التعليم الفلسفي للمعلمين في عصر ما بعد الإنسانية المستلهم من ريجيو إيميليا

ترجمة: سارة القوزي 

تدقيق: أمل اسماعيل

طفل ما بعد الإنسانية وشجرة العائلة

Reggio Emilia Inspired Philosophical Teacher Education in the Anthropocene: 

Posthuman Child and the Family Tree

Karin Murris, Rose-Anne Reynolds, and Joanne Peers 

Murris, K., Reynolds, R., & Peers, J. 2018,’ Reggio Emilia inspired philosophical teacher education in the Anthropocene: Posthuman child and the family (tree)’,Journal of Childhood Studies,vol. 43, no.1, pp.15–29.

ترجمت المقالة بعد الحصول على الإذن الخطي من المؤلف أو الناشر

“جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن المؤلف وليست مسؤولية معهد بصيرة أو دار بصيرة للنشر أو أي جهات أخرى متصلة بها من الجهات والهيئات الثقافية التنظيمية أو المانحة وغيرها”

علاقات التمييز /الاختلاف/ التباين بين (حيوان : إنسان) و(طفل : بالغ)

العمل المنشور في هذا المقال جمع ثلاث محاضرات أقيمت في قسم الدراسات العليا لكلية التعليم بجامعة كيب تاون. على مدار ستة أسابيع (منذ سبتمبر وحتى نوفمبر ٢٠١٧)، خطّطت وحضّرت كلٌّ من كارين موريس Karin Murris – روز آن رونالد Rose-Anne Reynolds – جوان بيرز Joanne Peers لهذه المحاضرات معًا وذلك بالعودة إلى الملفات المشتركة على ملفات جوجل للاستفادة من المواد والأدوات (مقطع صوتي أو مرئي، وصور، وملاحظات، وتحضيرات الدروس والتعليقات عليها، وما شابه).

بدأ الطلاب يصبحون معلمي المرحلة الابتدائية (أي يتعاملون مع الأطفال في معدل الأعمار بين الخامسة وتسع سنوات في جنوب أفريقيا)، عرضنا لهم كيف باستطاعتنا استخدام الصور المرئية على كتاب مصوّر باعتباره مُثيرا طارئا ومندمجا مع منهج كلية التربية للمعلمين.

ركزّت مجموعتنا على تغيّر العلاقات بين البشر Human– والأقل من بشر Subhuman– والأكثر من بشر More-Than-Human التي تتصدر التربية البيئية في الأنثروبوسين Anthropocene (عصر ما بعد الإنسانية)، وكيف يجلبُ التحول الـ لا/ استعماري إلى الوجود عن طريق وثائق تربوية مستلهمة من أعمال روجيو إيميليا Reggio Emilia عبر المساقات الثلاثة التي أقيمت في الجامعة.

اهتممنا – اهتماماً خاصاً – بعلاقات التمييز بين ما هو (حيوان : إنسان) و(طفل: بالغ) في الأماكن المنفصلة والمغلقة المخصصة للأطفال والبالغين والحيوانات والنباتات، التي تُنظّم في ثنائيات للتفريق بين ما هو داخل/ خارج للضمّ والاستبعاد، مع إبقاء مسافة مع الآخر. إن المدارس وحدائق الحيوانات وأحواض السمك والحدائق النباتية تعتبر موادّ الاستعمار والفصل.  هذه المساحات تفرض علاقة قوة غير حربية تفصل بين الأطفال والبالغين، والبشر والحيوانات، والبشر والنباتات.

لنتجاوز علاقة الاستعمار الوجودية بين البشر من عمر معين، عرق، وجنس أو طبقة (حيث تكون داخلها تقسيمات) وبين البشر ومن هم أكثر من بشر، كان على الطلاب أن يتخذوا موقفًا نشطاً يبحث عن الاختلافات المادية والاجتماعية.

استخدمنا الكتب المصوّرة لإثارة المفاهيم التي تتجاوز ازدهار الفرد إلى ازدهار الأنواع المتعددة. عرضنا كيف كانت مركزية عملنا الفلسفي المبتكر وكمادة للاستعمار والفصل هي أن نقدّم/ نجلب ممارسات جديدة للعصر ما بعد الإنساني إلى الوجود. تجادلت جوان هاينز Joanna Haynes وكارين موريس على أن الكتب المصورة المعاصرة تعتبر نصوصاً فلسفية سابقة لأوانها. وأن في الإمكان تشكيل منهج طارئ ومندمج في المدارس وكليات التربية، يجمع تحديدًا الصور التي نعرضها كاقتراحات متواضعة توضّح أن من الممكن – رغم كل الصعوبات – استخدام طرق تعليم مختلفة في كلية التربية للمعلمين.

في هذه المقالة نوضح كيف للكتاب المصور (رجل الأعواد الخشبية) لجوليا دونالدسون Julia Donaldson وأليكس شيفلر Alex Scheffler أن يثير مشروعًا لاكتشاف طرق غير تمثيلية وجذرية للمفاهيم أثناء ثلاثة مساقات جامعية، بدلًا من استخدام طريقة التلقين لإعطاء تعريفات جامدة/ ثابتة للمفاهيم.

