئ المنطق الصارم للازدهار.. يضمحل تدريجيا عالم الصور الذهنية المجازية عند الطفل ويرحل عنها ويعلق معنا في عالم الوضوح الحرفي والواقع
ماذا لو نظرنا للطفل ببساطة أنه امتداد طبيعي للتجربة الإنسانية أنه مكتمل حسب هيكله الفكري والإدراكي الذي بني عليه في مرحله محدده؟ هل ستتغير نظرتنا له وسيسهل علينا طرح سؤال الطفل وتساؤلات المعنى؟
طبيعة سؤال الطفل
يتحدث الأطفال كثيراً وكثير من حديثهم تساؤلات، لكن هل لديهم ما يقولونه حقاً ؟ وهل سنسمع لهم؟
يسأل الطفل:
لماذا لا نعرف كل شيء؟
لماذا هناك أغنياء وفقراء؟ لماذا يملك صديقي بيتاً أجمل من بيتي؟
كيف نفرق بين الحقيقة والخيال؟
الطفل لديه رفاهية التأني لذلك فهو يسأل عن الغايات والماهيّات عن كنه الأشياء وعن العلاقات ولأنه ليس مطالبا بإجابات فورية تقرر له نمط عيشه وتجلب له الخبز على المائدة لذلك فهو باحث مُتمهّل وصبور، يتناوب في أدواته البحثية بين الاستقراء والاستدلال بخفة ومهارة، وحين يتساءل فإنه غالباً ما يبدأ بالأسئلة الأوّلية، وهي أسئلة خام بدائية تسبق الأنساق والمعارف وتراكمات ما تخلفه الحواس في رؤوسنا، نحن الكبار، من مدخلات ذهنية قد تلوي الحقائق عن صيغتها الجوهرية. ربما هذا ما يجعلنا نتفاجأ أحيانا من أسئلة الطفل ونتساءل: لماذا لم يخطر هذا السؤال البديهي على أذهاننا قط؟
من أين يأتي الأطفال؟ يسأل الطفل ويرسخ حجر في قلب الأم التي تعتقد أن واجبها أن تجيبه فورا على هذا السؤال الصعب والمحرج
لكن ربما ليس بالضرورة أن يبحث الطفل لحظة إطلاق السؤال عن جواب ما.
إنه قد يسأل لمتعة السؤال عينها، فهو يستخدم الفضول كأداة للفهم التراكمي المُتمهّل، وليس مثلنا، نحن الكبار، مِمّن نرغب بشدة في الوصول للنهايات، وقد نمل بسرعه لأننا نقيس المعرفة ببلوغ النتائج والتوصّل للحلول، ثم ما نلبث أن نتخطاها نحو معضلات جديدة.
نية السؤال
يضع الطفل يده على وسطه وينظر لأمه بعين التحدي ويسأل:
لماذا علي أن أسمع كلام الكبار؟
هل يعرف الكبار كل شيئ؟
لكن ربما حين يسأل الطفل فسؤاله حسن النية، ليس فيه استهجان أو استنكار أو تقليل شأن أو رغبة في اثارة الفوضى.
اسئلته ليست ملغومة بقنابل الأنا وتقريع الآخر مثل الكبار بل يسأل ببساطة في لحظة دهشه والدهشة بالنسبة له هي لحظة حيرة حين لا يتطابق ما يعرفه من افتراضات ذهنية مع البيانات التي حصل عليها من خلال الحواس. ولحظة الحيرة تلك هي ما يجمع بين الطفل والفيلسوف، “هذا الجلد الرقيق للطفل تجاه العالم وهذا الجلد الرقيق للفيلسوف تجاه الحيرة والدهشة” كما يعبر جاردر
السؤال سلم المعني
“أن نكون أو لا نكون، هذا هو السؤال” أشهر سؤال في العالم أطلقه شكسبير في هاملت، سؤال؟ كيف صار سؤالا وهو لا يحمل في ذيله أي علامة استفهام؟
هكذا أيضا هو سؤال الطفل، إنه توكيد للمعنى في صيغة استفهام، إنه سلم للوصول دون الحاجة إلى إجابات بل دون أي التفات لسطوة علامة الاستفهام
قد يكون السبب في ذلك أن المعنى في سؤال الطفل يتمظهر متحررا من السلطة، سلطة المعرفة أولا وسلطة التحيزات ثانيا ثم أنه متحررا أيضا من سلطة الخوف.. الخوف مما لا نعرف أو الخوف أن يتكشف لنا مقدار ما لا نعرف
الوجودية
ماما هل يقدر الله أن يدخل يده عبر السقف هكذا ليغير بيتنا وألعابنا؟ يسأل الطفل
كيف خطر هذا السؤال البسيط، الكبير على ذهن طفل؟ هو لم يقرأ قط عن الميثولوجي الإغريقي ولم يتعرض للكرستولوجي المسيحي ومعضلة تأنيس الإله أو تأليه الإنسان، ليس لديه فكرة عن الجبرية والقدرية وصراعات الأشاعرة ونظرية الفعل والمعتزلة وسجالات علم الكلام عن صفات الله سبحانه وتعالى ما يثبت له وينفى عنه.
