الفيلسوف معلِّمًا: عن الحساسية الفلسفية
جانا موهر لون Jana Mohr Lone

Lone, J. M 2013, ‘ Philosophical sensitivity’, Metaphilosophy, Vol. 44, n.1-2, pp. 171-186.

ترجمة: إلهام حسين

تدقيق: منى عبد الله

نُشرت المقالة بعد الحصول على الإذن الخطي من المؤلف

“جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن المؤلف وليست مسؤولية معهد بصيرة أو دار بصيرة للنشر أو أي جهات أخرى متصلة بها من الجهات والهيئات الثقافية التنظيمية أو المانحة وغيرها”

——————————————————————————————————

:الملخص

على الرغم من كثرة الكتابات المتعلقة بطبيعة الفلسفة وتعريفها كتخصص فإن أساليب تطوير ملكة التفكير الفلسفي لم تحظ بالاهتمام الكافي. يهدف هذا البحث لتطوير مفهوم “الحساسية الفلسفية”، وهي قدرة إدراكية تسهّل وعينا بالأبعاد الفلسفية للتجارب. استناداً إلى مفهوم القدرة الإدراكية الأخلاقية الذي طوّره أرسطو، فإن الحساسية الفلسفية تنشأ عند معظم الناس بميلهم الطفولي للتفكير في ألغاز الحياة الأساسية، وإذا ما نُميّت هذه القدرات بالتدريب المستمر، يصبح انتباهنا للسمات الفلسفية في الحياة العادية طبيعيًا وتلقائيًا. فكما يلاحظ الشخص الممتلك لحساسية جمالية صفات معينة لا يراها الآخرون، تؤدي الحساسية الفلسفية إلى تطوير طريقة خاصة لرؤية العالم.

الكلمات الدلالية: الذات الفلسفية، الحساسية الفلسفية، فلسفة ما قبل الكلية Pre-College Philosophy، تعليم الفلسفة.

———————————————————————————————————

)تكمن مشكلة الفلسفة والحياة بشكل عام في ربط المفاهيم العامة الكبرى بالتفاصيل الدنيوية “العبثية” لوجود الإنسان العادي.( (Murdoch 1992, 146)

———————————————————————————————————-

مقدمة
كُتب الكثير عن طبيعة الفلسفة وعن تعريفها كتخصص إلا أن بحوثًا قليلة درست القدرة على استكشاف الأسئلة أو إطلاق الأحكام الفلسفية أو طرق تنمية هذه القدرة وأهميتها. وقد اتضح لي من تعليم الفلسفة لطلاب ما قبل الكلية أن التفكير الفلسفي يظهر في كثيرٍ من الأحيان في سنٍ مبكرة، وبطرق مختلفة، مما دفعني للبحث في طبيعة هذه القدرة وأفضل الوسائل لتنميتها.

وتتجلى أهمية هذه القضية في ضوء الاهتمام المتزايد بإدخال الفلسفة إلى مناهج المدارس الابتدائية والثانوية. وفي ظل هذا الاهتمام أنشأت مجموعة من أساتذة الفلسفة وطلاب الدراسات العليا، من حوالي اثنتي عشرة مؤسسة، برامج توعية بالفلسفة، ونوادٍ للفلسفة لمرحلة ما قبل الكلية، وبرامج صيفية. وعملوا ميسرين في صفوف الفلسفة للمراحل الابتدائية والمتوسطة والثانوية، كما نظموا ورش عمل لتدريب معلمي المدارس للمراحل k-12 على تعليم الفلسفة.

ولكن متطلبات تعليم الفلسفة بفعالية غير واضحة؛ فعلى المستوى الجامعي يتطلب تدريس الفلسفة الحصول على درجة الدكتوراه أو التسجيل في برنامج الدكتوراه في الجامعة نفسها، أما تدريس الفلسفة في كليات المجتمع فيتطلب درجة ماجستير في الفلسفة، إلا أن معلمي الفلسفة للمراحل الثانوية والابتدائية لا تُطلب منهم حاليًّا شهادات كهذه، وهناك حاجة لإنشاء هيكل ترخيص لمعلمي فلسفة ما قبل الكلية. ولا يسعنا أن نذكر في هذا البحث كل ما يحتاجه المعلمون لتعليم الفلسفة بكفاءة في المراحل المختلفة، غير أن ما يهمني بحثه هو الصفة التي أظنها ضرورية لتعليم الفلسفة في جميع المراحل: وهي القدرة على التساؤل والتفكير في الأسئلة غير المحسومة المتعلقة بالحالة البشرية والعالم الذي نعيش فيه. وأُسمّي هذه القدرة: “الحساسية الفلسفية”.

تبدأ الحساسية الفلسفية مع الميل الطبيعي الذي يملكه معظم الأطفال للتفكير في الألغاز الكامنة وراء التجارب والسلوكيات. حيث يهتم معظم الأطفال بما أسماه غاريث ماثيوز Gareth Matthews “الأسئلة الفلسفية العميقة حد البساطة” (Matthews 1992, 3). ومن أجل تنمية هذا الميل لدى الأطفال، على المعنيين به تطوير درجة معينة من الحساسية الفلسفية.

سأذكر باختصار في هذا المقال أسس مفهوم هذه القدرة، ثم سأصف بعض الطرق التي يمكن أن يتبعها المعلمون وغيرهم لتطويرها، وسأناقش المهارات العلمية التي يحتاجها المعلمون لتيسير جلسات الفلسفة لمراحل ما قبل الكلية، ثم سأختتم بمناقشة الغايات التي من أجلها يجب على الفلاسفة والمعلمين الاهتمام بالحساسية الفلسفية وبإدخال الفلسفة إلى حياة الشباب.

الحساسية الفلسفية: مفهوم نظري.
بشكل عام، أرى أن الحساسية الفلسفية نوعٌ من أنواع القدرة الإدراكية، بالمعنى الأرسطي للقوى الطبيعية التي يمكن تطويرها بمرور الوقت وبالتدريب. يرى أرسطو أن تطوير مهارة التمييز الأخلاقي يؤدي إلى المعرفة الحدسية بأهم جوانب المشاكل الأخلاقية المعقدة. وتؤدي هذه القدرة الإدراكية التي تعززها التجربة إلى زيادة قدرتنا على ملاحظة السمات الأخلاقية التي تميز تجاربنا، وكما يقول أرسطو “بنَت التجارب عيونهم، فصحّت رؤيتهم” Nicomachean Ethics (Aristotle 2002, 1143a25-b 14). وكلما طوّرنا الوعي الأخلاقي، سهُل التمييز بين المهم وغيره في أي موقفٍ أخلاقي.