الاستثنائية الإنسانية:

إن تصميم وتعليم منهج ما بعد إنساني في كلية التربية للمعلمين كان تحدياً صعباً لعدة أسباب متشابكة من ضمنها: التوجه التنموي المهيمن على تعليم الأطفال في معاهد التعليم العالي، وخبرة الطلاب المعلمين بنوع التعليم الجيد بناءً على تجربتهم التعليمية الخاصة في الدراسة، والحلول الحكومية لأزمة التعليم الحالية (العلامات المنخفضة جداً في الاختبارات المعيارية الدولية في الرياضيات والثقافة) بإدخال منهج وطني جديد ومنقح؛ بيان المناهج وسياسة التقييم The Curriculum and Assessment Policy Statement [CAPS]

منذ إصدار البيان، عمل المعلمون تحت ضغط تصنيفات وطنية قياسية من ضمنها توجيهات صارمة ومحددة التسلسل ومتسارعة الخُطى بخصوص المحتوى الذي يجب تدريسه في المدارس مع دروس وأوراق عمل مكتوبة.

هذه التدخلات الحكومية تعزز التركيز الموجود بالفعل لتقوية المعلمين في تدريس المواد مثل الرياضيات والثقافة في برامجهم. مع تقليل قيمة المواد المرتبطة باكتساب المهارات الحياتية في المرحلة الابتدائية، والتي تتضمن على سبيل المثال: العلوم الطبيعية والاجتماعية، والفنون الإبداعية، والتمارين البدنية.

بالرغم من عدم التصريح بذكر التربية البيئية كجزء من مهارات الحياة لكنها متضمنة نظريًا في الحملة المتمحورة حول الإنسان – الطفل التي تسعى للوصول إلى أهداف التنمية المستدامة العالمية sustainable development goals (SDG) التي تهتم بحقوق الأطفال ونموهم المتكامل استنادًا على البراهين والأدلة العلمية (Jamieson، Berry، Lake، 2017).

لذلك فالمنهج الرسمي لمدارس جنوب أفريقيا هو ضمنياً متمحور حول الإنسان. وعليه، فإن واحدة من أهداف التعليم هي خلق صداقات وعلاقات اجتماعية بين المتعلمين (والطلاب المعلمين) تفترض استثنائية الإنسان، ويحتاجُ مفهوم “العائلة” إلى أن يُعلّم ضمن مهارات الحياة أيضًا.

إعادة تشكيل العلاقات مع الأقل من بشر Subhuman والأكثر من بشرMore-Than-Human:

المجالات المتنوعة مثل العلوم البيئية الإنسانية، والفنون الاستعراضية/ الأدائية، والنظرية الثقافية، والتربية والتعليم، والدراسات التنظيمية، والجغرافيا النقدية، والهندسة، والأنثروبولوجيا علم الإنسان)، والنظرية السياسية، ودراسات الطفولة، ودراسات الثقافة كلها عامةً تُشكّك حاليا في أشكال/ تشكيل المواضيع المتمحورة حول الإنسان.

يجادل البعض بأن المركزية البشرية والتركيز على الهوية بدلًا من الاختلافات هو السبب الرئيس للمعاناة الحالية مع احترام الأعراق، والأجناس والطبقات والمشاكل البيئية التي نعيشها الآن في الفترة المسماة بالجيولوجية من العصر ما بعد الإنساني/ الأنثروبوسين Anthropocene. عالمة الأحياء الناقدة والفيلسوفة النسوية دونا هاروي Donna Haraway (2016) تشرح مصسأزق الفترة هذه بحماس:

“العصر الذي يطلق عليه الأنثروبوسين (أو عصر ما بعد الإنسانية) هو زمن تعدد أنواع المخلوقات بما فيها البشر، وكان هذا نتيجة مؤكدة لما يلي من أحداث؛ الموت الجماعي والانقراض، والكوارث الطبيعية – التي يعتبر الجهل بها سببًا أحمقَ يمنعنا من توقع شدتها – ورفض المعرفة وتنمية القدرة على الاستجابة وتحمل المسؤولية، ورفض الحضور/ التواجد في الكوارث والاندفاع إليها في الوقت المناسب، والتجاهل غير المسبوق.” (صفحة ٣٥)

كتابات هاروي ضمت نداءً عاطفيًا حارًا لتنمية القدرة على الاستجابة وتحمل المسؤولية، ومقاومة التجاهل في وقتنا الحاضر من “التردد الكبير/ العظيم”.

تقول: إن مهمّتنا ليست فقط إثارة المشاكل و”جعل الأقارب في خطوط تواصل مبتكرة كممارسة لتعلم التعايش الجيد مع بعضنا بعضا في الوقت الحاضر”، ولكن أيضًا للبقاء مع المشاكل “أن نتعلم أن نكون حقاً حاضرين… مخلوقات بشرية تتشابكُ مع بعضها بعدد لا يُحصى من أشكال المكان والزمان والقضايا والمعاني”.

ظهرت العديد من المصطلحات التي تصف التوجهات الفلسفية “الجديدة” – بالنسبة للمفكرين الغربيين – مع ما يترتب من أثرها على الأخلاق، مثل: ما بعد الإنسانية، والمادية الجديدة، والمادية الحيوية، والمادية الارتباطية، والمادية الاجتماعية، وعلم الوجود الكائني، وهكذا دواليك.

