الرعاية بصفتها نوعًا من أنواع التفكير
ماثيو ليبمان في خريف عام 1995م.

ترجمة: حسن الباذر
تحرير وتدقيق: منى عبدالله
مراجعة: علوي السقاف

Lipman, M, 1995 ‘Caring as Thinking,’ Inquiry: Critical thinking across the disciplines”, Vol. 15 No. 1 pp. 1-13. https://doi.org/10.5840/inquiryctnews199515128

“جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن المؤلف وليست مسؤولية معهد بصيرة أو دار بصيرة للنشر أو أي جهات أخرى متصلة بها من الجهات والهيئات الثقافية التنظيمية أو المانحة وغيرها”

في السنوات الأخيرة اقترحت مجموعة من المؤلفين مجموعة من المعايير التي تحدد التفكير الناقد. وفي الوقت ذاته كانت هناك دعاوى مكثفة لجعل المعلمين والمنخرطين في السلك التعليمي يدركون مدى جاذبية التدريس من أجل التفكير وليس فقط من أجل المعرفة. وبما أنه من المفترض أن يكون التفكير شيئًا يمارسه الطلاب بالفعل، ازدادت وتيرة الإصرار على توجيه التعليم لإنتاج “التفكير الأعلى رتبة”. ما العلاقة بين التفكير الناقد والتفكير الأعلى رتبة إذن؟ دعا العديد من الكتَّاب إلى فهم التفكير الأعلى رتبة على أنه مزيج من التفكير الناقد والتفكير الإبداعي. وهذا أمر لا ريب فيه، ولكني أودُّ أن أُبَيِّن هنا أن هناك شيئًا يسمى التفكير الرعائي، وهو العنصر الثالث من عناصر التفكير الأعلى رتبة.

1. هل المشاعر إدراكية؟
هذه ليست بداية مبشرة لأنها تتعارض مع آرائنا المعتادة فيما يتعلق بالعلاقات العاطفية-الإدراكية. فوفقًا لهذه الآراء يقتصر التفكير على المجال الإدراكي، ويتكون المجال العاطفي من حالات نفسية قد تسبق أو تصاحب أو تتبع عمليات التفكير لدينا، وهذان المجالان لا يختلطان قطعًا. نحن نرى أن أحاسيسنا ليست أمثلة على التفكير، على الرغم من أنها قد تكون أسبابًا أو آثارًا له، والرعاية صنف من الإحساس.
أقترح في البداية أن نضع قضية الشعور باعتباره أحد أصناف التفكير جانبًا، ونتساءل بدلًا من ذلك عن الاحتياجات التي قد يواجهها المرء لتصنيف بعض المشاعر على الأقل على أنها إدراكية. تصبح هذه الاحتياجات واضحة عندما نقارن العمليات الإدراكية التي ترتبط عادة بالتفكير الأعلى رتبة (كما هو الحال في كتاب بلوم بعنوان “تصنيف الأهداف التعليمية”، المجلد الأول، وهذه العمليات الإدراكية هي التحليل والتركيب والتقدير) بالعمليات ذات المستوى الأدنى كالحفظ. ولنزيد هذا التباين نضرب أمثلة لأضداد ما هو “ناقد” Critical)): (غير ناقد، مُبهم، غير دقيق، غير مسؤول، فوضوي، وما إلى ذلك) أو أضداد مفهوم “إبداعي” Creative)): (غير إبداعي، ميكانيكي، عديم الخيال، خامل، ميت، دون إلهام، روتيني/مكرر، وما إلى ذلك). حينها تتبين مجموعة أخرى من الكلمات التي تُرصد بسهولة بالعين المجردة، مثل: اللامبالاة، وعدم الثقة بالنفس، وعدم الشعور، والقسوة، وعدم التقدير، وعدم الرحمة، وعدم الإحساس، وما إلى ذلك. ما المفهوم الذي تناقضه هذه المجموعة من الكلمات وهل يُصَنَّف على أنه إدراكي؟

من الواضح مما ذكرت أن الرعاية مثال يناقض هذه الأضداد على أقل تقدير. ولكن لا يوجب هذا أن الرعاية إدراكية باعتبارها بُعدًا من أبعاد التفكير. وتحقيقًا لهذه الغاية، أين يجب أن نبدأ؟

إحدى نقاط البداية التي يستحضرها الذهن بكل سهولة هي مقالة كتبها إسرائيل شيفلر(Israel Scheffler). يبدأ شيفلر بداية واعدة بالتمييز بين المشاعر الخادمة للإدراك (Emotions in the service of cognition) والمشاعر الإدراكية (Cognitive emotions). فيما يتعلق بالمشاعر الخادمة للإدراك يضع شيفلر ثلاثة أشياء بعين الاعتبار: (أ) ما يُسمى العواطف العقلانية Rational passions)) وهو مفهوم طوَّره آر. إس. بيترز (R. S. Peters) سابقًا. (ب) الأحاسيس المعنية بالإدراك (Perceptual feelings). (ج) الخيال التنظيري/النظري (Theoretical imagination). يَعُدُّ شيفلر العواطف العقلانية عوامل مشاعرية تيسِّر التساؤل. ومن الأمثلة على ذلك: حب الحقيقة، والحرص على الدقة، والنفور من المراوغة، والإعجاب بالإنجاز النظري/الفكري. ويضيف شيفلر تحت مظلة العواطف العقلانية المشاعر والنزعات التي يمكن تنظيمها في “شخصية عقلانية”، وهي الشخصية “التي تعمل على تحقيق العدالة المعرفية والتوازن في الفكر وتتطلَّب تنازلات خاصة بها وتنمِّي انضباطًا معرفيًّا يميِّزها”. يؤكد شيفلر أن الأحاسيس المعنية بالإدراك تساعدنا على فهم ما نراه والحكم عليه وتساعدنا كذلك على تأويل ما نتأمله. أما فيما يتعلق بعمل المشاعر في الإدراك النظري، فيشير شيفلر إلى جرأة التخمينات العلمية وحيويتها، وكيف أن مشاعرنا تساعدنا على التمييز والاختيار بين أنماط وأفكار متفاوتة في الأهمية، وتعيننا عندما نسخِّر نتاج خيالنا لحل المشكلات.