أسئلة الطفل تحمل في طبيعتها عنصرا وجوديا وهذا مصدر قوتها وجمالها وخطورتها. قد يسأل الطفل عن الكيفية مثلا، كيف ينزل المطر أو من أين يأتي المطر؟ قد يبدو سؤالا بريئا فعلا، لكن هذا السؤال في ذهنه لا يستدعي إجابة عن ميكانيكية نزول المطر وليس في نيته أن يعرف عن دورة المياه في الطبيعة؛ لأنه ببساطة لا يملك افتراضات مسبقة عن مفهوم الطقس، وليس في ذهنه علاقة سببية بين المطر والسحاب أو ماء البحر والتبخر، هو يستفهم عن طبيعة هذا الماء الذي يهبط هكذا من السماء الهائلة والبعيدة فيبلله دون سبب واضح، عن جوهر المطر وليس كيفيته، سؤاله فيه عنصر سحري والكثير من الخيال، وهذه هي الطبيعة الوجودية لسؤال الطفل
دهشة الطفل
أعترف أني أصبت بعدوى الطفولة، صرت أفكر مثلهم أتحدث مثلهم أحيانا، وجدت حجر الفلاسفة الخاص بي، أكسير الشباب الدائم وهو دهشة الطفل الأولى .
الطفل يندهش دهشة أوليه من غرابة الأخطبوط.. بطن ثم رأس تخرج منه ثمانية أرجل بممصات التصاق لزجة ياللعجب،، ماهذا
تأمل معي من سؤال هذا الطفل: ما إسم البغبغاء الحقيقي الذي سماه به الله حين خلقه؟ وهل يعرف البغبغاء أنه بغبغاء؟
تعال يا بني لتنظر إلى هذه الخنفساء.. فيضحك ويكرر خنفساء خنفساء
ترى لماذا يضحك؟ بما يفكر وهو يسمع نطق خنفساء وجندباء ودعسوقة مبرقشة وسرفة مزمجرة وسلطعون مفصلي الأرجل؟
خنفساء خ ن ف س ا ء ،، كيف تجمعت هذه الحروف وقررت أن تصطف بهذه الطريقة فتبدأ بالخاء وتستمر حتى تنتهي ب الهمزة على سطر. سطر! أي سطر؟ وما علاقة الخنفساء بالسطور؟ ،، ثم تصبح الحروف اصواتا ثم تذهب لهذا الكائن الصغير في الحقل الكبير ،، وتخبره أنها ستكون وسمه للأبد؟ وهل وافق؟ هل كان له الخيار؟
يتعلم الطفل الحروف لكن عقله يفكر لم تبدو الهاء خجولة، والميم حنونة، والكاف نادلا في مطعم يلبس بدلة سوداء وشريط في عنقه، والتاء المربوطة كعجوز صارمة تبحلق بعيونها في الأطفال الأشقياء وتقرصهم في أفخادهم؟
تعالوا نتعلم الدهشة من الطفل، نستعير منه تلك الجرأة والشجاعة في السؤال عن البديهيات تعالوا نتعلم منه كما تعلم سقراط أن ” كل ما نعرفه هو حقيقة جهلنا”
دعونا نسأل
لم لدينا أنف وعينين وليس عين وأنفين؟
وإذا كان الأنف يفصل بين عينينا فلم لا نرى العالم مقسوما نصفين؟
كيف قررت الأعداد لأول مره أن تزيد على العشرة ليولد الأحد عشر؟
لماذا نغمض أعيننا، حين نتلذذ بشئ بطريقة أستثنائية؟
نغمضها حين نتذوق طعاماً لذيذاً، أو مقطعاً موسيقياً، أونردد كلمات أغنية، أو نتبادل قُبلة، أو نشعر بنشوة إيمانية.
كيف لا يمكنك مهما حاولت أن تتخيل شيء غير موجود ،،
لكن الأعجب أنك قد تذهب إلى أعجب الأماكن وأنت نائم
كيف نرى أحلامنا بدون عين؟ ولا انبثاق ضوء؟
لماذا البحر في جانب الأرض،، منحسرا عن اليابس ؟
ولماذا الثلج لا يجيء في الصيف،، لكن المطر يأتي فيه؟
هل تملك الأرض القمر؟
كم هو عدد (الأشياء) من حولنا؟
أين تذهب الملفات الممسوحة؟
كيف يختار السرطان بيننا؟
لماذا بعض الأشياء مخيفة؟
لماذا بعض الكلمات (عيب)؟
لماذا نرغب في (أكل) الصغار؟
لم ينسكب الجلد بهذه الدقة على كل تضاريس الجسد ليحجب العضلات؟ لم ترغب العضلات في الإختباء؟
لماذا نكون صغارا فنكبر ونكبر ونكبر ،،
ولا نكون كبارا فنصغر ونصغر ،نصغر ؟!
لم (نظغرط) في الفرح هكذا : لولولولولولوي ،، يا للغرابة
لم ونصفق أيدينا إذا أعجبنا شيء؟
نصائح
لنتعلم المعنى من سؤال الطفل فهو وحده الذي يهدينا إياه صادقا وحقيقيا كصدق نية سؤال الطفولة
قد يتوسل إليك السؤال أن تجيبه، اصبر، تأنى، دعه يذوب في داخلك وستجد أنك لو دربت نفسك بشكل جيد، سيظل السؤال طازجا في ذهنك مهما استمعت له من إجابات وكأنه لم يجب عليه قط.
لا تحرم التساؤل على نفسك،، لا تظل سجينا لأحكامك المسبقة وتحيزاتك القائمة على ما تظن أنه بديهي في هذه الحياة بل حفز حواسك الخاصة التي نسيتها منذ الطفولة، تلك الحواس التي تبحث عن المدهش وتنقب عن الأشياء الغير مألوفة في كل ما هو اعتيادي ومألوف
وتذكر أن “الطفولة جذوة نار منسية في نفوسنا” كما يقول باشلار قد يمكنها الاشتعال في أي لحظة
ونصيحة أخيرة، لا تأخذ الأجوبة دائما على محمل الجد،، فالسؤال سيبقى وإن فنت إجابته.
مقالة قُدّمت أثناء ملتقى ” رحلة المعنى ” الكويت ٢٠١٩
حمل مقالة الطفولة وتساؤلات المعنى