هناك اختلافات أكثر أو أقل دقة بين هذه الفلسفات. إلهامنا للقيام بالتعليم بطريقة مختلفة مستوحى بشكل رئيس من النقد المعقد لما بعد الإنسانية الذي طوّرته هاروي، وكارين بارد Karen Baradوروزي برايدوتي Rosi Braidotti (اللاتي بدورهن اعتمدن اعتمادا كبيرا على جيل دلوز Gilles Deleuze وفليكس جوتاري Felix Guattari اللذين طوّرا بدورهما الأفكار من حواراتهما عن كتابات الفلاسفة الغربيين مثل بلاتو Plato، ولايبنتس Leibniz، وكانط Kant، ونيتشه Nietzsche وبخاصة اسبينوزا Spinoza).

بالرغم من أن هاروي (2016) تفضّل مصطلح “مزيج السماد” (صفحة ١٠١) على ما بعد الإنساني، فإن كتاباتها كانت وما تزال مؤثرة جدا على تطوير النقد لما بعد الإنسانية، ولها تأثير قويٌّ خاصة على مشاركات كارين باراد Karen Barad

هاروي وضعت تمييزًا مفيدًا بين البشر كحيوانات لها أنظمة / (ذاتية التحكم) تتحكم بها بذاتها وأنظمة/ (تكافلية) تتعاطف بها مع الآخرين (صفحة١٧٦، ملاحظة رقم ١٣). في السابق، كان لدى البشر “ثنائيات منتجة ذاتيًا”، إنهم ذو “تنظيم مغلق”/ (مغلق من الناحية التنظيمية)، “مستقلون بذاتهم”، خاضعون لرقابة مركزية (مثل، من خلال إرادة الإنسان أو العقل)، موجهون نحو النمو والتنمية مع “التطور بين الأنظمة”، وهم أيضًا “قابلون للتنبؤ/ مُتوقعون”. (صفحة١٧٦، ملاحظة رقم ١٣)

في المقابل، فإن أنظمة التكافل أو التعاطف تمتاز بأنها تفتقر إلى الحدود، ويكون البشر فيها “كائنات معقدة بلا شكل”، خاضعة لـ”حكم موزّع ومشترك” مع “التطور داخل الأنظمة”، وهي أيضًا “غير متوقعة”. (صفحة١٧٦، ملاحظة رقم ١٣) هاروي تشرح هذا بقولها:

“التعاطف كلمة بسيطة، إنها تعني “التشارك في الصنع”. لا شيء يصنع نفسه. لا شيء بالفعل يتحكم في ذاته أو ينظمها. على حد تعبير كمبيوتر انيوبات Inupiat، فإن أبناء الأرض ليسوا وحدهم أبداً. هذا هو الأثر الجذري للتعاطف. التعاطف هو كلمة مناسبة للأنظمة التاريخية والمعقدة والمتحركة والمتجاوبة القائمة. هو كلمة تمثّل في مجموعها الـ”عوالم – المصاحبة”.” (صفحة ٥٨)

أبناء الأرض ليسوا “وحدهم أبداً”. إن التنظير الذاتي/ الموضوعي كحدثٍ وجودي هو تحول نموذجي من المنطقي إلى المادة – الممنطقة ويعبّر عن العلاقات الوجودية لما بعد الإنسانية التي تبرز ازدهار تعدد الأنواع. الحقيقة الوجودية في أن أبناء الأرض ليسوا وحدهم أبدًا تعني أن المعلمين هم دائما جزء من الأنظمة التاريخية – المعقدة – المتحركة – المتجاوبة – القائمة (كما بينت هاروي) التي تعتبر مادية ومنطقية على حد سواء وفي الوقت نفسه.

لذلك فإن التعليم والتعلُّم هما ممارستان “للعوالم المصاحبة” التي تعطّل القوة المنتجة للثنائيات الإنسانية الغربية، مثل العقل/ الجسد، الحضارة/ الطبيعة، المعارف/ المشاعر، النظرية/ التطبيق، والبالغ/ الطفل؛ لأن التصنيفات التي تحتوي على ثنائيات كـ”الموضوعات والأشياء والأنواع والأعراق والأساليب والأجناس” التي تنتج عن العلاقات “بين” الآخرين الذين يستأثرون بالأهمية. (Haraway2003، p 6-7)

وبالمثل فإن العصر الجديد neologism في مضمونه – بحسب مفهوم باراد  Barad – هو في صميم الواقعية التوافقية/ المتسارعة Agential Realism التي تؤكد على التحول الوجودي في كيفية التعامل بين البشر والأكثر من البشر وكيف يأثرون على بعضهم بعضاً (Barad 2007–2013). يختلف المضمون Intra-action عن التفاعل interaction في أن الطبيعة والحضارة ليستا منفصلتين تمامًا، أو غير متأثرتين ببعضهما بعضا، ولكنهما دائمًا على اتصال – النظام المتعاطف لدى هاروي – “التشابك أو التعاقد” لدى باراد وأيضا “الاجتماع” لدى ديليوز.