وبالمثل، تنطوي الحساسية الفلسفية على إدراك الأسئلة العامة المجردة التي تتخلّل الوجود البشري، حيث تسمح هذه القدرة عند تنميتها بتمييز الجوانب المهمة فلسفيًّا للمواقف أو القضايا؛ وذلك باختيار جوانب معينة وإنشاء روابط بينها، وبهذه الطريقة تُعطى المدركات شكلًا فلسفيًّا. وكما في القدرة الإدراكية الأخلاقية عند أرسطو، تتطوّر الحساسية الفلسفية بالتدريب وبمرور الوقت، حيث تنمو بالتعلّم والتجارب والاهتمام. وسأتناول تنمية هذه القدرة بالبحث لاحقًا في هذا المقال.

يؤكد أرسطو في كتابه الميتافيزيقيا Metaphysics أن “كل البشر بطبيعتهم يسعون للفهم” (21a980, 1960). ويسعى معظم الأطفال الصغار غريزيًّا لتصنيف العالم في محاولة لفهم غرابته. وبمجرد تمكنهم من صياغة الأسئلة يبدؤون التساؤل حول الوجود البشري وطبيعة الواقع، وهذا بداية ما أصفه بالذات الفلسفية: ذلك الجزء منا الذي يدرك غموض الجوانب الأساسية لوجودنا. لماذا نحن هنا؟ ما معنى الحياة؟ ما جوهر الهوية؟ كيف بدأ كل شيء؟ كيف نعرف أننا لا نحلم؟ لو سألت الفلاسفة عن سبب لجوئهم للفلسفة، فسيشير كثيرٌ منهم إلى وقتٍ ما في الصبا بدأت فيه هذه الأسئلة بالسيطرة على أفكاره.

تنبثق الذات الفلسفية من القدرة البشرية على التساؤل عن التجارب والأفكار المتعلقة بها. هذا الجانب من الذات مفتون بتعقيدات الحياة اليومية، وبالمعنى الأعمق للمفاهيم العادية التي نستخدمها، ويتجلى ذلك في الميل لطرح الأسئلة عنها. لقد اعتدنا الاعتراف بأهمية تنمية الذوات الجسدية للأطفال، والذوات الفكرية، والذوات الأخلاقية، والذوات الاجتماعية والعاطفية، إلا أننا لا نُولي اهتمامًا كبيرًا بتنمية الذوات الفلسفية، وبالتالي تبقى هذه الذوات غير مكتملة النمو، وتصل للأطفال رسالة مفادها أن التفاصيل المحسوسة للحياة أهم من التجريدات الفكرية، وأنه لا يوجد وقت للتفكير الفلسفي، وأن هذه الأسئلة تافهة (أو شديدة الصعوبة) ولن توصلنا إلى أي إجابة، أو أن بإمكان الدين فقط الإجابة عنها جميعها. وهذه خسارة؛ إذ أن الانخراط المبكر في التفكير التخميني يشجع على اكتساب عادة التفكير الناقد، كما يعزز التفكير المستقل.

يتطلب تطوير الذات الفلسفية تنمية القدرة على الحساسية الفلسفية. ففي حين يملك معظم الأطفال جانبًا من جوانب الذات الفلسفية، إلا أنهم لن يصلوا في النهاية لنفس مستوى الكفاءة في التفكير الفلسفي. ويعتمد هذا التفاوت على مستوى الاهتمام الفردي في استكشاف البعد الفلسفي للتجربة، وعلى التدريب والتعليم الذي تلقاه كل منهم. يميل الناس في معظم الحالات إلى تنمية القدرات التي يبدو أنهم يمتلكون مهارات طبيعية فيها، وأولئك الذين ينجذبون إلى رؤية فلسفية للحياة من المرجح أن يميلوا أكثر لتطوير مهارة التساؤل الفلسفي.

تبدأ الحساسية الفلسفية بالاهتمام بالأسئلة غير المحلولة التي ترتبط بكل جانب من جوانب حياتنا. ويؤدي التفكير في هذه الأسئلة إلى زيادة وعينا بأن لا علاقة ضرورية تربط مظاهر الأشياء بحقيقتها، ويؤدي هذا إلى التعرف على أسئلة أخرى ذات علاقة. وكلما بحثنا في هذا البعد الوجودي، ظهرت لنا أسئلة فلسفية أكثر وأكثر. ثم إن الحساسية الفلسفية التي نمت بمرور الوقت تقوي قدرتنا على ملاحظة التعقيدات أسفل السطح. وكما أن الإدراك الأخلاقي عند أرسطو يتطلّب التعلُّم من أجل تحديد الجوانب الأخلاقية المهمة لحالةٍ ما؛ فإن تطوير الحساسية الفلسفية ينتج عنه زيادة القدرة على تمييز الجوانب الفلسفية لمواقف معينة، بحيث تصبح هذه القدرة تلقائية. وتمامًا مثل القدرات الإدراكية الأخرى (أناقش الحساسيات الجمالية والطبيعية لاحقًا) ينتج عن تطوير هذا النوع من الحساسية زيادة الوعي بسمات معينة من تجاربنا لن تكون ملحوظة لنا بخلاف ذلك بطريقة أخرى.

يرتبط ما أسميه الحساسية الفلسفية من بعض النواحي بمفهوم المربي هوارد جاردنر Howard Gardner للذكاء الوجودي، والذي يعرّفه بأنه “ميل لطرح أسئلة حول الحياة والموت والحقائق المطلقة والتفكير فيها” (Gardner 1999, 60-64). يعرّف غاردنر الذكاء الوجودي بأنه “القدرة على تحديد مكانة المرء بالنسبة لأبعد نطاقات الكون – اللانهائية والمتناهية في الصغر – والقدرة على تحديد مكانة المرء بالنسبة للسمات الوجودية للحالة الإنسانية، مثل مغزى الحياة، ومعنى الموت، والمصير النهائي للعالمين المادي والنفسي، والتجارب العميقة كالحب والانغماس التام في عمل فني” (60). تتضمن الحساسية الفلسفية الوعي بما يسميه غاردنر الأسئلة الوجودية (المتعلقة بالحياة والموت والواقع) بالإضافة إلى القضايا الفلسفية الأخرى، مثل: الأخلاق والمعرفة والفن والجمال والعدالة والحرية وغيرها. تنبثق هذه الأسئلة من التفكير في الوجود البشري والعالم الذي نعيش فيه، وتلعب دورًا أساسيًّا في التفكير في معنى الحالة البشرية على الرغم من عدم احتمالية التوصل إلى إجابة نهائية لأيٍّ منها.