إن إصرار شيفلر على تسمية هذه المجموعة الأولى بــ (المشاعر الخادمة للإدراك) بدلاً من (المشاعر الإدراكية) هو بالتأكيد موضع تساؤل. إن تفسيره القائل بأن المشاعر لا تتصف بأنها إدراكية بالتحديد، وأن العنصر الإدراكي يدخل فقط في الطريقة التي تُنَظَّم بها-غير مقنع، لأنه لا يفسر كيف يكون لتنظيم المشاعر الخاملة مثل هذه العواقب المتغيرة، ولأنه يبدو أن المشاعر تفعل كل ما تفعله الإدراكات.

إن ما وضع له شيفلر مصطلح الشعور الإدراكي هو على درجة عالية من التخصص، ويجب أن يرتكز على افتراض إدراكي، وأن يكون له تأثير في الحالة الإدراكية لإدراك الشخص (مثل معتقداته أو توقعاته). من الأمثلة التي يقدمها شيلفر على الشعور الإدراكي: بهجة التأكد والمفاجأة. عندما يتوافق ما نكتشفه مع توقعاتنا المسبقة أو يتعارض معها، فإن مشاعرنا تكون إدراكية لأن أسبابها (توقعاتنا) إدراكية. من الصعب أن نرى لماذا لا تُعَدُّ العواطف العقلانية مثل حب الحقيقة، والاهتمام بالدقة، والنفور من المراوغة، والإعجاب بالإنجاز النظري (أي العواطف التي تيسِّر التساؤل) -مشاعر إدراكية، ويصنفها شيفلر على أنها “تخدم الإدراك” فقط. لا بُدَّ أن أسبابها إدراكية تمامًا مثل أسباب بهجة التأكد والمفاجأة.

قد يكون تطبيق شيفلر لمبدئه القائل بأن المشاعر تكون إدراكية إذا كان سببها إدراكيًا- محبطًا، لكن هذا المبدأ نفسه يستحق أن نأخذه في الاعتبار، لأنه يوفر لنا أساسًا للتمييز بين المشاعر الإدراكية وغير الإدراكية. وهكذا إذا أجاب رجل على سؤال: “لماذا تسيء معاملة أطفالك؟” بــــ”لأنني أحب فعل ذلك”، وأجاب رجل آخر على سؤال: “لماذا تزوجت زوجتك؟” بــــ”لأنني أحببتها”، فمن المرجح أن الرجل الأول لن يتمكن من أن يأتي بأسباب إدراكية “لحبه للإساءة”، وأن الرجل الثاني سيكون قادرًا على القيام بذلك. إن حب من نريد الزواج به مناسب ومعقول في معظم الظروف، أما حب إساءة معاملة الأطفال فغير أخلاقي وغير عقلاني في معظم الظروف. إن الطبيعة الإدراكية للأسباب تتعلق بمدى ملاءمتها ومعقوليتها، وليس بالتوقعات التي تتوافق معها أو لا تفعل.

يجب أن يكون جليًّا الآن أن كلمات مثل (الإدراكي) و(التفكير) غامضة ومتعددة الدلالات تمامًا كما هو الحال مع كلمات مثل (عاطفي) و(إحساس). علاوة على ذلك، فإن ما يتعلق بــ”الإدراك” و”التفكير” غالبًا ما يكون متطابقًا تطابقًا وثيقًا مع الرمز واللغة، ولهذا فأي شيء غير رمزي أو غير لغوي يحال فورًا إلى عالم الشعور بدلاً من عالم الفكر. ولكبح هذا الميل، أقترح ألا يُعَدَّ التفكير معالجة للمعلومات بقدر ما هو ربط للتجارب. وبهذا المعنى، فإن التفكير هو اكتشاف العلاقات واختراعها وربطها وتجربتها، والحال كذلك سواء أعلاقات رمزية كانت العلاقات المعنية أم علاقات غير لفظية. نحن نفكر على سبيل المثال عندما ندرك العلاقة بين ما نرى في مجال رؤيتنا من أجزاء ترتبط بعضها ببعض، أو عندما نعي أن الوسائل التي نستخدمها تؤثر في العواقب التي ننتهي إليها. قد يكون الأساس العصبي للتفكير عبارة عن اتصال عصبي، لكن التفكير نفسه هو بالتأكيد عبارة عن اتصال تجريبي.

بهذا الفهم لطبيعة التفكير، يمكننا أن نكون أدق فيما يعنيه الادعاء بأن بعض أنواع المشاعر (مثل الرعاية) يمكن أن تكون أمثلة على التفكير. ولكن دعونا أولًا نفكر في الجدل الذي يمثل نقطة انطلاق نحو هدفنا النهائي. وهو الجدل القائل بأن المشاعر أحكام.

2. المشاعر بصفتها أحكامًا
من المرجح أن الكثيرين قد يربطون فكرة تصنيف المشاعر على أنها أحكام بروبرت سولومون (Robert Solomon)، ومؤخرًا أصبحت تُربط كذلك بمارثا نوسباوم (Martha Nussbaum) وكاثلين والاس (Kathleen Wallace). ولكنها حجة قديمة، تُعزى إلى خريسيبوس على أقل تقدير، وترتبط عمومًا بالرواقيين. فخريسيبوس يرى أن المشاعر أحكام بالمعنى المادي، لأنها تسجل التغييرات في البيئة الخارجية وتستجيب لها كما تمثَّل استجابة الباروميتر تجاه انخفاض الضغط الجوي بمقدار ما لتقدير حالة الأرصاد الجوية. يتطرق خريسيبوس إلى شرطين لافتين: إن المشاعر بصفتها أحكامًا- خاطئة وطرية (Fresh) (أي تشكَّلت حديثًا على حد تعبيره). ربما لأن المشاعر أحكام، فإننا نميل إلى التعويل عليها، فإذا زاد شكنا بها، تضاءلت فرصها في تضليلنا.

