هل البذور في الكيس هي فعلا بذور الخس؟
نظرية المعرفة في الحوار مع الأطفال
جاريث ب . ماثيوز
Public Domains
“جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن المؤلف وليست مسؤولية معهد بصيرة أو دار بصيرة للنشر أو أي جهات أخرى متصلة بها من الجهات والهيئات الثقافية التنظيمية أو المانحة وغيرها“
ترجمة : سارة القوزي
تدقيق : أمل اسماعيل
صادفتُ مؤخرًا كتاباً لفصل روضة أطفال استثنائي. كانت المعلمة مهتمةً جدا بالنقاشات التي تدور في الصف، ومتشوّقة لمتابعة هذه النقاشات التي كانت تسجلها على شريط ثم تدوّنها على دفتر في وقتٍ لاحق من اليوم. كانت تخشى أن تتلاشى أطراف النقاش في ذاكرتها مع الوقت لأنها كانت تفكّر في مراجعتها في اليوم التالي إن استدعى الأمر.
الكتاب يحتوي على العديد من الاقتباسات الطويلة من تلك النقاشات، إنها مُدهشة؛ فالأطفالُ واسعو الخيال، ومرحون، ومبدعون، ومنطلقون بشكل لافتٍ للنظر.
إن الفضل في عذوبة النقاشات وتفرّدها يعود بلا شك إلى المعلمة التي جعلتها ممكنة.
ألقوا نظرة على الحوار التالي الذي حدث بعد انتهاء الصف من زراعة بذور الخس في الحديقة:
إيدي: كيف نعرف أنها حقاً بذور خس؟
المعلمة: المُلصق على الكيس يقول إنها بذور الخس.
إيدي: ماذا لو كانت في الحقيقة بذور طماطم؟
المعلمة: أوه! هل كنت تتسائل عن الصورة في الملصق التي تحتوي على الطماطم مع الخس على الكيس؟ إنها فقط اقتراحٌ لاستخدام الخس في السلطة بعد أن يكون قد نبت.
وارن: ربما كانوا يعتقدون أنها بذور الخس لكنهم لا يعرفون ما هي في الحقيقة.
إيرل: ربما كانت البذور تبدو كأنها شيءٌ آخر.
المعلمة: هل تعتقدون أنهم قد يقعون في هذا الخطأ؟
ليزا: لنُعدها إلى المتجر إذا كانت خطأ.
ديانا: لكن أصحاب المتجر لم يقوموا أصلًا بهذا الخطأ.
إيدي: يجب إعادتها إلى المزارع.
ديانا: ربما طبعوا كلمة لكنهم أخطؤوا في تهجئة حروفها، فاختلط عليهم الأمر.
إيدي: ربما كانوا يريدون وضع بذور مختلفة لكنهم التفتوا من أجل شيء ما ثم وضعوها على الطاولة الخطأ.
ويللي: الجزء الخطأ من الحديقة هو جزء الطماطم.
وارن: إذن في حال أنها ليست خساً فستكون طماطمَ.
سؤال إيدي كان عن الدليل على معرفتهم بأنها بذور الخس. انضم إليه الأطفال في الحال مفكّرين بالاحتمالات المختلفة التي تُضعف مبررات اعتقادنا أنها بذور خس بالفعل. بهذه الطريقة توصلوا إلى التساؤل عن دعوى (زعم) المعرفة نفسها.
أيّ شخصٍ مطّلعٍ بالفلسفة سيدرك فكرة السؤال المتنامي الذي يُضعف مبررات اعتقادنا بمعرفة شيءٍ مثل أن بذور الخس المعبأة في أكياس ذات ملصقات تشير لك بذلك. ما إن تتصاعد الشكوك لن يكون هناك من طريق لتجاهلها بعقلانية أو بمسؤولية.