ما الذي يجعل سؤالًا ما فلسفيًّا إذًا؟ ليس من الغريب أن يختلف الفلاسفة حول إجابة هذا السؤال. فمن الصعب وضع حدود للأسئلة الفلسفية، إذ لا توجد قائمة محدودة من الأسئلة الفلسفية. إن ما يميز البحث الفلسفي هو النهج المتّبع لاستكشاف السؤال وليس مضمون السؤال ذاته. تحمل بعض الأسئلة احتمالية أكبر للتحول إلى حوار فلسفي ولكن هذا لا يعني اقتصار الأسئلة الفلسفية على مجال معين، بل يمكن طرح أسئلة فلسفية حول أي جانب من جوانب الحياة تقريبًا. لا توجد حدود للأسئلة التي يمكن أن تلهم الاستكشاف الفلسفي، ومن نواحٍ عديدة تؤثر الإجابات أكثر من الأسئلة في تحويل السؤال إلى تبادلٍ فلسفي. ويمكن أن يُلهم أبسط الأسئلة حواراً فلسفيًا، وقد لا تبدو هذه الأسئلة لأول وهلة واعدة من الناحية الفلسفية. فمن ضروريات الحساسية الفلسفية القدرة على التعرف على القضايا الأعمق الكامنة وراء الأسئلة والتعليقات، ورؤية الإمكانات الفلسفية عندما لا تكون واضحة.

كثيرًا ما أطلب من طلابي الجامعيين مواصلة طرح أسئلة أكثر تجريدًا حول الموضوع المطروح للبحث (كالصداقة على سبيل المثال: لماذا تعتبرها صديقتك؟ ما الذي يجعل شخصًا ما صديقًا؟ ما الصداقة؟) يمكن أن تقود هذه الأسئلة إلى محادثة فلسفية شيقة. قد يطرح أحد الطلاب مثلًا سؤالًا حول عدالة القانون الذي يمنع تصويت الأطفال الذين تقل أعمارهم عن ثمانية عشر عامًا. تؤدي الحساسية الفلسفية إلى ملاحظة العديد من الخيوط الفلسفية خلف هذا السؤال: ما العدل؟ ماذا يتطلب العدل؟ هل يعدّ التمييز ضد مجموعات معينة ظلمًا دائمًا؟ ما الطفل؟ ما القدرات اللازمة لاتخاذ قرارات جيدة وهكذا.

هناك بالطبع أمثلة نموذجية للأسئلة الفلسفية، والأسئلة التي لا يحتمل أن تؤدي إلى حوار فلسفي. يمكن تحديد ما إن كان سؤالٌ ما غير فلسفي – ظاهريًّا على الأقل – بالتساؤل عن إمكانية حله بالاستعانة بالحقائق التجريبية، فلو أمكن حله تجريبيًّا فلا يُعدّ سؤالًا فلسفيًّا مهما بلغت صعوبته. مثلًا: “كم عدد حبات الرمل التي كانت موجودة على شاطئ ريثيمنو في جزيرة كريت عام 1645؟” لا يُعدّ هذا السؤال فلسفيًّا على الرغم من صعوبة التوصل إلى إجابة نهائية عليه. وفي المقابل فإن أسئلة مثل: “كيف يمكننا معرفة أي شيء؟” أو “ما الذي يجعل عملًا ما صوابًا؟” تُعدّ أسئلة فلسفية رمزية.

تتضمن العديد من المشكلات الفلسفية تخصصات مختلفة كالأسئلة المختلطة، مثل: “ما العقل؟” أو “ماذا يعني أن تكون على قيد الحياة؟” تنتمي هذه الأسئلة إلى الفلسفة والعلم، مع عدم وجود طريقة واضحة لوضع حد فاصل بين الفلسفي والتجريبي. وغالبًا ما يكون هناك ارتباط بين الأسئلة الفلسفية والتجريبية يصعب معه تحديد الأخيرة في كثير من الحالات، بل إن كثيرًا من الأسئلة الفلسفية غير قابل للاستكشاف بطريقة ذات معنى دون الرجوع إلى الحقائق التجريبية (مثلاً: يتطلّب استكشاف جواز عقوبة الإعدام أخلاقيًّا بعض المعرفة بعواقبها العملية).

إن المشاكل الفلسفية هي التي لا يُرجّح حلها بشكل نهائي، ولا يعني هذا أنها أسئلة غير قابلة للإجابة. حيث يعتقد المعلمون والطلاب أحيانًا، في بداياتهم، أن الفلسفة تعني “أسئلة غير قابلة للإجابة”، ويفترضون أن الحوارات الفلسفية تتضمن ببساطة تعبير الطلاب عن آرائهم حول مشكلة فلسفية ما مع اعتبار كل الإجابات الممكنة متساوية في القيمة إلا أن هنالك فرقًا واضحًا بين السؤال غير القابل للإجابة والسؤال الجدلي. فالسؤال غير القابل للإجابة هو السؤال الذي ليس له إجابة –كيف يبدو العازب المتزوج؟ الأسئلة الفلسفية غير محسومة ولكنها ليست غير قابلة للإجابة. فالمشكلات الفلسفية لها إجابات ولكنها ليست نهائية ولا مفروغ منها فبمجرد أن تصبح كذلك، تتوقف المشكلة عن كونها فلسفية.

إن كون الأسئلة الفلسفية غير محسومة لا يعني عدم إمكانية تقييم الإجابات المحتملة لهذه الأسئلة؛ فبعض الإجابات أفضل من غيرها اعتمادًا على المنطق المُعطى لتفسيرها. وكلما فكرنا أكثر في قضية ما وناقشناها، تتضح لنا القرارات الأقل إقناعًا من الواعدة أو المقبولة مبدئيًّا. عند مناقشة قضية فلسفية وتحليلها يُحرز التقدم باستبعاد بعض الإجابات باعتبارها ضعيفة الدلائل وقبول بعضها الآخر على أنها صحيحة مؤقتًا، مع ضعف احتمال التوصل إلى نتيجة نهائية، وكما يقول راسل: “إن قيمة الفلسفة في الواقع تكمن إلى حد كبير في انعدام اليقين” (Russell 1997, 156).