قد يفهم المرء بقراءته لخريسيبوس أن حداثة عمر المشاعر (كونها ليست قديمة أو مبتذلة) ضمان لحقيقتها لا لزيفها، ولكن الأمر ليس كذلك. فمن المرجح أن يثق الفيلسوف الرواقي بعقلانية الحكم باعتباره دليلًا أكثر موثوقية على حقيقته من حداثة عمره أو فوريته، ولكن من المحتمل أننا نتجادل حول التفرقة بين الأحكام ما قبل التفكُّرية (اللمحة الأولى/ (Prima facieوالأحكام ما بعد التفكُّرية. من المرجح أن يتسنى للعقل العمل في النوع الأخير بسهولة ويسر أكثر من النوع الأول. هاك هذا المثال: ناقدة درامية تعكف على مراجعة مسرحية شاهدتها في وقت سابق ذلك المساء. في حين أن ذاكرتها عن مشاعرها ما تزال حاضرة في ذهنها، فيرجح أنها ستراجع المشاهد التي ضحكت أو ابتسمت أو تنهدت أو قطَّبت حاجبيها أو عبست أو دمعت عيناها فيها. تمثِّل هذه السلوكيات الأحكام الفورية التي استثيرت منها في أثناء استجابتها للعمل الدرامي، ولذا سوف يأخذ انطباعها النهائي هذه الأحكام الفورية بالاعتبار، وهذا لا يعني أنه سيطابقها بالضرورة. (كما كان الحال لدى ليبنتز: “بأن مشيئة الله الواقعة تأخذ بالاعتبار إرادته العامة والسابقة، ولا تطابقها بالضرورة”). لذا فإن الحكم النهائي للناقد يمثِّل حكمًا على هذه التقديرات الفورية التي كانت أصيلة بما فيه الكفاية لأنها انبثقت مباشرة، ولكنها تفتقر إلى الإحساس بالكل الذي لايوفِّره إلا تقدير لاحق شامل.

اخترت مثالًا يفكر فيه المرء قبل أن يقرر، ويقرر قبل أن يتصرف، لكن هذه ليست الطريقة الوحيدة لفهم الرواقيين. يَعُدُّ الرواقيون الرومان -كما يقول لويد (Lloyd) (وتذكَّر أن خريسيبوس كان يونانيًّا)- مقاطعةَ التفكير عادة “علامة على ضعف الكفاءة في فن الحياة”. فكيف يشرع المرء في التصرف دون الانخراط في التفكير قبل ذلك؟ يؤكد لويد أن:

“إطلاق الحكم بأن هيلين محبوبة هو نفس فعل أو حدث استحضار (بمعنى وعي) صورة عقلية محبوبة لها. إن اختيار أو اتخاذ قرار محبة هيلين هو نفس الموافقة على الحكم بأنها محبوبة. اختيار أو اتخاذ قرار فعل شيء عادة ما يكون نفس/أو شبيهًا إلى درجة كبيرة بـ محاولة القيام بهذا الفعل أو الحدث”.

يوجد الكثير هنا مما يذكرنا بالقياس المنطقي العملي لأرسطو، إذ إن معرفة المرء بما يجب عليه فعله، بالإضافة إلى معرفته بأنه في موقف يحسن له أن يفعل ما يتوجب عليه، يؤدي إلى فعل المرء لما يتوجب عليه فعله على الفور.

بالعودة إلى خريسيبوس، فيبدو بأنه يقول إنه ما دام الرأي صحيحًا ونافذًا، فإنه يُسهم في النشاط السلس للبدن، ولا يسبب أيًّا من تلك الخلجات المزعجة التي تنشأ عند فساد الرأي. المشاعر عنده أحكام غير صحيحة، والأحكام غير الصحيحة من علامات الحياة المفرِّطة. تتميز الحياة المعتدلة بالأحكام الصحيحة. وهذا هو السبب في أن المشاعر غير مناسبة لها.

هذا هو التأويل المعتاد، على الرغم من وجود جزء مثير للقلق استشهد به فون أرنيم (Von Arnim) (نصوص من الرواقيين القدماء III SVF ص. 461): “يحاول خريسيبوس إثبات أن المشاعر/العواطف حاكمة على ما هو عقلاني”. حاكمة على ما هو عقلاني! هل يعني هذا أن المشاعر تطلق أحكامها على العقل كما يصدر العقل أحكامه عليها؟ إذا كان الأمر كذلك، فهل هذا هو سبب أن يعتقد الرواقيون أن المشاعر أحكام خاطئة بالضرورة؟ هذه القطعة محيرة لأنها تقترح طريقتين في التفكير، كل منهما خاطئة في اعتبارات الأخرى، وقد تكون عائقًا أمام الأخرى. وربما توضِّح هذه الفقرة طريقتين للتفكير في التفكير، إحداهما تتضمن المشاعر بصفتها عنصرًا من عناصر التفكير، والأخرى لا تتضمن ذلك.