هل هناك من دليل مقنع، إذا كان يوجد دليل، قد يعطينا تبريرًا لا يتزعزع عن معرفتنا بأن هذه الحبوب الصغيرة هي بالفعل بذور خس. أم أن البحث عن دليل كهذا هو أمر لا طائل منه؟
في النهاية، قد يكون المُلصق الموضوع على الكيس خطأً، أو أن يكون المزارع قد نسي وحتى الخبير في البستنة قد يُخطئ. فهل يمكننا بذلك استنتاج أن لا أحد يستطيع معرفة أن أشياء صغيرة ومحددة هي في الحقيقة بذور الخس؟ بالتأكيد يمكننا زراعتها مثلما كان الأطفال في الروضة يفعلون. لكن ماذا لو لم تنبُت البذور؟ هل عدم إنباتها ينفي إمكانية معرفتها كبذور خس. وماذا لو أنها نبتت بالفعل، قد يكون هناك مشكلة في معرفة النبتة. لكن إلى جانب هذا، فإن أقصى ما يمكننا معرفته هو ما إذا كانت الحبوب بذور خس أم لا. ربما سنستمر بالتساؤل فيما إذا كان هناك أي أحد بإمكانه معرفة أن أشياء صغيرة ومحددة هي في الحقيقة بذور للخس.
استقبلت عائلتي مؤخرًا ضيفًة قضت معظم سنوات نشأتها وحياتها في المدن. خططنا للخروج في نزهة وكانت ضيفتنا سعيدة بذلك. لكننا عندما اقترحنا إحضارعلب حافظة كي نتمكن من قطف التوت الأسود وتجمعيه، أثار ذلك قلقها. سألتنا مستفسرة “كيف بإمكانكم معرفة إن كانت صالحة للأكل؟” فأجبنا: “هذا بسيط، سوف نخبرك بذلك”، ولكن ضيفتنا لم تطمئن لهذا، فأضافت: “إنكم تضعونني في موقف مُحرج” وتابعت: “سيكون علي الاختيار بين إهانتكم – برفضي تناول ما قلتم عنه إنه صالح للأكل – وبين القبول بشيء ليست لدي أدلة كافية على صلاحيته للأكل”، سألتها: “وما الذي يجعلك تصدقين الملصقات على حافظات التوت الأسود في المتاجر؟” كنتُ مسروراً بردي عليها. لكنها أجابت مبتسمة على الفور: “لأنني أتناولها دائمًا”.
تستطيعون القول، أنّي كنت أود الانضمام إلى نقاش البذور في صف الروضة. كنتُ أريد أن أفهم مع أولئك الأطفال ما كنا نعرفه، وإن كان في الحقيقة كذلك، فكيف لنا معرفة أن حبوبا معينة هي بذور خس بالفعل. لذلك شعرت بخيبة أمل عندما حملتهم المعلمة على الانشغال بالآراء العملية فقط. بالطبع لا توجد أي طريقة عملية تجعلنا نفكر أن هذه الحبوب المغلفة بعناية – أو على الأقل يظهر عليها ذلك – في أكياس بملصقات بذور الخس أنها لن تحتوي على بذور خس، خاصة عندما يكون أمر معرفتنا أصلا بأنها بذور خس على المحك – كما يتناقض مع ما نعتقده بقوة. من هنا يبدأ المنظور الشخصي للشيء من دون وجود أدلة عملية عليه.
لماذا يفشل أغلب الآباء والمعلمين في صيد تلك اللحظات التي يعبّر فيها الأطفال عن منظورهم الخاص وإدراكه كما هو؟ ربما لأنه تم التأكيد كثيرا على أن قدرات الأطفال لها مراحل – خاصة القدرات الذهنية منها – التي تجعلنا نظن تلقائيا أن تفكيرهم سيكون بدائياً وأن عليهم النمو والتقدم كي يصلوا إلى مستوى تفكير الشخص البالغ. ما نظنه نحن بدائياً – على كل حال – قد يكون في الحقيقة أكثر اتساعا من منظور التفكير للشخص البالغ الذي نريد الوصول إليه كهدف من العملية التعليمية. عندما ننتقي ملاحظات الأطفال بناءً على افتراضات مراحل التطور، فنحن بذلك نتجاهل الفلسفة الصادقة في تلك الملاحظات، وبهذه الطريقة، نتجاهل الطفل ووجهة نظره التي تستحق منا الالتفات لها بجدية ومرح.