تستلزم الحساسية الفلسفية في كثير من الأحيان التفكير في الأسئلة العامة والمجردة، لكنها تُثار عادة في ملامح الحياة الخاصة. وتؤدي منطلقاتنا المتفردة إلى ملاحظة كلٍّ منا القضايا التي تولّدها وجهات نظرنا الفردية في الكون الفلسفي. إن القدرة على اكتشاف الأسئلة المجردة في الجوانب العادية جدًّا للتجربة اليومية، ورؤية الأمور “المألوفة بطريقة غير مألوفة” كما قال راسل (Russell 1997, 157) من ضروريات الحساسية الفلسفية، وهي تتضمن الاهتمام الشديد بتفاصيل المواقف والطرق التي تشكِّل بها هذه التفاصيل المحتوى الفلسفي.

تتجلى الحساسية الفلسفية أيضًا عند قراءة الأدب في القدرة على استخلاص أسئلة الفلسفة التي تثيرها تفاصيل النصوص المختلفة. فأدب الأطفال، على سبيل المثال، غني بالإيحاءات الفلسفية. وبمجرد معرفة الأسئلة والألغاز الفلسفية الكامنة وراء جزء كبير من أدب الطفل، تسْهُل رؤيتها عند قراءة هذه الكتب أو عندما تظهر في أي مكان، فالحساسية الفلسفية هي القدرة على ملاحظة واستخلاص هذه الأسئلة والتأمل فيها.

في مقطع رائع عن القراءة في الجزء الأول من رواية البحث عن الزمن المفقود لمارسيل بروست: جانب منازل سوان، يصف الراوي الجلوس خارجًا:

“حينما كنت أبصر أمرًا خارجيًّا فإن شعوري بأني أراه كان يقوم بيني وبينه فيغلفه بقشرة روحية رقيقة تحول دون أن ألمس مادته لمسًا مباشرًا، فقد كانت تتبخر نوعًا ما قبل أن أتصل بها مثلما لا يلامس الجسم الملتهب رطوبة غرض مبلل تقربه منه لأنه يعمل دومًا على أن تسبقه منطقة تبخر. وعلى هذه الشاشة التي تلونها حالات مختلفة يبسطها الوعي فيّ بينما أقرأ وتتراوح ما بين الرغبات الخفية في صدري أكثر ما يكون الخفاء والمشاهدة الخارجية للأفق الذي يمتد أمام ناظريّ خلف سور الحديقة، فإن أول ما يجول في صدري من سرٍ دفين، القبضة التي تتحرك دون انقطاع وتحكم كل ما عداها، إنما كان إيماني بثروة الكتاب الذي أقرؤه على الصعيدين الفلسفي والجمالي ورغبتي في امتلاكها أيًّا كان هذا الكتاب…

فمهما بلغ عمق تعاطفنا مع الكائن الحقيقي فإنما ندركه أغلب ما ندرك عن طريق حواسنا، يعني أنه يظل غير شفاف في نظرنا ويبدي ثقلًا لا تستطيع حساسيتنا رفعه. فإن حلّت به مصيبة فلا يمكن أن نتأثر إلا في جزء صغير من الفكرة الكلية التي نحملها عنه، بل هو لا يستطيع أن يتأثر بدوره إلا في جزء من الفكرة العامة التي يحملها عن نفسه. وكانت لقيّة الروائي أن ساورته فكرة أن يُحلّ محل هذه الأجزاء التي لا تنفذ إليها الروح كمية مساوية من أجزاء غير مادية، أي من تلك التي تستطيع الروح تمثّلها. وما هَمّ مذ ذاك أن تبدو أعمال هذا النوع الجديد من الكائنات وتبدو انفعالاتها وكأنها حقيقية بما أننا جعلناها قطعة منّا…” (Proust 2002, 86).

يظهر مارسيل حساسية فلسفية، جالسًا في حديقة يقرأ رواية، ثم ينظر حوله، وبينما يدرك الأشياء من حوله، يتأمل الطريقة التي يشوِّه بها إدراكه ماهية الأشياء. ويتساءل عن العلاقة بين المظهر والواقع. وبالتفكير في الكتاب الذي يقرؤه، وفي فعل القراءة، يحلِّل الفرق بين فهمنا للآخرين من خلال الروايات والطريقة التي يمكن أن تساعدنا بها الروايات في فهم السلوك والعاطفة بطرق لا تستطيع علاقاتنا مع الأشخاص الحقيقيين توفيرها.

يتعامل مارسيل مع ما يراه بطريقة فلسفية. حيث ينتقل من التجربة الملموسة (الجلوس في الخارج وقراءة كتاب) إلى قضايا أكثر جوهرية وتجريدية حول الوجود، والإدراك والمعرفة، وفهم العقول الأخرى، وعلم الجمال. ما العلاقة بين الطريقة التي يظهر لنا بها العالم وحقيقته؟ ما العلاقة بين فهمنا للآخرين وحقيقتهم؟ ما الغرض من قراءة الأدب؟ تسعى هذه الأسئلة إلى فحص فهمنا العادي للعالم واستكشاف الافتراضات التي يقوم عليها هذا الفهم.

تتشكَّل الحساسية الفلسفية، مثل مفهوم أرسطو للإدراك الأخلاقي، من خلال اهتمامات الفرد ومنظوره الخاص: يدرك الشخص الحساس فلسفيًّا العالمَ بطريقة تتشكَّل عبر هذا الإدراك (على غرار الذكاء الوجودي لغاردنر، إن صح التعبير). ولا ترتبط هذه القدرة الإدراكية بالضرورة بالشخصية الأخلاقية للفرد كما يرتبط بها الإدراك الأخلاقي، ولكن الحساسية الفلسفية تشبه الإدراك الأخلاقي من حيث أنها تعكس المهارات الفردية للشخص وطريقة فهمه للعالم. إذًا، تمتد الحساسية الفلسفية عبر مجموعة واسعة من وجهات النظر، مما يعني انتفاء شرط أن يرى شخصان حساسان فلسفيًّا نفس القضايا في موقف معين؛ فقد ينتج عن موقف واحد وجهات نظر متعددة من قبل أفراد متساوين في الحساسية الفلسفية طوروا هذه الحساسية بشكل مختلف نتيجة لتاريخهم المميز. ولكن كليهما سيملكان القدرة نفسها على التعرف على الافتراضات ووجهات النظر الفلسفية الكامنة وراء الأقوال والأفعال، والانفتاح على الأسئلة المتعلقة برؤاهم وافتراضاتهم الفلسفية.