في السنوات الأخيرة، ركزت مارثا نوسباوم (Martha Nussbaum) اهتمامها على تأثير المشاعر في التفكير كما صورها شريحة واسعة من الفلاسفة التقليديين. فحددت اعتراضين قويين على أهلية المشاعر، وقد ذُكرا آنفًا. الأول هو الرأي القائل بأن المشاعر عمليات فطرية غير قابلة للتفكير وتعمل على إرباك جهود العقل على التعقُّل وتعطيلها، وتوافق نوسباوم على أن معظم الفلاسفة المعاصرين يرفضون هذا التفسير السطحي للمشاعر باعتبارها عقبة أمام التفكير البشري. ومن ناحية أخرى، حددت مجموعة من المفكرين الآخرين (من الرواقيين اليونانيين والرومان إلى ديكارت وسبينوزا) ممن يرون أن المشاعر ليست خارجة عن إطار التفكير بل حصيفة، ليست فطرية بل مُتعلَّمة، ليست غير نقدية بل حكيمة. ومع ذلك، فهؤلاء الفلاسفة يرفضون أيضًا أن يكون للمشاعر جانب حسن في اتخاذ الأحكام لأنهم يرون أن العواطف غير مستقرة بطبيعتها أو مرتبطة بأشياء غير مستقرة، ولهذا فهي خاطئة. ترى مارثا أن هذا الموقف أعمق بكثير من الموقف الأول، ويستمر في جذب العديد من الأتباع. ومع ذلك، فإنه يرتكز -كما تقول مارثا- على أسس معيارية، مثل الحاجة إلى الاكتفاء الذاتي والفردي، وهي أمور مثيرة للجدل إلى حد كبير في عصر يبدو فيه أن الحاجة إلى المجتمع تفوق إلى حد كبير الحاجة إلى الاستقلال الفردي. وتقول إنها تجد الموقف عميقًا لأنه “مثل أكثر الأفكار الفلسفية رصانة وحصافة، فإنه يُظهر بنيته الجدلية الخاصة لقارئه”. لكنها تصر على أن المشاعر (مثل الشفقة والخوف) يمكن أن تكون حقيقية وأنه “إذا لم تكن المشاعر موجودة، فلن يكون هذا الحكم موجودًا وجودًا كاملًا… وهذا يعني أنه من أجل تمثيل أنواع معينة من الحقائق، يجب على المرء أن يمثِّل المشاعر… وهذا يعني أيضًا أنه حتى تصل حقائق معينة إلى القارئ يجب على المرء أن يكتب بطريقة تثير مشاعره”.

3. التقسيم التقليدي المكون من ثلاثة أجزاء
أدرج اليونانيون المجالات المعرفية تحت ثلاثة مُثُل تنظيمية: الحق والخير والجمال. أما أرسطو فقد كان ثالوثه ذا نزعة طبيعية. فعنده تتفرع أقسام التساؤل إلى العلوم النظرية والعلوم الإنتاجية والعلوم العملية. أما أعمال كانط الكبرى فتتعاطى مع العقل الخالص والعقل العملي والحكم.
وقد انتقل هذا التمييز الثلاثي مؤخرًا إلى نظرية المناهج الدراسية كما هو الحال في مصنَّف بلوم. حدد بلوم ومساعدوه ثلاثة جوانب للتفكير الأعلى رتبة: التحليلي، والتركيبي، والتقييمي. ويختلف الحال في الميتافيزيقا الخاصة بـيوستوس بوشلر (Justus Buchler) إذ تنقسم الأحكام بصفتها عمليات إلى قول وصنع وفعل، في حين تنقسم الأحكام بصفتها منتجات إلى تأكيدات وترتيبات وأفعال.

إن أردنا السعي للتمييز بين التفكير العادي والتفكير الأعلى رتبة، فقد يحسن بنا الحفاظ على هذا النهج الثالوثي وأن نتحرى الدقة مع المُثُل التنظيمية كالحقيقة والمعنى والقيمة. ولكن عندئذ، فما جوانب التفكير الأعلى رتبة التي قد ترتقي إلى هذه المُثُل العليا؟ قد يطيب للمرء أن يُرَشِّح التفكير الناقد باعتباره جانب البحث عن الحقيقة والتفكير الإبداعي باعتباره جانب البحث عن المعنى. ولكن ما جانب التفكير الأعلى رتبة الذي يهتم بأبعاد القِيَم على وجه الخصوص؟

من السهل أن يُساء فهم المرء هنا بأنه يتساءل عن أيِّ جانب من جوانب التفكير الأعلى رتبة يُعنى بالتفكير بالقيَم. لكن ليس هذا هو المقصود على الإطلاق، فعند تعلُّم الشخص لغةً أجنبية، فإنه يتعلم الكلمات والعبارات والتصريفات والاقترانات، ولكنه في النهاية يتعلم التفكير باللغة، سواء أباليونانية فكَّر أم بالصينية أم بالأيسلندية. ومن يتعلم التاريخ يحفظ الأسماء والأماكن والتواريخ في البداية، ولكنه في النهاية يفكر تاريخيًّا. وبالمثل، فإن تعلُّم التفكير القيمي يختلف عن تعلُّم المبتدئ للتفكير في موضوع القيَم. فيتعلم المرء التفكير قِيَميًّا (Valuationally) تمامًا كما يتعلم التفكير تاريخيًّا أو جغرافيًّا أو جبريًّا أو موسيقيًّا أو دراميًّا.

أريدُ أن أوضح أنني لا أساوي إضفاء القيمة (Valuation) بالتقدير (Evaluation). فالتقدير (Evaluation) له علاقة بالتقييم المقصود أو التثمين، على حين أن إضفاء القيمة (Valuation) قد يكون غير نقدي البتة: ففيه التكريم بدلًا من التقييم، والإعجاب بدلًا من التثمين.

إن التفكير في القيَم دائمًا (مقصود) -بالفهم الظاهري لهذا المصطلح- بمعنى أن الشخص الذي يقدِّر (أو يفكر قيَميًّا) يوجِّه تفكيره دائمًا نحو شيء ما. لذلك، فإن التفكير الذي يقدِّر الكائنات العقلانية هو تفكير موقِّر (Respectful thinking)، والتفكير الذي يقدِّر ما هو جميل هو تفكير شاكر (Appreciative thinking). والتفكير الذي يقدر ما هو فاضل هو تفكير إجلالي (Admiring thinking)، وإذا كان يقدر ما هو واعٍ وذو حس، فهو تفكير مراعٍConsiderate thinking) )، وإذا كان يقدر ما يجب الحفاظ عليه، فهو تفكير اعتزازي (Cherishing thinking)، وإذا كان يقدر ما يعاني من الألم، فهو تفكير رحيم )، Compassionate thinking))، وإذا كان يقدر مصير العالم وسكانه، فهو تفكير مُكتَرِث (Concerned thinking). وعمومًا يمكننا القول بأن التفكير الذي يقدِّر القيمة هو تفكير رعائي (Caring thinking).