قررتُ إلقاء هذا السؤال على صفوف مدرسة القديسة ماري لنرى إن كان بإمكاننا معرفة أن حبوب معينة هي بذور للخس تحديدًا. ذهبت إلى متجر في شارع جورج واشتريت كيسًا يحمل ملصقًا يوضح أن ما بداخل الكيس بذورَ الخس. كانت فكرتي في البداية أن أسأل الأطفال ببساطة فيما إذا كانوا يعرفون حقا أن هذه بذور خس، ولكني وسّعت الفكرة قليلا. ففكرتُ بشراء كيس بذور آخر شريطة أن تشبه حبوبه ما في الكيس الأول تماما، وأن تكون مصنّفة حسب الملصق بأنها شيء مختلف، ثم سأسأل الأطفال: كيف يمكننا معرفة – أو ماذا نحتاج كي نعرف أن الحبوب الموجودة في أحد الكيسين هي بذور خس في الحقيقة؟
للأسف، لم يكن لدى المتجر الذي اشتريت منه أكياسٌ شفافة، لذلك لم أتمكن بمجرد النظر من خارج الكيس التعرف على أيّها تشبه بذور الخس. فسألتُ زوجتي التي استشارت أحد أصدقائها ونصحنا بأخذ بذور الجزر لأنها الأشبه ببذور الخس، ومن ثم وضعتُ حفنة من كلا الكيسين في أكياس أخرى شفافة.
عند هذه النقطة كنت قد شعرت بأن معنوياتي ارتفعت، فقررت تقديم فكرة أن يكون شيءٌ ما (معيارا) كافياً لشيءٍ آخر. في بداية الأسبوع أخذت معي الأمور التقنية بعضا من الوقت لشرح فكرة المعيار الكافي لمعرفة شيء ما، مثل:
- أن هذا الشخص هو والدي.
ومع قليل من التشجيع توصلوا إلى،
- أن هذا الشخص هو رجل وهو أحد والديّ، وهذا بالفعل يشكل معيارًا كافيًا لإثبات الجملة رقم (1).
بعد ذلك، مرّرتُ الكيسين البلاستيكيّين اللذين يحتويان على الحبوب ثم سألت الأطفال عن ماهيّتها. كانت هناك الكثير من التخمينات، التي كان من ضمنها وأخيرًا “بذور خس”. أقررتُ لهم بأن أحدهما يحتوي على بذور خس فعلًا والآخر يحتوي على بذور جزر، لكنني أخبرتهم أنني لم أكن أريد منهم تمييز أحدهما عن الآخر، بل أردتهم أن يعطوني معيارًا كافيًا من أجل التالي:
3 ) معرفة أن هذه الحبوب – الموجودة في أحد الكيسين – هي لبذور الخس.
ولإضافة القليل من الدراما على المشروع، طلبتُ من الأطفال أن يتخيلوا معي أن والدة كل منهم طلبت منه أن يذهب ويزرع بذور الخس في الحديقة، ولكن أحدهم قد أفرغ محتويات كلا الكيسين من الحبوب في إناء واحد وأن هذا الأخير لم يتذكر في أي ناحية من الإناء قد أُفرِغَ الكيسان.
كانت إجابة مارتن عمليةً جدا، إذ قال: “سوف أزرعهما معًا في نفس البقعة، ومن ثم سنحصل في السنة القادمة على حديقة نصفها من الخس والنصف الآخر من الجزر”.
أجبته: “حسنا، ولكن عليك الآن أن تكون محقًا في التمييز بينهما”.
فردّ مارتن: “ماذا لو نظرنا إلى الملصق على الكيس؟”
“جيد، فلنحاول ذلك”، قلت ذلك وأنا أتقدّم نحو السبورة التي شرحت فيها سابقًا فكرة المعيار الكافي، وكررتُ توضيح أن عليهم الإتيان بجملة تحدد المعيار الكافي للافتراض في السؤال، مثلا:
4 ) إذا كان الملصق على الكيس يقول أن هذه بذور الخس، إذن سنعرف أن هذه هي بذور الخس.