هناك حساسيات أخرى تشكِّل قدرات إدراكية غير أخلاقية مماثلة للحساسية الفلسفية. على سبيل المثال، يمكن تطوير حساسيات معينة للعالم الطبيعي (الحساسية الطبيعية) والبعد الجمالي للحياة (الحساسية الجمالية). تنطوي الحساسية الطبيعية على إدراك الفروق متعددة الطبقات بين الكائنات الحية والقدرة على رؤية العلاقات والتفاصيل والتغيرات في العالم الطبيعي التي تخفى على الكثير منا. على سبيل المثال، يلاحظ عالم الطبيعة اختلافات طفيفة بين النباتات، والصخور، والحشرات، والزهور مما يستعصي على غير المتمرس. وسيرى شبكة معقدة من الكائنات الحية المترابطة، يصعب أن يلاحظها من لم يدرب هذه القدرة. وبالمثل، ينسجم الشخص الذي يملك حساسية جمالية مع البعد الجمالي للحياة، ويكون قادرًا على فهم ميزات الموسيقى أو الفن المرئي أو الرقص أو الوسائط الفنية الأخرى التي لا يدركها من لم يتدرب على هذه الأمور. عند الاستماع إلى الموسيقى مثلًا، يميز الموسيقار صفات معينة تخفى على باقي الناس، ويتعرف الناقد الفني بمعونة الخبرة على خصائص اللوحات والصلات بين عناصرها والتكوين ككل، وهي أمورٌ تصعب على الآخرين ملاحظتها.

تتشكَّل هذه القدرات الإدراكية (الفلسفية والطبيعية والجمالية) من القدرة على فهم سمات التجارب التي لا تتضح من دون تدريب. إنها طريقة مميزة لرؤية العالم. فعند اكتسابنا حساسية فلسفية، نصبح واعين للأبعاد الفلسفية لأقوال الناس وأفعالهم بطرق يفشل الآخرون في رؤيتها، ملاحظين فروقات التوجهات الفلسفية الكامنة خلف كثير من الأقوال والأفعال. على سبيل المثال، أشرنا سابقًا عند الحديث عن الحساسية الطبيعية إلى “العالم الطبيعي”، وهي عبارة تشير إلى النباتات والحيوانات ومختلف مظاهر الطبيعة. ولكن ما المعنى الفعلي لكلمة “طبيعي”؟ يميل الناس إلى استخدام هذا المصطلح للإشارة إلى الأجزاء التي لم يخلقها البشر من العالم. ولكن ألا يعتبر البشر “طبيعيين”؟ ماذا عن الطعام أو الزهور التي يزرعها البشر: هل تعتبر طبيعية؟ وهكذا.

أشار أرسطو إلى أننا عندما نبلغ الفضيلة، نزداد فضيلة – أي أن الفضيلة تنمِّي نفسها (4a27-b1104, 2002 على سبيل المثال). وبنفس الطريقة التي يطوِّر بها الأشخاص حساسية طبيعية أو جمالية تنمو بمراقبة العالم الطبيعي أو الاستماع إلى الموسيقى وعزفها (أو بالنظر إلى الفن المرئي وصنعه، وما إلى ذلك). كذلك كلما زاد الوعي الفلسفي يتسع نطاق الملاحظة والاستكشاف. وبينما ننمِّي هذه القدرة عبر التساؤل عن تجاربنا وعن طبيعة الواقع، والمناقشات مع الآخرين، والقراءة، والتفكير، تتعمق حساسيتنا الفلسفية. ومثل علماء الطبيعة والفنانين والموسيقيين ونقاد الفن والموسيقى، سنكون عندها قادرين على مساعدة الآخرين على ملاحظة الجوانب الفلسفية لمواقف معينة.

كيف ننمِّي الحساسية الفلسفية؟
بالنسبة لأرسطو، يعد التعوّد بالممارسة والاقتداء ضروريًّا لتطوير قدراتنا الأخلاقية، فالتجربة مطلوبة لفهم الأهمية الأخلاقية لمواقف معينة، كما أنها تنمِّي المهارة. وكذلك الممارسة والتدريب ضروريان لتنمية قدرات الفهم للأبعاد الفلسفية للتجربة، وكلما فكرنا أكثر في الأسئلة العميقة التي تثيرها الحياة اليومية زادت مهارتنا في ذلك. يمكن حصول الممارسة والتدريب بطرق متعددة، مثل: الانخراط في محادثات فلسفية منظَّمة، وقراءة الفلسفة، والاستماع للمحاضرات الفلسفية، ومراقبة الآخرين أثناء تيسير الحوارات الفلسفية. وتعدّ النماذج ضرورية لهذه العملية (كالفلاسفة القدماء والمعاصرين، ومعلمي الفلسفة) وكذلك بعض الأدوات المفاهيمية الأساسية.

لا يعني تطوير الحساسية الفلسفية تعلُّم مجموعة من القواعد حول ظهور الأسئلة الفلسفية وكيفية التعامل معها. وكما هو الحال مع مفهوم أرسطو للإدراك الأخلاقي، لا توجد إجراءات تخص التعرف على الأسئلة الفلسفية والتصدي لها. (see, e.g., McDowell 1996, 23, and Nussbaum 1990, 54-105). فليس هناك مخطط يوضح وقت وكيفية اكتشاف المشاكل الفلسفية ولا هناك قائمة بجميع الأسئلة الفلسفية المحتملة. ولكن الحساسية الفلسفية مثل الإدراك الأخلاقي لأرسطو، تنطوي على تطوير طريقة للرؤية. ومثل اعتياد الإدراك الأخلاقي، تعمل تنمية الحساسية الفلسفية على تدريب قدراتنا الإدراكية. ويتغير فهمنا للعالم تدريجيًّا، حيث يمكِّننا التعليم والتجربة في التفكير والتساؤل الفلسفي من ملاحظة واستخلاص جوانب من حياتنا كانت ستخفى علينا لولا ذلك.