أوضح بوشلر أن هناك ثلاث طرائق للحكم: القول والصنع والفعل، وبعبارة أخرى: التأكيد والترتيب والتصرف. ينطبق هذا النهج الثلاثي على التفكير أيضًا، لأننا إذا أردنا أن نعرف ما هي مكونات التفكير “الأعلى رتبة”، فلن نخطئ إذا أجبنا بأنها تتكون من: تفكير ناقد وتفكير إبداعي وتفكير رعائي. فهذه هي طرائق التعبير عن طريقة تفكيرنا عندما نفكر جيدًا. عندما نفكر بطريقة نقدية، فإننا نطبق على تفكيرنا القواعد والمعايير والمقاييس والأسباب والأوامر المعقولة والمناسبة له. وعندما نفكر بطريقة إبداعية، فإننا نخترع طرائق للتعبير عن أنفسنا و/أو العالم من حولنا: نحاول أن نتجاوز الطرائق التي فكرنا بها في الماضي، ونتخيل تفاصيل العوالم الممكنة ونقترح ابتكارات غير مسبوقة. عندما نفكر بطريقة رعائية، فإننا نلجأ لما نراه مهمًّا وما نهتم به وما يتطلَّب أو يحتاج منا أن نفكر فيه. فالتفكير الأعلى رتبة ليس خاليًا من القيمة بل له جوانب أخلاقية وجمالية لا تنفصل عنه. إن التفكير فيما يمكن القيام به في العالم يعني أن نأخذ في الاعتبار الأثر البيئي الناتج عن القيام بذلك. إن التفكير في الأجداد أو الأطفال (الأشخاص الذين قد لا يكونون قادرين على الاعتناء بأنفسهم) يعني أن نأخذ في الاعتبار كيفية الاعتناء بهم، وأن نعطي الأولوية لهذا التفكير لأهميته. لا يقتصر التفكير الرعائي على مجرد التصنيف، إذ يجب أن يرتِّب ويقيِِّم ويحدِّد الأولويات ويميِّز بين ما هو عاجل وما هو ليس كذلك. ما يكمن وراء تقديرات المرء (Valuations) هو دائمًا إحساسه بالتناسب والقياس، ذلك المنظور الفريد الذي قد يخيل للشخص أن بعض الأشياء تبدو قريبة وضخمة على حين تبدو أشياء أخرى بعيدة جدًّا وذات أبعاد متناهية الصغر.
حين أشيد بتقسيم التفكير (وكذلك الحكم) إلى ثلاثة أجزاء: قول وصنع وفعل، تعادل هذه الأجزاء الثلاثة النقدي والإبداعي والرعائي- لا أنوي تصوير هذه الأجزاء على أنها أقسام محكمة الإغلاق ولا نقاش فيها. بعض السياقات غير ملائمة للتفكر لدرجة أن التعامل معها تعاملًا نقديًّا يعني أن تكون مبدعًا، وفي مثل هذه السياقات، يُعَدُّ كل من النقد والإبداع قِيَمًا. تتطلَّب بعض أمثلة التفكير الإبداعي أن تكون منظَّمة ومحلَّلة بدقة، وفي هذه الحالة تبرز قيمة النقد بقدر ما تبرز قيمة الابتكار. وبعض أمثلة التفكير الرعائي تكون قوية من الناحية المفاهيمية ومبتكرة من الناحية الأسلوبية. لذا فإن التقسيم إلى ثلاثة أجزاء هو لأغراض التحليل فقط، ولا يوجد ادعاء بأن التفكير ينقسم في الواقع إلى المناطق الثلاث المذكورة.

إن تناول التفكير تعدديًّا وإن كان هذا بطريقة محدودة كما كنت أفعل هنا مع الناقد والإبداعي والرعائي- هو شيء مختلف تمامًا عن اعتباره موحدًا وغير قابل للتجزئة. الفكرة الوحدوية للتفكير هي أن التفكير يمكن أن يكون حول أي شيء على الإطلاق، لكنه يظل واحدًا بغض النظر عن الشيء. أنا أزعم -بدلاً من ذلك- أن التفكير دائمًا ما يكون في سياقه: الشخص الذي يفكر تاريخيًّا يفكر بطريقة مختلفة عن الشخص الذي يفكر رياضيًّا. هذه هي الاختلافات التخصصية. وينطبق الشيء نفسه على الاختلافات في جوانب التفكير: الشخص الذي يفكر بطريقة نقدية يفكر بطريقة مختلفة عن الشخص الذي يفكر بطريقة رعائية.

لا يفكر رودان بالكلمات وهو ينحت تمثال المفكر Le Penseur)) بل يفكر بالرخام أو بأي وسيلة نحتية أخرى، ولكنه أيضًا يفكر بطريقة رعائية، لأنه لولا تقديره الكبير للتفكير وأخذه له بجديه لم يكن ليتمكن من إنتاج العمل الذي أنتجه. تمثال المفكر (Le Penseur) ترنيمة منحوتة للتفكير كما أن (أوراق العشب) ديوان شعري للتجربة الإنسانية. يُظْهِر العملان كلاهما التكنيك والابتكار والالتزام كلٌّ بطريقته الخاصة.