وضعتُ خطًا تحت جملة المعيار، وذكّرتهم بأنه في حال كانت الفرضية صحيحة في الجملة الأولى فستكون معيارًا كافيًا لاستنتاج الجملة الثانية وهي: “سنعرف أن هذه هي بذور الخس”.
عند هذه النقطة من النقاش، بدا على الأطفال السرور للاعتقاد بأن ما كان مكتوبا على الملصق هو صحيح بالفعل، بخلاف ما حدث مع أطفال الروضة، فلا أحد من الأطفال في صفي بدا عليه الشك أو الارتياب من صحة الجملة (4).
كانت هناك اقتراحات أخرى للمعايير. مارتن أعاد فكرته بأنه في إمكاننا زرع كل البذور والانتظار حتى الربيع كي نعرف أيًّا منها ستنبت الخس. وضّحتُ أن فكرة مارتن العملية ستعطينا معيارًا كافيًا لما كان بذورَ خس وليس لما هي عليه في الوقت الحالي بعد أن أصبحت نبات الحس.
فجأة تنبّه دايڤد-پول وقال: “في إمكانك أن تزرع عينة من كل نوعٍ من البذور في بيتٍ زجاجي كي تنبت أسرع وبذلك يمكنك معرفة أي منهما ستكون للخس، فتتمكن من زراعة البذور الصحيحة”.
الفكرة كانت مبتكرة؛ فمعرفة أي البذور هي للخس يجعلنا نعرف أية بذور لديها هذه القدرة الكامنة. بإمكاننا فعل ذلك بزراعة عينات لتحدد إمكانيات البذور بطريقة مسرّعة. لكن بعد أن نعرف بهذه الطريقة أية بذور كانت للخس، سيكون لدينا أساس رائع لاستنتاج أي من البذور المتبقية هي بذور الخس.
إستر كانت مهتمة بمعرفة أي الكيسين في الصف في الحقيقة يحتوي على بذور الخس. لذلك أوقفنا النقاش عن المعيار الكافي للمعرفة، وتركتُ الأطفال يخمّنون. أجاب نصفهم بإجابة صحيحة (أو على الأقل هذا ما أعتقده!).
بعد ذلك حاولت إعادتهم للتفكير فيما كان مكتوبًا على السبورة، تحديدا الجملة المعيارية رقم (4). أردت معرفة إذا كان افتراض “الملصق المكتوب عليه أنه بذور الخس” هو معيار كافٍ بالفعل “لمعرفة أن هذه هي بذور خس”.
مارتن: “حسنًا، قد يكونون أخطؤوا الكتابة في الملصق”
إستر: “لكن هذا ليس وارداً”.
مارتن: “ربما كانت في الحقيقة بذور عباد الشمس”
كان هناك بعض الالتباس بشأن وجود البذور داخل أكياس محكمة الغلق، لذلك وضّحتُ لهم:
4) إذا كان الملصق على الكيس محكم الغلق يقول بأنها بذورالخس، إذن نعرف بأن هذه بذور خس.
ثم سألتهم إن كانوا راضين عن المعيار في الجملة الآن بعد التعديل.
بصوتٍ واحد: “أجل”.
فسألت: “هل هناك أحد لديه شك في أن الملصق على الكيس المغلق بإحكام ويقول بأنها بذور الخس هو معيارٌ كافٍ؟”
بصوتٍ واحد: “لاااا”.
مارتن (بثبات): “حسنا، يمكنك أن تزرعها كلها ومن ثم تكتشف في الصيف أنك قد زرعت زهر عباد الشمس في كل الحديقة، وهذا سيخيّب أملك”.
دايڤيد-پول “ولكن بذور عباد الشمس تبدو مختلفة”.
مارتن:” لكنك لن تعرف ذلك، إذا كانت موجودة داخل كيس محكم الإغلاق، أم هل ستعرف؟”
إستر: “لكنك ستعرف الفرق إن كنت مزارعًا خبيرا”.