البقاء مع المشاكل: ريجيو إيميليا Reggio Emilia والفلسفة مع الأطفال:

مفتاح عملنا في إزالة الاستعمار هو في استخدام فلسفة ريجيو إيميليا والفلسفة للأطفال (P4C) كمثال للتربية داخل الأجيال وضمنها (Murris 2016–2017). وتشمل التساؤل عن المعاني الراسخة للمفاهيم عن طريق السؤال الفلسفي والمشاريع المثيرة (progettazione3) ومن خلال أخذ المفاهيم التي تظهر في التساؤلات الفلسفية إلى تداخلات أخرى لاختبارها عن طريق وثائق تربوية.

هذا النوع من الوثائق يتطلب من المعلمين أن يكونوا متجاوبين ومسؤولين عن ملاحظاتهم، وأوصافهم وتفسيراتهم وتوضيحاتهم وجريئين في رؤية الغموض (Dahlberg، Moss، Pence 2013– p 115) وأن يكونوا دائمًا انتقائيين ومتحيزين ومنساقين وقائمين. الاستعداد للانفتاح على المفاجآت وعلى غير المتوقع هو المفتاح. الوثائق تجلب للعالم تعبيرًا ماديًّا ومنطقيًّا عن تعلم الطلاب وعن تعاملاتهم مع ما هو أكثر من بشري من الأشياء والأفكار والتأثيرات والمفاهيم والبيئة (Edwards, 1995).

الوثائق التربوية الخاصة بتعليمنا تحتوي على العديد من الصور لأعمال الطلاب وصورا لهم وهم يعملون بمفردهم أو في مجموعات تكون أحيانًا صغيرة وغالبًا تضم الصف كاملاً. مراجعة الوثائق بانتظام تشكل خطوة مهمة عن طريق الاستماع إلى الشروحات المصورة لأحداث محددة أثناء الصف، وتجلب بذلك الطاقات والقوى إلى عمل المشروع الذي يفتح احتمالات وإمكانيات جديدة.

بهذا المعنى، تقوم التربية ما بعد الإنسانية بمراجعة الماضي عبر الزمكان (Barad 2007–2013) كإعادة تحويل للتغييرات بين ما هو موثّق وبين كيف تتم قراءته والاحتمالات اللا نهائية التي ستنشأ بهذه الطريقة. بدا أن التركيز المفاهيمي هو مفتاح لمثل هذا المنهج الديناميكي (/المتحرك) والمتطور: إثارة أفكار جديدة ومشاعر وأحاسيس ومعارف.

تحديدًا، ركّزنا في نهاية السنة الماضية على مفاهيم “العائلة” و”شجرة العائلة” – التي نشأت جزئيًّا من الطلاب أنفسهم. مقاومةً لإغراء تحديد هذه المفاهيم ومعاملتها كرموز/ تمثيلات لواقع قائم بشكل مستقل “هناك”، عملنا عليها بشكل عرضي/ أفقي، فقطعنا ثنائيات الأهداف/ الأشياء (الطبيعة) والذات (الحضارة).

لم يقتصر الأمر على إثارة عقولنا، بل أيضًا اصطدمت بأجسادنا (Massumi، 2015). إنها تقيّد وفي نفس الوقت تعبر عن الرغبة والحرية. إن تبديل “اللغات” يمتّن/ يزيد سمك الفهم المترسّب للمفاهيم والعلاقات التي تكون منفصلة عنها دائماً. ( في تعليمنا كان هذا المثال، عصا – شجرة – خشب – أرض – التحفّظ – القوانين – الاستعمار – بلد – تراب – عالم – البشر – هم – من – اخترعوا – المفاهيم).

الانتقال:

إننا نشير بـ”الانتقال” إلى خلق فهم جديد للمفاهيم عن طريق التبديل بين مائة لغة (وألف زائدة) للمضي قدمًا كجزء من عملية التفاعل ما بين البشر والأجسام غير البشرية (المختلف عن التعبير عن الذات).

الاستعارة الشهيرة لـ”المائة لغة” هي من قصيدة للوريس مالجوزي Loris Malaguzzi. وهي نقد قوي لامتياز اللغتين المهيمنتين على التعليم العالي والقراءة والكتابة، الاستعارة تشير على مستوى (عملي) واحد إلى تقديم أدوات المادة – المنطقية لصناعة المعنى في المدارس، مثل الفنون البصرية، والحركة البدنية، والفيديو، والكاميرات الرقمية، والكمبيوترات والواقع المعزز.

على المستوى الرمزي، المائة لغة هي – كما عبرت عنها كارلينا رينالدي Carlina Rinaldi (٢٠٠٦): “هي استعارة لتشريف/ ائتمان الأطفال والبالغين بمائة وألف من الإمكانيات الإبداعية والتواصلية” (صفحة ١٧٥).

قبل أن نريكم كيف استخدمنا عائلة المفاهيم استخداما متغيرا، بوساطة تبنّي المائة لغة الخاصة بريجيو إيميليا، سنستكشف المزيد من الأسباب التي تجعل من الأشكال/ التشاكيل/ التماثيل المتمحورة حول الإنسان للموضوع أن تكون مزعجة.