4. الرعاية بصفتها نوعًا من التفكير
أكدت سابقًا أن الرعاية ليست حالة سببية للتفكير (أو ليس من الضروري أن تكون كذلك في كل الأحوال)، ولكن بدلاً من ذلك يمكن أن تكون أسلوبًا أو بُعدًا أو جانبًا من جوانب التفكير نفسه. لذا فإن الرعاية تكون نوعًا من التفكير عندما تقوم بعمليات إدراكية مثل: البحث عن البدائل – اكتشاف العلاقات أو اختراعها – إقامة الصلات – قياس الاختلافات. ومع ذلك، فمن الطبيعة الجوهرية للرعاية أن تتجاهل الفوارق والتصنيفات حينما تكون مُخلَّة، أي أن تتجاوز هذه الفوارق والتصنيفات الفائدة المرجوة منها. لذا، فإن الآباء الرعائيين الذين يدركون أن “كونك بشرًا” ليس مسألة درجة، تماماً كما أن “كونك طبيعيًّا” ليس مسألة تسلسل هرمي- لا يسعون لوضع أطفالهم في رتب متفاوتة، ومع ذلك فهم يدركون في الوقت نفسه أن هناك اختلافات كبيرة في المناظير تجعل نسب الأشياء تختلف تبعًا للمنظور. ولهذا فإن أولئك الذين يرعون يكافحون باستمرار لتحقيق التوازن بين هذا التكافؤ الوجودي الذي يرى أن جميع الكائنات على مستوى واحد وبين تلك الاختلافات المنظورية في التناسب والفروق الدقيقة في الإدراك التي تنتج عن تمييزنا العاطفي.

ومع ذلك لا أشعر أنني في وضع يسمح لي بتقديم تعريف اصطلاحي للتفكير الرعائي كأن أزعم بأن المعايير التي قدمتها للتفكير الناقد يمكن دمجها لتشكيل تعريف لهذا الجانب من الإدراك. إن ما يمكنني تقديمه هو جرد لمجموعة من أنواع التفكير الرعائي التي لا أراها جامعة أو غير متداخلة، ومع ذلك فهي سمات بارزة ومن الأفضل أن نحيط بها علمًا.

a. التفكير التقديري (Valuational Thinking)
ذكر جون ديوي (John Dewey) أنه يجب التفريق بين التكريم والتقييم، وبين الإعجاب والتثمين، وبين إضفاء القيمة (Valuating)والتقدير “Evaluating”. فإضفاء القيمة (Valuating) يعني أن تقدِّر وأن تحتفي وأن تعتز، على حين أن التقدير (Evaluating) يُعنى بحساب القيمة أو الثمن. الفرق بين التكريم والتقدير وكذلك بين المصطلحات المتقابلة المشابهة، هو اختلاف في الدرجة، فلا يوجد تكريم لا يحتوي على بذرة تقدير على الأقل، وكذلك لا يوجد تقدير لا يحتوي على بذرة تكريم على الأقل.

عندما نكرِّم ونعجب ونعتز ونقدِّر، فإننا ننخرط في تقدير شيء ما من أجل العلاقات التي يؤسسها. إن تقدير الهدية يعني تقدير ما تمثِّله من مشاعر يكنها المُهدِي لنا. تُعَدُّ الهدية ذات قيمة لأنها تنشئ روابط بيننا وبين المُهدِي (أي بين سلوك ومواقف وعواطف كل من المُهدِي والمُهدى إليه) وهي روابط قد يصعب تأسيسها بأي طريقة أخرى.

لذا فإن تقدير العمل الفني يعني العثور على البهجة في ملاحظة العلاقات (بين أجزاء العمل وفي القطعة كاملة) التي تكوِّن العمل. إن تقدير التصوير السينمائي للفيلم يعني الاستمتاع بالعلاقات الصورية التي توفرها الكاميرا للمشاهد، وكذلك بالعلاقات بين التصوير والتمثيل والإخراج والموسيقى والجوانب الأخرى للفيلم. وبالمثل، فإن اعتبار وجه ما جميلًا أو لافتًا يعني الإعجاب والاستمتاع بالعلاقات بين سماته وبما في السمات نفسها من علاقات. إذا تحتم الأمر فيمكننا دائمًا الاستشهاد بأن هذه العلاقات هي أسباب الإعجاب الذي نشعر به.

أن تقدِّر شيئًا يعني أن تركز على ما يهم. بغض النظر عمَّا يبدو في كلامي من دور: في أن أهمية الشيء تنبع من تركيزنا عليه، فهذا صحيح إلى حدٍ ما فقط. الأشياء في الطبيعة ليست أفضل أو أسوأ من الأشياء الأخرى، ولكن عندما نقارنها ونفاضلها من وجهات نظر معينة، فإننا ننتبه لها ثم نقدِّر أوجه التشابه والاختلاف بينها. البحيرة في حد ذاتها ليست أفضل ولا أسوأ من المحيط، والتلال ليست أفضل ولا أسوأ من الجبال. إننا نختبرها بطريقة علائقية فقط في سياقات معينة (أي قيميًّا). وبهذا المعنى، يهتم القيِّمون الفنيِّون بالأعمال الفنية، ويهتم الأطباء بالصحة، ويهتم رجال الدين بالروح: هؤلاء الأشخاص رعائيون لاعتنائهم بالأمور التي تهمهم، وفعلهم هذا ليس مجرد عرض “عاطفي”، بل له قيمة إدراكية حقيقية.

b. التفكير العاطفي (Affective Thinking)
طور علماء النفس ثلاثة نماذج لفهم العلاقة بين العاطفة والإدراك: الأول يرى العاطفة نتيجة للعمليات الإدراكية، ويرى الثاني أن العاطفة هي السبب والإدراك نتيجة لها. والنموذج الثالث (الشرود العاطفي الإدراكي) يصور العلاقة بين العاطفة والإدراك على أنها “تفاعل معقد ومتبادل للعمليات -على غرار الشرود- يختفي ويعاود الظهور”.