مارتن: “إذن، لنفترض أنكِ زرعتها، فنبتت لك زهور النرجس أو شيء آخر”.
قال أحدهم: “إنها بُصيلات”.
بقي مارتن متشككاً. لكن الآخرين لم يأخذوا شكوكه بجدية، لذا تركتُ الأمر إلى هذا الحد في ذلك اليوم وانتقلنا إلى قراءة القصص.
الأسبوع التالي، أعدت على الصف السؤال عن وجود المعيار الكافي للمعرفة. أثناء نسخي لنقاشهم الأسبوع الماضي، كنت قد صُدمت باستمرارية مارتن في شكوكه بالإضافة إلى أننا في الحقيقة لم نتوصل إلى ربط آراء الأخرين غير المتشككة مع مشروعنا في محاولة إيجاد معيار كافٍ للمعرفة.
ولقيادة مراجعة النقاش، أعطيتهم الملخص التالي:
نحن نناقش الآن: بإذا كان الملصق على الكيس يقول بأنها بذور الخس؛ إذن فأنا أعرف أن هذه بذور خس بالفعل.
كررت عليهم مقطع الحوار السابق و سألتهم إن كان أي منهم في شك من استخدامنا المعيار في الجملة: (“الملصق الذي يقول بأنها بذور خس” قد لا يكون كافيًا لاستنتاجنا جملة: “إذن فأنا أعرف أنها بذور خس”.
بصوتٍ واحد: لاااا.
مارتن: حسنًا، بإمكاننا زراعتها كلها وبعد ذلك سنجد عندما يأتي الصيف أن زهور عباد الشمس قد نبتت في كل الحديقة، وسيخيب أملك.
دايڤيد-بول: لكن بذور زهرة عباد الشمس مختلفة.
مارتن: لكنك لن تعرف ذلك، إذا كانت موجودة داخل كيس محكم الإغلاق، أم هل ستعرف؟
إستر: لكنك ستعرف الفرق إن كنت مزارعًا خبيرا.)
طلبتُ من الأطفال افتراض أننا لن نأخذ بعين الاعتبار الاحتمالات التي يقترحها مارتن. كانوا كلهم معجبين بالجزء المكتوب من محادثتهم في الأسبوع الماضي على ورق مطبوع أمامهم. أظن أن هذا أضاف قيمة لما كنا نقوم به معاً. وكانوا بذلك مستعدين للتفكير مرة أخرى في سؤالنا عن المعيار الكافي للمعرفة.
دايڤيد-بول كان محترساً هذه المرة: “حسنا، أنت ستعرف إلى حد ما”، وأضاف حريصا: “إنك لن تشك في أي شيء”.
أعدتهم مرة أخرى إلى النص المكتوب. مارتن قال: لقد أشرتُ إلى ذلك، أن الملصق على الكيس قد يكون لبذور الخس لكن مع ذلك فزهور عباد الشمس هي التي ستنبتُ في الحديقة. عندها رد دايڤيد-پول بأن بذور زهرة عباد الشمس ستبدو مختلفة. ثم سألتهم: لكن ما علاقة هذا الأمر بالذي كنا نناقشه على السبورة؟
قرأ دانييل المكتوب في السبورة: “إذا كان الملصق على الكيس يقول بأنها بذور الخس، إذن فأنا تعرف بأن هذه بذور خس بالفعل.”
عيسى: “كان بإمكانهم وضع بذور الطماطم داخل الكيس”.
وحينما بدأ الأطفال يتشككون، حاولت إعادتهم إلى مشروعنا في وضع معايير كافية للمعرفة.
قلت: “لكن إذا قلت بأن بذور زهرة عباد الشمس تبدو مختلفة….”
دانييل: “إنها كذلك بالفعل”.
قلتُ مرة أخرى: “حسنا، لكن يجب عليك الآن وضع معيار في جملة: “إذا كان الملصق على الكيس يقول بأنها بذور الخس ولا تبدو كبذور زهرة عباد الشمس…”
دايڤيد-پول: “ولكن هذا خطأ؛ فقد تكون بذور طماطم”.