أطفال ما بعد الإنسانية وتعليم ما بعد الإنسانية تجريبيًا:

التعليم ما بعد الإنساني هو تحول جذري من علم الوجود المادي الديكارتي إلى علم الوجود التفاعلي بين العلاقات. إنه ينقل النقاش عن العلاقات من النظرة الاجتماعية إلى النظرة الوجودية – ما يقال عنه أنطولوجي أو مادي في تاريخ الأفكار. وهو بدوره مزعجٌ مع أصول التربية المبنية على الواقعية العلمية، والبنائية الاجتماعية، وما بعد الحداثة، أو ما بعد البنوية التي تفترض جميعها أن الأنظمة اللغوية أو السيميائية الأخرى تتوسط بين الطبيعة والثقافة. (Murris، 2016، Chapter 3)

لم تكن قوة هذه الأنظمة جوهرية فحسب، بل كانت أيضًا “ضرورية”، مما سمح للبنية اللغوية بتحديد فهمنا للعالم (Barad، 2007، p 133).

على سبيل المثال: تعطي ممارسة التعليم الموحد تعريفات للمفاهيم كي تعبر عن جوهر المفاهيم أو معناها – كذلك الأمر في التعليم العالي – ويشمل ذلك محاولات تعريف من هو الطفل بطبيعته. الغريب أن لا أحد من باراد أو برادوتي أو هاروي أشار صراحة إلى العلاقة الفوقية بين البالغ: الطفل.

على أي حال، فإن عملنا الانتقالي مع الطلاب المعلمين أثناء الكورسات التعليمية الثلاثة التي قمنا بها (دراسات الطفولة، ومهارات الحياة، والدراسات الخاصة) في كلية التربية بجامعة كيب تاون توضح كيف أن التحول الوجودي بين “التحكم الذاتي” و”التعاطف” ينزع الطبيعة/ ينكر طبيعة الطفل والطفولة.

تعبيرات الطلاب عن المادة المنطقية تبرهن على المسافة الفلسفية بين شكل نمو الطفل في علم النفس (الطفل كـ”أنا”)، الشكل المكتفي والمستقل ذاتيًا في خطاب حقوق الطفل (الطفل كـ”أنا” عليا) وبين شكل الطفل -ضمن – السياق – الاجتماعي – والثقافي في علم الاجتماع (الطفل كـ”أنا” وأنا/ نحن) (Murris 2016).

نبدأ بشكل الطفل في العصر الحديث بـ”أنا” (انظر الشكل رقم١ ورقم ٢).

عندما بدأنا تعليم الكورسات الثلاثة، رسمنا على الورق، وبدأنا بالعودة إلى ملاحظاتهم في منتصف النشاط التعليمي الثاني.

كارين كانت تدرّس دراسات الطفولة. وضعت مجموعة من الورق البياني على الطاولات في منتصف الصف، وكل طالب كان يرسم ويكتب ويستخدم الصلصال مع مواد أخرى.

بعد ذلك مشَوا حول المستطيل الكبير أمامهم من الطاولات التي تحمل الأوراق ومن ثم تفاعلوا (diffracted4) مع تعبيرات الطلاب الآخرين بعد تغيير موقعهم. بعد هذا التمرين، بدأت المحاضرة الأولى بمراجعة الأوراق الكبيرة منها والتفاعل معها بالتعليق الصور والكتابة عليها (الشكل رقم٣).

كنا قد ناقشنا سابقًا تأثير هذه الصفحات عليهم والأثر الذي وضعوه عليها. عبّر الطلاب عن خيبة أمل عميقة لما يعنيه أن تكون

مُعلماً ممارسًا، واكتنف الصف جوٌّ ثقيل حينذاك.

كثيرون منهم شعروا كأنهم غير مرئيين كطلاب معلمين في نفس الوقت. لم يأخذوا فقط أنفسهم على محمل الجد ولكن أيضًا عبّروا عن قلقهم بشأن الأطفال، الذين لم يكونوا يتعلمون شيئا وأحيانًا كانوا يزجرون أو أكثر. كان هناك الكثير من التنهدات العميقة والصمت الطويل.

أحد الطلاب كتب ورسم صورة قوية: عندما يكون الطفل غير مرئي.. فلمن التعليم إذن؟ (الشكل رقم ٤)، مثّل ذلك على بلاستيك شفاف دلالة على انعدام رؤيتهم مع الاحترام لكل الأطفال في مدارس جنوب أفريقيا.

مهمتنا كمعلمين تبدو حملا طائلا عندما ندرّس الأطفال الذين نحترمهم كصانعي معرفة عن طريق تقديم علاقات قائمة على العدل – ليس فقط بيننا وبين ما هو أقل من بشري ولكن أيضًا للحيوانات الآخرين وما هو أكثر من بشري.

في كورس دراسات الطفولة، طلبت كارين من الطلاب أن يصنعوا الشخصيات السردية لطفل العهد الحديث كأنا، أنا/ العليا، وأنا وأنا/ نحن.  كيران إيجن Kieran Egan (٢٠٠٦ صفحة رقم٣) يجادل الفكرة التي تقول أن التعليم الناجح يعتمد على ضم المشاعر في العملية التعليمية. يقترح أن هناك أداة إدراك واحدة تصنع الشخصيات (من الحروف، والفواصل، والأصوات، وما إلى ذلك) وقصّ معهم من أجل أن “يصنعوا لأنفسهم ارتباطًا عاطفيًا مع الموضوع” (Egan 2006، p 3، emphasis in original).

