ضمير بنوكيو
«أقدِم على الشجاعة والعطاء والصدق وستجد نفسك قد صرت صبياً حقيقياً يا بنوكيو»
هذا ما قالته الجنيَّة لبنوكيو، الدمية الخشبية الذي تمنى أن يصبح صبياً حقيقياً ذا لحم ودم، حين وضعت الجنية مصيره بين يديه.
قـصة بنوكيو تحكي عن الاستنارة، عن تلك المعرفة الغنوصية التي تنبع من الداخل، من أعمق نقطة في الروح بعد أن نبذل لها القوة والعزم على التخلق ، التخلق بمعنى خلق أنفسنا ببطء واطراد وارتيادها نحو الخلاص والنور , المضي قدماً نحو تلك اللحظة المستنيرة التي تنتج دواخلنا فيها أفضل ما يمكننا أن نكونه فنصبح بشراً حقيقين
لكن بنوكيو لم يترك وحيداً في هذه الرحلة الشاقة التي تبدو كأنها منفتحة نحو العالم لكنها حقيقة رحلة جوانية إلى داخل قلبه الخشبي ، لقد مني بصحبة صرصور الليل جيمني الذي يرتقي في القصة ليمثل ضمير بنوكيو
ما الضمير؟ يتساءل بنوكيو وهو السؤال المبدئي الذي سيساعده في تفعيل خاصية اتخاذ قرار الفعل قبل الشروع فيه والتحسس الأخلاقي أثناء رحلته المليئة بالتجربة والخيارات التي ستحدد مصير خبراته .
ما الضمير، ماهو هذا الصوت الخافت الضعيف الذي يبدو خجولاً أحياناً وهو يشاركنا القرار ويبدو ملحاً ووقحا ومجادلا أحياناً أخرى؟ هل ينبع من داخلنا صدقاً أم أنه متفرج موضوعي من خارج ذواتنا يعلم عن خفايانا الأكثر عمقاً ويراقب نوايانا وأفعالنا ليصدر عليها الأحكام، هل هو الأنا العليا المثالية المتمثلة في صورة تعاليم الأب كما يقول فرويد ، أم أنه حقاً بوصلة مدمجة روحياً في كياننا ؟ لو أنها كذلك فكيف نفرق بينها وبين تلك الأصوات المتعددة والمشوشة الآتية ربما من خارج ذواتنا والتي تحدثنا بألف لغة تتقاذفنا لفعل الصواب كما تراه؟
هل تعلم بنوكيو اللغة الأخلاقية أم أنها جاءت منسوجة مستبطنة في بنيته الخشبية تنتظر أن تفعل بالمواقف والممارسات؟
لو أننا نملك أداة قياس كالتي مني بها بنوكيو بأن أنفه يطول بمجرد أن يرتكب ما يلزم لمخالفة بوصلة الصواب عنده كالكذب مثلاً ، لو أننا نستطيع أن نميز بوضوح بين ناموس الله المكتوب في قلوبنا والذي ليس له أي دافع فعلاً سوى هدايتنا للخير بمعناه النزيه والخام وبين ذلك القانون العام، تلك السلطة القاسية التي تفرضها الأحكام المجتمعية والأعراف؟
أتساءل، في هذا العالم الحديث لمَ صرنا نجد صعوبة في جمع الصوتين في دواخلنا؟ وبدلاً من أن يصير الضمير مصدراً للإتساق والوحدة يصبح حافزاً داخلياً ملحاً للشقاق يدعونا للصراع مع ما هو قائم ونافذ ومسيطر. بعضنا لديه توليفة تمكنه من الخضوع والإذعان دون مساءلة ليعيش مسترخياً، لكن البعض الآخر صار يجازف ويقف متأملاً ليحافظ على استقامة روحه وخلاصها ، يبحث بصدق عن الصوت ما قبل الصوت ويحفرفي ذاته ليتخذ موقفاً متبايناً بين الصوتين ، صرخة ضميره الملحة أوالضمير المجتمعي العام.
لكن ماذا لو أن هذا الافتراض الذي تقوم عليه فكرة الضمير من أساسها هو أيضا مدعاة للتساؤل، هل يوجد فعلا نزعة فطرية في البشر لفعل الخير، هل جوهرنا الذي لو جازفنا بالاستماع إليه سيصل بنا للاستنارة الجوانية التي نرجوها ؟ أم أن النزعات المكتوبة في قلوبنا تتأرجح بنا بين الخير والشر بينما العقل المميز هو الجدير بالثقة وهو الفاعل الحقيقي في القرار وليس للضمير وجود أو تأثير.
ضميرنا،حديث النفس الداخلي ، صرصورنا المزعج الذي يصدر صريراً يؤرقنا باللوم والتوبيخ والاستنكار ، قد يمكن دهسه والتخلص منه للأبد ، لكن للنفس التائهة ، التي لا تدري، وأثناء سعيها تبحث يمنة ويسرة ،تعلم أن هذا الصرصور المزعج لا يمكن الاستغناء عنه.
المصدر : ” ضمير بنوكيو ” ، داليا تونسي ، جريدة المدينة ، 2016