على الرغم من أن معظم الناس يفكرون في أسئلة فلسفية في طفولتهم، فإن الناس في الولايات المتحدة لا يتلقون أي تعليمٍ رسمي في الفلسفة إلا عند تسجيلهم في مادة الفلسفة في الجامعة؛ لذلك غالبًا ما يكون معلمو ما قبل الكلية المهتمون بتدريس الفلسفة غير مطلعين اطلاعًا كافيًا على الفلسفة، وحتى المطلعين منهم على بعض المعلومات تنقصهم الخبرة عادة في التفكير الجاد في الأسئلة الفلسفية؛ حيث أنهم يكتفون بدراسة حجج الفلاسفة القدماء أو المعاصرين. وعلى الرغم من امتلاك كثير من معلمي المراحل الدراسية k-12 لمقومات الحساسية الفلسفية، فإن معظمهم يفتقر إلى التدريب والتعليم والخبرة اللازمة لتنمية هذه القدرة.

ولعل أفضل طريقة تمكِّن المعلمين من تطوير حساسيتهم الفلسفية هي بمشاركتهم في مجتمعات التساؤل الفلسفي، حيث تستكشف الموضوعات الفلسفية في مجموعة تعاونية (سأناقش مجتمعات التساؤل الفلسفي أكثر في القسم 4 أدناه). يعدّ التعرض المكثف خلال عطلة نهاية الأسبوع مثلًا للمواد والمناقشات والأساليب المفاهيمية التي يمكن أن تتضمنها فلسفة ما قبل الكلية تجربة قيمة للمعلمين الطامحين لتدريس الفلسفة لمراحل ما قبل الكلية. ويمكن للمعلمين بعدها البدء في تجربة جلسات الفلسفة في فصولهم الدراسية، ويفضل استمرارهم في حضور فصول أو مجموعات الفلسفة المحلية.

من طرق تنمية الحساسية الفلسفية: القراءة والتفكير في الفلسفة أو أخذ دروس في الفلسفة في جامعة أو كلية قريبة. وهناك العديد من الأعمال الفلسفية للبالغين مثل: “أنا العقل: تأملات وأفكار حول النفس والروح” لدانيال سي دينيت ودوغلاس آر هوفستاتر (The Mind’s I: Fantasies and Reflections on the Self and Soul by Daniel C. Dennett and Douglas R. Hofstadter)، وكتاب “مشاكل الفلسفة” لبرتراند راسل (The Problems of Philosophy by Bertrand Russell)، و “الحياة المُمتحَنة” لروبرت نوزيك (The Examined Life by Robert Nozick)، و “ماذا يعني كل هذا؟” لتوماس ناجيل (What Does It All Mean? By Thomas Nagel) ومجلة “فيلوسوفي ناو” Philosophy Now))، وهي مجلة تستهدف المهتمين بالفلسفة من غير المختصين. وهناك أيضًا الكثير من كتب الأطفال والمراهقين التي تبحث القضايا الفلسفية بطرق مثيرة للاهتمام.

تُعدّ ملاحظة ميسري الجلسات الفلسفية والمشاركة في تحديد الأسئلة الفلسفية والتفكير في القضايا الفلسفية عناصر مهمة لتطوير الحساسية الفلسفية. ولكننا نفتقر إلى أمثلة لهذه الجلسات على مستوى ما قبل الكلية ليراقبها المعلمون. ولكن، في حال وجود جامعة قريبة، يمكن للمعلمين البحث عن صفوف فلسفة تمهيدية صغيرة لملاحظتها. كما توجد الكثير من المواد عبر الإنترنت. مثلًا، يوجد اثنا عشر مقطعًا على الإنترنت لمحاضرات مايكل ساندل في جامعة هارفرد حول العدالة، والتي تتضمن سلسلة من الحوارات حول العدالة والأخلاق. يمكن أيضًا الوصول إلى العديد من محاضرات الفلاسفة المعاصرين عبر الإنترنت. وتعدّ سلسلة حديث الفلسفة Philosophy Talk))، وهي سلسلة إذاعية مدة الحلقة منها ساعة واحدة موجهة إلى عامة الناس، مصدرًا آخر للحوارات الفلسفية الشيقة التي يمكن للمدرسين الاستماع إليها عبر الإنترنت.

تتطلّب تنمية الحساسية الفلسفية وقتًا والتزامًا تمامًا مثل تطوير الاستجابة وتقدير الأدب العظيم أو الموسيقى أو الفن المرئي. حيث تُنمِّي التجربة والتعليم والتدرب على النصوص الفلسفية والمناقشات تقديرًا للبعد الفلسفي للعالم الطبيعي والإنساني، كما تشحذ المهارات الأساسية لمساعدة الآخرين على تطوير هذا الوعي.

تعليم الفلسفة في صفوف المدارس k-12
يوظف معظم معلمو فلسفة ما قبل الكلية، وخاصة للمراحل الابتدائية والمتوسطة، جلسات الفلسفة الصفية باعتبارها ساحات للحوار حول الأفكار والأسئلة الفلسفية، وليس لدراسة أقوال الفلاسفة القدماء أو المعاصرين حول هذه الأفكار والأسئلة. أي أنهم يشركون الطلاب في ممارسة الفلسفة بدلًا من دراستها؛ فبدلًا من قراءة ديكارت وتحليل حججه (أو بالإضافة إلى ذلك) يتدارس الطلاب الأسئلة التي أثارت اهتمام ديكارت من خلال الحوارات الصفية المنظَّمة والتعاونية. ولا يشترط أن يكون المعلمون حاصلين على درجات علمية أو أن يكونوا قد قضوا سنوات في دراسة الفلسفة حتى ينجحوا في تيسير حوارات فلسفة ما قبل الكلية، ولكنهم بحاجة إلى القدرة على تحفيز الحوار الفلسفي والاهتمام به وتشكيل تقدمه، وهذا يتطلب درجة معينة من الحساسية الفلسفية.

ما الذي يجعل حوارًا ما فلسفيًّا؟ يتضمن الحوار الفلسفي من وجهة نظري ثلاثة عناصر: (1) استكشاف الأسئلة المجردة غير المحسومة، (2) الجدل المبني بطريقة تدعم فهم أو حل هذه الأسئلة، (3) الجدل الهادف لتطوير معنى الأفكار المستكشفة أو تعزيز فهم المشاركين لمفهوم أو مجموعة من المفاهيم. (see Lipman, Sharp, and Oscanyan 1980, 28-102).