تجسيد الشخصيات وصنع الحكايات يساعدنا على التأثر بالمفهوم. ظنّت كارين أن هذا قد يساعد الطلاب على الانضمام إلى أشكال مختلفة للطفل والطفولة. كان من الملفت للنظر أن الطلاب عانوا مع تجسيد شخصية الطفل كـ”أنا عليا”.

لم يستطيعوا تخيل ما الذي سيكون عليه الأطفال في المدارس عندما يعامَلون باعتبار أن لديهم حقوق للمشاركة مثلا. تريستان باريت Tristan Barrett صنع هذا الرمز المربع الذي يعبر عن تجسيد شخصية الطفل كـ”أنا عليا”، وهو بالرغم من أنه “كفء” إلا أنه ما يزال رمزًا ناميًا باعتبار مرحلة البلوغ كهدف أو مثال أعلى.

دعت كارين الطلاب إلى القراءة بصوت عالٍ في حلقة ومناقشة ما كتبته لوريس مالاجوزي عن النظرة عن الطفل: حيث يبدأ التعليم (١٩٩٤). يبدوا أن هذا المقال القوي من مؤسسة نهج روجيو إيميليا للتعليم هو الاختيار الأفضل ضمن سياق خبراتهم المشتتة في ممارسة التعليم. ما ميّز تعبير الطلاب عن الطفل كـ”أنا متعددة/ نحن” (طفل ما بعد الإنسانية) هو هذا:

نحن في حاجة إلى تعريف دور البالغ، ليس كناقل لكن كصانع/ مُنشئ للعلاقات – لا نعني فقط العلاقات بين الأشخاص لكن أيضًا بين الأشياء، وبين الأفكار مع البيئة. إن الأمر يشبه أن ننشئ مسارات المرور لشوارع نيويورك المزدحمة في المدرسة. (Malaguzzi، 1994)

هذا النقاش بدوره، ألهم الطالب المعلم تانغ Tannagh Pfotenhauer للتعبير عن الطفل كـ”أنا متعددة/ نحن”، كما هو موضح في الشكل رقم ٦.

وصفت الطالبة المعلمة نادية وودوارد Nadia Woodward، عائلتها المتداخلة من الطفل كـ: أنا، أنا عليا، أنا متعددة/ نحن، (الشكل رقم ٧)

مع استخدامنا لما بعد الإنسانية كأداة للملاحة/ للتنقل، استخدمنا مفهوم طفل، لا لوصف كيان واحد في عالم الكفاءات، والصوت، والوكالة وما إلى ذلك، ولكن للتعبير عن العلاقات بين البشر وبين ما هو أكثر من بشر.

يتجسد الأفراد وينشؤون عن طريق العلاقات، وكذلك المعنى. الطفل في العالم الحديث كـ”أنا متعددة/ نحن” (Murris 2016) يعبّر عن طفل ما بعد الإنسانية: شيء (وجود لا إنساني) وهو جزء من العالم وليس ككيان في المكان والزمان (كوعاء يحتوي المفاهيم).

والأهم من ذلك أن هذا لا يترتب عليه – كما يُفترض في كثير من الأحيان – أن الشيء لا يهم معنويا أو أخلاقيا – كما أكدت عن ذلك ليزلوت أولسون Liselott Olsson (٢٠٠٩) – فإن ما نتحدث عنه لا يمكن بأي حال من الأحوال اعتباره شيئاً “ميتًا”.

على عكس الأفكار التشييئية التي تم طرحها سابقًا… يُعتبر الشيء نابضًا بالحياة أكثر من أي وقت مضى. وهو شيء مستدام الصنع/ والتنشئة أيضا – الشيء الذي سيكون – وهذا الشيء هو أكثر من مجرد شيء؛ وهو شيء فريد تماما لن يتكرر ولا حتى يكرر نفسه. (صفحة ١٢٧).

التحول الوجودي في التشييء يعني بطريقة ما أن “البالغين أصبحوا أطفالاً، ووجود غير مكتمل، ودائما في طريقه إلى النمو ولا ينتهى منه” (Kennedy 2006، p 10). هذا التحول ما بعد التنموي في تشييء الطفل يفتح مجال الاكتشافات لطلابنا حول التشييء ما بعد الإنساني بشكل أكثر اتساعاً.

ما بعد الإنسانية لا تشوّش فقط ثنائية البالغ: الطفل، لكنها تدخل الديموقراطية بعمق في مجالات متعددة الاتجاهات – لاشيء يعتبر قائمًا بفوقية خارجًا، أو يتخذ موقفًا امتيازيًّا حقيقيا ومتجاوزًا، وهذا ضروري من أجل إزالة/ استعمار البيئة التعليمية في الأنثروبوسين (أو ما بعد الإنساني).

إنها تفهم جسم الإنسان في أي عمر باعتباره مخلوقا غير محدود موجود ضمن شبكة معقدة من القوى البشرية وغير البشرية، فاتحًا نوعًا لا يخضع للتسلسل الهرمي من الوجود والمعرفة بالتشكيك/ التساؤل حول التصنيفات التي صنعها الإنسان (مثل الطبيعة/ الحضارة) التي تؤدي دورها بالضم والاستبعاد. مدرس المراحل المبكرة للطفولة فيكل نزومالو Fikile Nxumalo (٢٠١٤) يشير إلى أن المعارف الأصلية علمتنا منذ آلاف السنين أن “تشييء البشر لا ينفصل عن علاقاتهم ومسؤولياتهم مع ما هو أكثر من بشري” (صفحة ٥٤).