قلت وأنا أكتب على السبورة: “ولا تبدو كبذور طماطم…”.
دايڤيد-پول: “أو بذور شجرة تفاح…”.
أكملتُ الكتابة على السبورة: “أو أن تبدو كبذور شجرة تفاح.”
مارتن: “أو كبذور الجزر.”
كتبتُ: “أو كبذور الجزر”.
بعد ذلك حاولت جمعها كلها: “إذا قال أحدهم، إن بذور زهرة عباد الشمس تبدو مختلفة أو أن بذور الجزر تبدو مختلفة أو كما قالت إستر إذا كنت خبيرا فيمكنك القول…”.
مارتن:”أجل، لكنك قد لا تكون خبيرا”.
قلتُ:” إذا كانت هذه النقاط مرتبطة ببعضها بعضًا، فيمكنك القول “إذا كنت خبيرًا، فسوف تعرف” أو شيئًا كهذا.
دايڤيد-پول “إذا كنت تريد أن تجعل هذا موثوقًا أكثر”.
في هذا الوقت كانت إستر قد أصبحت متحفظة. فقالت لدايڤيد-پول: “مع ذلك، يمكنهم أن يكونوا على خطأ”.
دايڤيد-پول: “يمكنهم أن يخطئوا في واحدة من الأكياس من أصل مائة”.
إستر:”ويمكن أن تكون أنت الحاصل على الكيس الخطأ، أليس كذلك؟”
دايڤيد-پول: “إستر، إنّكِ تصعّبينها فقط”.
[ضحك الجميع]
شرحت إستر بعد ذلك فكرتها عن تحويل المبتدئين إلى خبراء. اقترحت أن تكون هناك صورة توضيحية خلف الكيس توضح الفرق بين البذور كي نتمكن من التأكد من تطابق كل البذور مع الصور الصحيحة.
كان هذا دور دايڤيد-پول في جعل الأمور صعبة، فقال: “لكن لا يمكنهم وضع صورٍ لكل أنواع البذور، ماذا لو حصلتِ على بذور أناناس؟”
[ضحك]
قرر مارتن توضيح اقتراح إستر، فقال: “يمكنهم وضع البذور في أكياس شفافة وبذلك سيكون بإمكاننا رؤية البذور ومقارنتها بالصورة التوضيحية على الكيس”.
دايڤيد-پول: “حسنا، لكن هذا سيكون مكلّفا جداً. على كل حال علينا أن نثق بمن نشتريها من عندهم”.
كانت نقطة دايڤيد-پول منطقية جدا. إن الفلاسفة يحللون المعرفة بتجرُّدٍ خارجٍ من السياق الاجتماعي. في “الحياة الحقيقية” قد يكون ذلك غير محتمل – ربما يكون غبيا أو غير لائق ولكن قد يكون أيضًا بصراحة لا أخلاقيا – أن تُطالب بمعيار كافٍ للمعرفة من الناحية النظرية قبل أن تسمح للشخص بمعرفة كل ما هو ما يزال قيد البحث. بالإضافة إلى ذلك، قد يكون ذلك عدائيًا وغير أخلاقيّ أن تقول عن أحدهم أنه لم يعرف أن الجسر لم يكن آمنًا أو أن الطعام كان مسموماً – رغم أنه قد قيل له ذلك – حتى لو كان القائل هو شخصٌ ذو شهادة غير موثوقة.
عليّ الاعتراف بأني لم أتوقف عند نقطة دايڤيد-پول سوى بالتفاتةٍ بسيطة فقلت له: “ربما كان كذلك”. في المقابل أكدّتُ على قولي لهم: “عندما تقترحون طريقةً للتأكد سواءً بسؤال خبير أو المقارنة بقائمة للصور، عليكم إضافتها هنا [على جملة المعيار في افتراضنا]، مثلا: “إذا قارنّا البذور في قائمة الصور، فسنعرف هذا”.