في حين أن نظرية الشرود أقرب إلى الموقف المطروح هنا (وهو أن العاطفة يمكن أن تكون نوعًا من أنواع التفكير) إلا أن الأمرين ليسا متماثلين. ويظل الخلاف قائمًا حول ما إذا كان يمكن تصنيف العواطف على أنها إدراكية، بأن تكون أمثلة على التفكير على الأقل في بعض الحالات.

انظر في هذا المثال للإيضاح. رأيتَ طفلًا بريئًا يتعرض للإيذاء وشعرت بالسخط. هل يُعَدُّ سخطك تفكيرًا؟ من المؤكد أن سخطك يتضمن وعيًا بأن الإساءة إلى شخص بريء أمر في غير محله، ويتضمن وعيًا إضافيًّا بأن السخط الذي تشعر به له ما يسوغه. من غير المرجح أن ينتج السخط عن حدث اعتيادي معزول، فهو يحتاج إلى سبب. وقد لا يكون السبب قويًّا أو جيدًا، ولكنه سبب وليس دافعًا، وهو جزء من السخط نفسه.

لذا فإن السخط الذي يشعر به المرء هو تنامي إدراكه الأولي بأن شخصًا بريئًا يتعرض للأذى، وكذلك إدراكه أن مثل هذا السلوك غير لائق. ما هو غير مناسب في سياق معين يفتقر إلى المسوِّغ، تتبدى الإساءة غير ملائمة، فيتبدى السخط ملائمًا. والملاءمة هي معيار إدراكي مثلها مثل الترابط المنطقي أو الصلة الوثيقة بالموضوع على سبيل المثال.
وهذا أمر لا يمكن الاستهانة بأهميته في التربية الأخلاقية. ففي كثير من الأحيان تتبع أفعالنا عواطفنا مباشرة. المرء يكره فيتصرف بعدوانية، والمرء يحب فيتصرف بود، وما إلى ذلك. لذا إذا تمكنَّا من تخفيف المشاعر المعادية للمجتمع، فمن المحتمل أن نكون قادرين على تخفيف السلوك المعادي للمجتمع.
هل من الممكن تعليم الأطفال أن يفكروا في مدى ملاءمة عواطفهم؟ الإجابة واضحة إلى حد ما: يساهم الآباء والأشقاء باستمرار في تشكيل النظرة العاطفية للطفل الصغير عند تنشئته. فهم بالمكافأة والتوبيخ يسمحون للطفل بمعرفة أي التعبيرات العاطفية تُعَدُّ مناسبة في سياق معين، وأيها ليست كذلك. (قد تكون مسوِّغاتهم غريبة إلى حد ما: الضحك في الجنازات غالبًا ما يكون مرفوضًا، والبكاء في حفلات الزفاف ليس مرفوضًا). ولكن إن كان تعليم العواطف في المنزل ممكنًا، فيمكن أن يكون تعليم العواطف في المدرسة ممكنًا، وفي الواقع هو موجود في المدرسة.

c. التفكير الفاعل (Active Thinking)
ما قيل آنفًا عن كون العواطف إدراكية، يجعلنا لا نتفاجأ عندما نجد أفعالًا توصف بأنها إدراكية في بعض الأحيان. هناك لغات للإيماءات والحركات الجسدية الأخرى مثل تعابير الوجه. وحتى الفعل الذي ليس له معنى محدد، قد يصبح له معنى ما عند القيام به في سياق مناسب.

بعض المناقشات حول الرعاية فشلت في ملاحظة الغموض الكامن في استخدام المصطلح ليعني رعاية لـ (بمعنى وجود عاطفة ميَّالة تجاه شيء ما) ورعاية (بمعنى الاعتناء أو الاهتمام). وقد نرغب في تمييز هاتين الحاستين بتصنيف الأولى ضمن التفكير العاطفي والثانية ضمن التفكير الفاعل.

لذلك، فإن أحد أنواع التفكير الفاعل هو التفكير القيمي (curatorial)، وهو الحفاظ على ما نعتز به. يحاول الناس الحفاظ على مظهرهم أو شبابهم: فهم يفعلون أمورًا لإنقاذ الأشياء التي يقدرونها من الزمن. ويسعى آخرون إلى الحفاظ على القيم المجردة، كما يسعى المنطقيون إلى الحفاظ على حقيقة مقدمات الحجة في خاتمتها، وكما يسعى المترجمون إلى الحفاظ على معنى عبارة عند نقلها من لغة إلى أخرى.

يتضح نوع آخر من التفكير الفاعل عن طريق الأنشطة المهنية مثل الرياضة. وهكذا فإن لعبة مثل البيسبول تخضع لقواعد دقيقة في بعض النواحي، ولكنها مفتوحة وموجهة بالمعايير في جوانب أخرى. تتطلَّب بعض المواقف سلوكًا تلقائيًّا فقط مثل الابتعاد عن الصفيحة البيضاوية على الأرض بعد الفشل في ضرب كرة البيسبول، وتتطلَّب مواقف أخرى قرارات إبداعية، مثل محاولة القيام بـ (Triple Play). نُسَمِّي هذه الأنشطة “إدراكية” لأنها مثل معظم الأفعال الاحترافية تخضع للقرارات.
هذا يتطلَّب نظرة جديدة لمفهوم الحكم الذي قدمه بوشلر. يرى بوشلر أن كل حكم وقرار يعبِّر عن صاحبه ويقوِّم عالمه. إن رمي كرة البيسبول وطريقة رميها يعبران عنك. وتتأثر طريقة الرمي بأمور أخرى مثل سرعة الرياح واستعداد الملتقط ومهارة الضارب. يُعَدُّ كل فعل تدخلًا يختبر ظروف المرء.

إذن هناك لغة أفعال كما أن هناك لغات كلمات، وإذا كانت معاني الكلمات تتحدد في ارتباطها بالجمل التي تتضمنها، فإن معاني الأفعال تتحدد في علاقاتها بالمشاريع والسيناريوهات التي تجسدها، ويمكن العثور على معانيها أيضًا في علاقاتها مع العواقب التي تنتج عنها، وكذلك في علاقاتها السياقية.