على المعلم أن يملك القدرة على تعرّف الإمكانات الفلسفية لتعليقات الطلاب وأسئلتهم حتى يكون قادرًا على إلهام حوارٍ فلسفي، وذلك يتطلّب بعض الإلمام بأهم مجالات الفلسفة (نظرية المعرفة، والأخلاق، والميتافيزيقا، وما إلى ذلك) وأن يكون قادرًا على استثارة أسئلة مثيرة لاهتمام الطلاب. وتتمثل إحدى طرق القيام بذلك في بناء ما يسمى بمجتمع التساؤل الفلسفي (CPI)، حيث يتمثل دور المعلم في تيسير الحوار حول القضايا الفلسفية التي ينشئها ويستكشفها الطلاب بدون التحكم في محتوى الحور، وذلك يستلزم إيجاد توازن دقيق بين دعم وصول الطلاب للوضوح والعمق الفلسفي مع الامتناع عن فرض تفضيلات المعلم بشأن الموضوع واتجاه الحوار.

كُتب الكثير عن تكوين مجتمعات التساؤل CPI، مما يقع خارج نطاق هذه المقالة (see, e.g., McCall 2009, esp. 80-92, and Lipman, Sharp, and Oscanyan 1980, esp. 82-101). أودّ أن أصف بإيجاز ما أعتقد أنها العناصر الأربعة الأساسية لمجتمعات التساؤل CPI:

تشارك المجموعة في استقصاء منظَّم وتعاوني يهدف إلى بناء المعنى واكتساب الفهم من خلال بحث الأسئلة الفلسفية أو المفاهيم التي تهم المشاركين.
هناك قبول لما كان يُدعى بــ “التواضع المعرفي”، وهو إقرار بأن جميع أعضاء المجموعة، بمن فيهم المعلم، غير معصومين من الخطأ، وبالتالي قد يتبين خطأ رأي أي عضو منهم.
يُظهر المعلم تحفظًا في الدفاع عن آرائه الفلسفية، ويقدم نموذجًا للارتياح مع عدم اليقين؛ أي مع عدم وجود إجابات نهائية متفق عليها لمعظم الأسئلة التي يجري استكشافها في المجموعة CPI.
يمتنع المشاركون عن المبالغة في استخدام اللغة الفلسفية أو الإشارة إلى أعمال الفلاسفة لبناء حججهم، وهذا يشجع المجموعة على التركيز على استكشاف الأسئلة نفسها وليس تاريخ الموضوع أو آراء الفلاسفة حوله.
بالطبع لا يقام كل صف لفلسفة ما قبل الكلية باستخدام أسلوب مجتمع التساؤل CPI. وفي المرحلة الثانوية، خصوصًا، من المفيد تقديم تاريخ الفلسفة وبعض الجدالات الفلسفية الشهيرة في مجالات مختلفة من الفلسفة. على أي حال فإن إنشاء مجتمع التساؤل يعد طريقة قوية لإلهام الحوارات الفلسفية بين الطلاب، ويعود ذلك إلى التركيز على محتوى المحادثة الذي يقرره الطلاب أنفسهم.

لا توجد خطة دراسية في جلسات مجتمع التساؤل CPI تحدد بالضبط مجريات الأحداث. وكما ذكرت سابقًا في القسم 3، فإن عملية تحديد وتحليل الأسئلة الفلسفية غير خاضعة للقواعد. ويعتمد تقدم الجلسة الفلسفية على اهتمامات الطلاب، وطريقة تطوّر المحادثة، والمشاركين فيها. إذًا، يتخلى المعلم عن السيطرة على مجريات الدرس، ويُظهر نوعًا من المرونة والاستجابة للوجهة التي يأخذ المشاركون الحوار إليها. وعليه أن يمتلك قدرًا من التبصُّر فيما يتعلق بالمقاربات التي من شأنها أن تعمق البحث الفلسفي. وهذه الحساسية ضرورية لضمان السلامة الفلسفية لمجتمع التساؤل CPI؛ أي أنه يضمن استثارة الحوارات الفلسفية.

بالطبع، قد تمر فترات ينتقل فيها الحوار من الفلسفة (إلى العلم مثلًا، أو قصص التجارب الشخصية). ولا يجب حظر مثل هذه الأمثلة أو القصص؛ إذ يمكن أن تكون ذات فائدة في سياق استكشاف قضايا معينة في الفلسفة، ولكن يجب قصرها على ما يتعلق بالحوار. الهدف هو التأكد من إبقاء الحوار فلسفيًّا في المقام الأول، بدل أن يتحول لمجموعة تتبادل الآراء أو علاج جماعي أو أي نشاط آخر؛ لذا من المهم أن يدرك معلمو الفلسفة الإمكانات الفلسفية للحوار، والأوقات التي يمكن أن ينتقل فيها إلى قضايا جانبية منفصلة.

يجب أن يستمر الحوار الفلسفي متحركًا إلى الأمام. وهذا لا يعني أن الحوار سيتطوّر في خط مستقيم ولن يدور ذهابًا وإيابًا لتحليل بعض القضايا المفاهيمية ثم العودة إلى الأسئلة السابقة. ولكن يجب أن تحصل بعض الحركة إلى الأمام – وتتضمن فهمًا أعمق لوجهات النظر المختلفة، والربط بين وجهات النظر، وتقديرًا أكبر لتعقيد الموضوع، والاعتراف بالطرق البديلة للتعامل مع موضوع ما. وهذا يتطلب حسن الاستماع والقدرة على معرفة الافتراضات فيما يقال. وعلى المعلم والطلاب التعبير عن الروابط والاختلافات بين الآراء المطروحة في الحوار.

لا يعني التقدم في الحوار الفلسفي أن ينتهي الحوار بالاتفاق، فالعديد من الحوارات الفلسفية تختتم بأسئلة مفتوحة أو وجهات نظر متناقضة، ولكن المهم هو الرضا بالاختلاف. فقد بحث الفلاسفة القضايا المطروحة لزمن طويل، ولم يتوصلوا أبدًا إلى اتفاق حول أي سؤال. وعلى الرغم من ذلك، يمكن إحراز تقدم في الحوار قد يأخذ شكل وضوح أكبر لمفهومٍ ما، أو إدراك أوسع لمختلف الطرق لمقاربة سؤال، أو التعرف على الافتراضات المسبقة والأسباب الكامنة خلفها.

لماذا يجب على الفلاسفة ومعلمي المدارس k-12 الاهتمام بالحساسية الفلسفية؟
من وجهة نظري هناك ثلاثة أسباب رئيسية للاهتمام بتنمية الحساسية الفلسفية لدى الفلاسفة ومعلمي المدارس: (1) أهمية الذات الفلسفية، (2) أهمية تنمية وعي الطلاب بتعدد وجهات النظر، (3) تقوية مهارات التفكير والتعليل.