إن كلا من أنظمة المعارف الأصلية ونقد ما بعد الإنسانية تشجع المعلمين فلسفيًا وعمليًا على الانخراط مع العلاقات التي لها حسابات أكثر قوة وتعقيدًا لتشارك في اللقاءات التربوية، وإعادة تشكيل العلاقات بين البالغ- الطفل والإنسان- الحيوان في المدارس، والعالم المادي، والبيئة، والعلاقة بين النظرية والتطبيق (مجموعة من أسماء الكتّاب).

على أي حال، وبالرغم من ضرورة التحول إلى الوجود الارتباطي من أجل استدامة التعليم (Malone، Truong، Gray،  2017)، إن التفاصيل الدقيقة حول كيفية إعداد الطلاب المعلمين في التعليم العالي لبدائل المنطق الغربي المهيمن في فهمنا للعالم تتقدم إلى الأمام ببطء.

كي يتمكن الطلاب المعلمون من تبنّي نشاطات تثير المشاكل والبقاء معها وصنع علاقات في صفوفهم المستقبلية، فإنهم بحاجة إلى تجربة طرق مختلفة في الربط – ليس فقط بين ما هو أقل من بشر (طفل) ولكن حتى مع الحيوانات الأخرى وما هو أكثر من بشر. يحتاجون أيضًا لتجربة أنفسهم – كطلاب – كي يتمكنوا من وضع خطة تعليمية مختلفة وجذرية وتعاونية لأنفسهم كمعلّمين.

هذه التجارب ليست متكاملة، ولكنها تحرر الروح بمعنى أنها “نافذة عبر الفرد”. الأجساد ليست محصورة داخل الجلد كوحدات في المكان والزمان، لكنها أشياء غير محدودة شاركت في تكوينها التناقضات والتعددية (لذلك هي: مُحرَّرة الروح). التربية ما بعد الإنسانية تفترض أنها “ذوات جوّالة” (Braidotti 2006– 2013) ليس فقط من الناحية النظرية بلا مأوى لكن أيضًا أن وجودها غير/ مستمر (Barad 2014).

التحول الفلسفي في التشييء يفرض تحديات عويصة في تعليم المعلمين لأنهم كطلاب يحتاجون نظام دعم وإرشاد قوي بوساطة منهج تعليمي مصمم مسبقاً بعناية. باعتبار أن برنامجنا مصمم لإعداد المعلم سريعًا، كيف يمكن لمعلم واحد أن يدرس بطريقة ما بعد إنسانية؟

سنعرض لكم مثالًا على أحد أعمالنا التعاونية.

رجل الأعواد الخشبية وشجرة العائلة:

رجل الأعواد الخشبية هو قصيدة مصوّرة عن لعبة طفل جروفالو Gruffalo’s Child– وهو شخصية في كتاب مصوّر لجوليا دونالدسون وأليكس شيفلر- يتورط في رحلة مخيفة عندما أخذ بالركض بعيدا عن شجرة عائلته، التي تسكنها “سيدة الأعواد الخشبية “حب” وأبناؤها الثلاثة”.

قبل استخدام الكتاب المصوّر طلبت كارين من كل طالب أن يرسم شجرة عائلته. بعضهم رسموها هرميًّا، والبعض الآخر رسمها بشكل متفرّع. لقد بحثنا بعمق أسباب وضعهم من أو ماذا على شجرتهم (هل خطوط “الدم” الوراثية ضرورية؟). بعض الطلاب أضافوا رسوم حيواناتهم الأليفة. (انظر الشكل رقم ٨).

عند التفاعل مع الوثائق التربوية، لاحظنا أن المفاهيم مثل عائلة، وممتلكات، وحي/ ميت كانت تفرض نفسها مجددا في عملنا مع الطلاب. كي نزيد الفهم المترسب (Barad 2007) لهذه المفاهيم عرضت كارين فرصة التفاعل مع تجسيدات الواقع المعزز في كتاب النظام الشمسي الرقمي (Carlton Books، 2013).

بواسطة تطبيق حمّلوه على هواتفهم الذكية، نبضت الكواكب بالحياة ودارت حول بعضها بعضا (انظر الشكل رقم ٩). تم الربط مفاهيمياً بينها وبين انتماء رجل الأعواد الخشبية إلى شجرة عائلته، ثم أثارت كارين التساؤل بقولها: “هل نعتبر الأرض جزءًا من العائلة؟).

عبّر الطلاب عن حيرة عميقة بشأن الهرمية بين البشر وغير البشر، وبشأن الأنسنة عن طريق إعطاء الأولوية للاحتياجات البشرية على الحيوانات والأشياء، وشُكّلت روابط قوية مع الرحلات الميدانية التي نظمتها روز- آن كجزء من دورة الدراسات الخاصة Special Studies7 إلى معرضين لأحواض المحيطات وحدائق أرديرن في كيب تاون. استخدمنا نزهات أحواض السمك والحدائق النباتية كي نتباحث بطريقة ما بعد إنسانية، عن السؤال ” كيف يعمل مفهوم العائلة؟”

عند وصولنا إلى معرض حوض السمك، تفاجأنا بملصق يرحب بالزوار مرسوم عليه سلطعون ناسك يقول، “انضم إلى العائلة” (انظر الشكل ١٠). نظريًا، لم نكن بعد أعضاءً في تلك العائلة.