الفعل إذن هو تفكير وقائي ومحافظ، إذ يبذل قصارى جهده للحفاظ على ما هو قائم بالفعل، وهو جهد تدخلي لتغيير ما هو قائم. وفي كلتا الحالتين يمثل الرعاية، فأولئك الذين لا يراعون لا يسعون إلى الحفاظ على تلك الأشياء المهمة ولا يسعون إلى إنشاء أي شيء قد يصبح مهمًّا.

d. التفكير المعياري (Normative Thinking)
هناك كلمة مناسبة هنا فيما يتعلق بالتفكير المتوازي الذي يربط بين التفكير في “ما هو” والتفكير في “ما يجب أن يكون”. وإلى حد ما يتعلق الأمر بالتنشئة الأخلاقية في المنزل وفي المدرسة. فنحن نصر على أن يفكر الطفل في كل حالة رغبة فيما يجب أن يكون مرغوبًا فيه، أي أن يربط المرغوب دائمًا بما هو مطلوب. إن “المطلوب” هو أحد الأمثلة على نتائج التفكُّر في الممارسة الفعلية، لأن التساؤل عن “ما تم القيام به” يجب أن يكون قادرًا على إنتاج مخطط لما “يجب القيام به”، وذلك إذا كان التساؤل مستدامًا بما فيه الكفاية.

هذا الارتباط بين المعياري والفعلي يكثِّف المكون التفكُّري لكل من الفعل والرعاية. الشخص الذي يرعى يهتم دائمًا بالإمكانيات المثالية لسلوك الرعاية، إذ يصبح التفكير في المثل الأعلى جزءًا لا يتجزأ من الاهتمام الذي يوليه المرء لما يحدث في الواقع. وبما أن العنصر المعياري دائمًا إدراكي، فإن عدم انفصاله عن الجوانب الأخرى للرعاية يدعم انتماء جوانب الرعاية للخانة الإدراكية.

إن فقر التجريبية الطائشة Mindless empiricism) ) ينبع من فشلها في النظر إلى أي شيء سوى ما هو موجود، في حين أن فشل العقلانية الطائشة (Mindless rationalism) ينبع من فشلها في النظر إلى أي شيء سوى ما يجب أن يكون، ومع ذلك، فلا يمكن السماح للطلاب بالوقوع في فخ مثل هذه الفئات الخاوية. يجب على أولئك القادرين على التفكير في “من هم” أن يكونوا قادرين على أن يأخذوا في الاعتبار أيضًا نوع الأشخاص الذين يريدون أن يكونوهم، وما يجب أن يكونوا عليه. أولئك القادرون على النظر إلى العالم كما هو، يجب مساعدتهم على التفكير في نوع العالم الذي يريدون العيش فيه ونوع العالم الذي يجب أن يرغبوا في العيش فيه. مثل هذه المهام قد تشغلهم لمعظم حياتهم، ولكنهم سيكونون قد شغلوا وقتهم بما يستحق.

قد كنت أصر على إضافة التفكير الرعائي إلى التفكير الناقد والإبداعي عند تفريع الجوانب الرئيسية للتفكير الأعلى رتبة لسببين رئيسيين: (1) لدى الرعاية ما يعضد كونها عملًا إدراكيًّا على الرغم من أنها تتكون من الأعمال العقلية منخفضة الرؤية (مثل الفحص والتصفية والقياس والتقدير وما إلى ذلك) بدلاً من الأعمال العقلية عالية الرؤية كالاستدلال والتعريف. لكن الجانب الإدراكي لا يقتصر على الأعمال ذات الرؤية العالية وحدها، كما أن أعضاء الجسم الحيوية لا تقتصر على تلك التي تقوم بأنشطة ضخ ضخمة مثل القلب والرئتين. الكبد والكلى عضوان حيويان أيضًا، لأن وظيفتهما ضرورية لحياتنا.

(2) دون رعاية يخلو التفكير الأعلى رتبة من عنصر القيَم. إذا كان التفكير الأعلى رتبة لا يحتوي على تقدير وقِيمية، فإنه يكون عرضة للتعامل مع موضوعاته بطريقة جامدة غير مبالية ودون رعاية، وهذا يعني أنه سيكون غير مبال حتى فيما يتعلق بالبحث نفسه. في محاولتي للدفاع عن التفكير الرعائي لا أقصد بأي حال من الأحوال التقليل من التفكير الناقد والإبداعي تمامًا كما هو الحال في الدفاع عن التفكير التطبيقي، فلن أهدف إلى الاستخفاف بالتفكير النظري. ومع ذلك، فأنا أدرك أن الثنائية المانوية إلى حد ما للعقلانية/اللاعقلانية هي تلك التي يصر الكثير من الناس على أن يلتزموا بها بشدة، فهم يرون أن الحديث عن إعادة التوجيه نحو المعقولية أسهل بكثير من فعل ذلك.

أميل إلى أننا نحس بأنواع من العواطف عندما يكون علينا اختيار أمر ما أو تقريرُ آخر، وهذه الاختيارات والقرارات هي المحدِّدات الرئيسية للحكم. إن عمل العاطفة في التفكير الذي يؤدي إلى الحكم وعملها في التفكير الذي يؤدي إلى الابتعاد عنه، مهمين جدًّا ومن الصعب علينا التمييز بينهما. وبصراحة، إن التمييز بينهما صعب حقًّا، وقد يكونان متطابقين تطابقًا كبيرًا، وفي هذه الحالة من المقبول القول بأن العاطفة هي الاختيار، وهي القرار، وهي الحكم. وهذا النوع من التفكير هو ما يمكن أن نطلق عليه تفكيرًا رعائيًّا عندما يتعلق الأمر بما هو مهم

حمل مقالة/ الرعاية بصفتها نوعًا من أنواع التفكير