دايڤيد-پول: “لكن أليس هذا مضحكاً، أن تقوم بكل هذه الإجراءات عندما تريد شراء بذور الخس للتأكد من أنها ليست بذور زهرة عباد الشمس؟”
قلت: “حسنا، قد يكون هذا مضحكًا. لكن يمكنك أن تقول أننا لا نعرف في الحقيقة…”.
دايڤيد-پول: “لن نعرف حقا، لكنها فرصة جيدة بما فيه الكفاية”.
عندما راجعتُ النقاشين المكتوبين، كنت قد اندهشت من الطريقة التي شجعتهم فيها على التساؤل والشك – أنا لا أقوم بذلك عادة، أو على الأقل لا أظن أنني أفعل – الشكوك التي أثرتها كانت ضمن الفكرة القديمة، وفي نفس الوقت حديثة دائمًا، وتقول بأن المعرفة الحقيقية راسخة وثابتة. إذا كنت أعرف أن هذه بذور الخس، فأنا لن أكون مصيبا في الحقيقة فقط، لكن أيضًا لا يمكن لي أن أكون مُخطئًا.على النقيض من هذا، إذا كان بإمكاني أن أكون مخطئاً، إذن فأنا لن أكون مصيباً في معرفة أيّ شيء بالفعل.
هذا المفهوم القوي عن المعرفة هو على الأقل بقِدَمِ بلاتو، لكنها هي الفكرة الأضعف، ففكرة المعرفة هي الاعتقاد الحقيقي الذي له ما يبرره من قدرة الشخص على تقديم أسباب سليمة تجعله يعتقد أنها كذلك. (انظر مؤلفات بلاتو…). هذه الفكرة الأضعف – المعرفة كاعتقاد يمكن تبريره – لا تتطلب أن تكون معصومةً من الخطأ، لكنها تتطلب في الحقيقة أنه لم تُرتكب أيّ أخطاء وأن الاعتقاد قائم على أسس جيدة.
إن تاريخ هذا الفرع من الفلسفة معروف بـ”إبستيمولوجيا” (أو نظرية المعرفة) ويتضمن المحاولات المستمرة عبر القرون لتحديد المعايير الكافية والضرورية للمعرفة تحديدا مُرضِيًا على أقل تقدير. عندما أتحدث مع طلاب الجامعات عن تحليل المعرفة، فإني عادة ما أحاول أن أوقظ فيهم نزعة الإصرار على فكرة قوية – والإصرار يكون على أنه لا توجد معرفة حقيقية عندما يكون هناك احتمال بأن تكون مخطئا. لكن بعد أن أوقظ فيهم هذه النزعة، أشير لهم إلى أنه استناداً على المفهوم القوي للمعرفة، فإننا لا نعرف الكثير. وبعد ذلك أثيرهم كي يحاولوا تحديد معايير ضرورية وكافية للمعرفة على أقل تقدير.
أعتقد بأن سبب عدم مواصلتي مع طلاب صف مدرسة القديسة ماري إلى هذه النقطة، هو أنّي وجدتهم – ويا لدهشتي! – أقل نزوعًا إلى الإصرار على الترسيخ أو الثبات عما كنت أتوقع. بالتأكيد كانت شكوك مارتن تقوم بقوة على (١) تحديد “المعرفة الحقيقية” مما قال عنه دايڤيد-بول أنه “معرفة إلى حدٍ ما”. وعلى (٢) أن تميل إلى افتراض أن “المعرفة الحقيقية” هي محدودة – إن وُجدت! – فيما لا يمكن لأحدهم أن يكون مخطئًا فيها. لكن الأطفال الآخرين كانوا يبدؤون في معظم الوقت، راضين بـ”المعرفة إلى حدٍ ما”. إنّ في إمكاننا معرفة شيء إلى حدٍ ما دون أن نكون معصومين من الخطأ. قد تكون هُناك حكمةٌ في الاقتناع بالتواضع في”المعرفة إلى حدٍ ما”.
المصدر : حوارات مع الأطفال، جاريث ب. ماثيوز،1992
حمل مقالة هل البذور في الكيس هي فعلا بذور الخس؟