أولاً: بالرغم من أن الولايات المتحدة من ضمن الدول القليلة في الغرب التي لا تُدرج الفلسفة كمقرر مطلوب حتى في المرحلة الثانوية، فإن التفكير الفلسفي يبدأ في مراحل مبكرة كما أشرت سابقًا. يدفع الفضول حول الجوانب الأساسية للحياة البشرية الصغار لاستكشاف معنى وجود الإنسان – لماذا نحن على قيد الحياة؟ وما معنى أن نكون صالحين؟ وما التزاماتنا تجاه الآخرين؟ وتساؤلات الهوية – الحياة لغز محير وهذا أمر يدركه الأطفال. وتحافظ ممارسات تنمية الذوات الفلسفية على الإحساس بالدهشة وتُعمّق الوعي بالأبعاد المتعددة للحياة البشرية. بالإضافة إلى ذلك، يساعد فهم الحساسية الفلسفية باعتبارها قدرة مهمة تستحق التعزيز في رفع الفلسفة من هوامش الخطاب المجتمعي، وزيادة الوعي بما يمكن أن يقدمه النهج الفلسفي لتفكيرنا الجمعي حول الأخلاق والمشاكل الاجتماعية والسياسية وغيرها. وبدل أن تكون موضوعًا مقصورًا على فئة معينة تنتمي للدراسات الأكاديمية فقط، يجب أن تنتمي الفلسفة للجميع، تمامًا كالفن والعلم.

ثانياً: يساعد التشجيع على التفكير الفلسفي في المجتمعات الصفية على تقدير التنوع الواسع لوجهات النظر التي يمكن من خلالها رؤية العالم. فبحكم التعريف، ليس للمشكلة الفلسفية إجابة واحدة ثابتة. إن إدراك طرق متعددة – مختلفة ومتساوية القيمة – لرؤية الشيء نفسه، لهو قوة هائلة. حيث تعلمنا الفلسفة أن نأخذ أي وجهة نظر على محمل الجد مهما بدت غريبة، إذا دُعِّمت بأسباب وجيهة. وخاصة في زمننا هذا، حيث اليقين المفترض بشأن المعرفة والهوية والمعتقدات الأخلاقية وشروط الحياة الجيدة يقود الناس إلى أعمال عنف وقمع متطرفة، فمن الضروري أن يدرك طلابنا وفرة وجهات النظر لفهم العالم.

أخيرًا: لا يوجد منهج أفضل من الفلسفة لتنمية مهارات التعليل التحليلي. إن تطوّر الذات الفلسفية يؤدي إلى ظهور موقف نقدي تساؤلي عن العالم. فقد اقترح الحاخام أبراهام جوشوا هيشل Abraham Joshua Heschel مرةً أن علينا أن نفهم الفلسفة بوصفها “فن طرح الأسئلة الصحيحة” (Heschel 1950, 4)؛ فإحدى المهارات التي يطوّرها التساؤل الفلسفي هي القدرة على طرح أسئلة جيدة. عندما كنت في المدرسة، كنت أخشى طرح الأسئلة، فقد تعلمت أن وجود سؤال يعني وجود أمر وجب عليّ معرفته ولكني فشلت في ذلك. وأرى هذا التفكير لدى كثير من طلابي. ولكن امتلاك المهارة والثقة لطرح أسئلة جيدة أمر بالغ الأهمية للنجاح في الحياة المعاصرة. تُعلِّم الفلسفة الطلاب مهارة تقييم المعلومات من خلال طرح أسئلة نقدية، وإطلاق الأحكام بناءً على تعليل تحليلي منضبط بدلًا من المعتقدات الثابتة والتحيزات.

إن تنمية الحساسية الفلسفية تساعدنا على الحفاظ على وعينا بأننا نعيش في عالم مذهل وغامض. حيث نكبر ونعمل بجد لخلق حياة من الإنجاز والثراء العاطفي والأمن الجسدي. إن تنمية الحساسية الفلسفية تدفعنا للبقاء على قيد الحياة في مواجهة غرابة تجربتنا وجميع الأسئلة التي لم تُحل والتي تقف خلف ما نفعله ونقوله ونفكر فيه. كما تدعم مهارتنا في تشجيع الشباب على التنبه للبعد الفلسفي للحياة تطويرَ مهاراتهم التحليلية والخيالية اللازمة لبناء فهم قصدي وغني وصادق عن العالم.

:المراجع

Aristotle. 1960. Metaphysics. Translated by Richard Hope. Ann Arbor: University of Michigan Press.

– ——-,2002, Nicomachean Ethics. Translated by Christopher Rowe with commentary by Sarah Broadie. Oxford: Oxford University Press.

Gardner, Howard. 1999, Intelligence Reframed: Multiple Intelligences for the 21st Century. New York: Basie Books.

Heschel, Abraham. 1950. God in Search of Man: A Philosophy of Judaism.New York: Farrar, Straus and Giroux.

Lipman, Matthew, Ann Margaret Sharp, and Frederick S. Oscanyan.1980. Philosophy in the Classroom. Philadelphia: Temple University Press.

Lone, Jana Mohr.2012a. The Philosophical Child. Lanham, Md.:Rowman and Littlefield.

——2012b.”Teaching Pre-College Philosophy: The Cultivation of Philosophical Sensitivity.” In Philosophy and Education: Introducing Philosophy to Young People, edited by Jana Mohr Lone and Roberta Israeloff, 13-21. Cambridge: Cambridge Scholars Publishing.

Matthews, Gareth. 1992, Dialogues with Children, Cambridge, Mass. : Harvard University Press.

McCall, Catherine C. 2009, Transforming Thinking: Philosophical Inquiry in the Primary and Secondary Classroom, London: Routledge.

McDowell, John, 1996, *Deliberation and Moral Development in Aristo-Ile’s Ethics.” In Aristotle’s Ethics, “In Aristotle, Kant, and the stoics: Rethinking Happiness and Duty, edited by Stephen Engstrom and Jennifer Whiting, 19-35.Cambridge: Cambridge University Press.

Murdoch, Iris. 1992. Metaphysics as a Guide to Morals. New York Penguin.

Nussbaum, Martha. 1990. Love’s Knowledge. New York: Oxford Univer-sity Press.

Proust, Marcel. 2002. Swann’s Way. Translated by Lydia Davis. New York: Viking.

Russell, Bertrand, 1997. The Problems of Philosophy. New York: Oxford

University Press.

حمل مقالة الفيلسوف معلِّمًا- عن الحساسية الفلسفية