الانضمام إلى هذه العائلة قد يتطلب مبلغًا ضخمًا، وكان الطلاب منزعجين من تكلفة زيارة المعرض، مما يعني استبعاد مجموعات منهم ممن لا يستطيعون دفع رسوم الدخول أو الانضمام، الأمر الذي سيؤثر بدوره على من يمكن أن يكون جزءًا من “العائلة”.

سأل أحد الطلاب، “هل معرض حوض السمك هو مدرسة خاصة؟” وأدى ذلك إلى مناقشة حول الإدماج والاستبعاد والوصول إلى الموارد. أثناء الفصل العنصري في كيب تاون، كانت الموارد محدودة عمدا وكان الوصول إلى التعليم يقتصر على مجموعات محددة من الأطفال والأشخاص. ما تزال أوجه عدم المساواة هذه موجودة اليوم في نظام تعليمي من مستويين.

كان يفترض للخزانات التي في معرض حوض السمك أن تكون مأوىً للعديد من المخلوقات البحرية. وجودهم المادي- المنطقي أثار العديد من الأسئلة شغلت الصف المكون من ٢١ طالب معلم.

الخزانات كانت مصممة لمجموعات معينة من الأسماك، لذلك انتهينا إلى اعتبار معرض الحوض كـ”عائلة” مع خزانات تمثل الغرف دون أبواب متداخلة؛ لأن جميع الخزانات كانت منفصلة، لذا فأيّ “عائلة” – بهذا الحال – سيجري ضمّها؟

في النهاية، يمكن للإنسان فقط الانضمام طوعًا إلى العائلة؛ لم يكن للأسماك والقروش رأي فيما إذا كانوا يريدون أن يكونوا هناك أم لا. أعربت إحدى الطالبات عن قلقها من أن الأسماك في الخزانات قد أبعدت عن عائلاتها الأكبر في المحيط لتكون متاحة ليطلع عليها زوار معرض حوض السمك: “الأسماك في الخزانات هي أيضًا جزء من عائلة – لم يخطر ببالي ذلك قبلا”.

هل العائلة إذن مفهوم إنساني، وكيف يعمل المفهوم ليشمل ويستبعد؟ كيف يُمنع صنع الأقارب مع الحيوانات الأخرى وما هو أكثر من الإنسان؟

الحيوانات التي تعيش على دعم الحياة في أحواض السمك:

في اليوم الذي كنا فيه في المعرض، كان هناك الكثير من المدارس الأخرى تقوم بزيارة ميدانية. (في الشكل ١٥)، يمكنكم مشاهدة كيف تم إعداد التدخُّل التعليمي. كانت الفكرة هي أن يجلس الأطفال في سكونٍ وهدوء، وأن يستمعوا للمقدم (الذي يحمل الميكروفون)، بينما يتم عرض الغواصين والأسماك المختلفة في الحوض خلفهم. كانت هذه هي الطريقة التي تقدم بها الأسماك وحياتها للأطفال.

في المحيط النموذجي – حيث لا مكان للدمار ولا دليل على الضرر الذي يلحقه البشر بالمحيطات – فإن هذه الرسائل تصل بطريقة مختلفة ومنفصلة. هنا، يقرأ المقدم نصًا حول ما يعتقده (أو/ مع مديره المباشر) أن البشر والأطفال يجب عليهم – ويريدون – معرفته عن الأسماك الموجودة في الحوض خلفهم.

يرفع الأطفال من الجمهور أيديهم لطرح الأسئلة أو لإخبار الآخرين بما يعرفونه من قبل أو ما شعروا به وهم يشاهدون مخلوقات البحر في الحوض. أغلب الأيدي لم تكن تلقى القبول أو يقع عليها الاختيار للكلام – بذلك، تبقى المعرفة حول الأسماك فقط لدى البالغ الذي يمسك بالميكروفون.

التعليم هنا يفترض أن التشييء بمعنى أن يكون النظام يتحكم بذاته عن طريق ثنائيات ذاتية الإنتاج (Haraway 2016, p 58)، تضع الطفل كـ”أنا” في اتجاه النمو دون منحه الفرصة والدهشة في التعلم عن طريق التجسيد.

كجزء من المشهد، طرح أحد الطلاب سؤالًا يقول: “هل يجوز أخلاقيا التفرّج على الأسماك؟” وسأل “هل تشعر الأسماك بالانزعاج عندما يتفرج عليها الغرباء؟” هذه الأسئلة غير المتوقعة والمعقدة والحركية والقائمة هي جزء من التعليم حسب نظام التعاطف – “العوالم المصاحبة” و”الحضور الصادق” في مساحات استعمارية (Haraway 2016).

وقد صُدمت الطفلة روز- آن من استخدام أشكال متطورة من التقنية كانت ضرورية لإبقاء الأسماك حية. كل خزان كان بحاجة إلى أنابيب لضخ الأوكسجين لتمكين المخلوقات البحرية من التنفس والبقاء. إنه شكل من أشكال دعم الحياة التي لن تكون ضرورية إذا تركت المخلوقات في المحيط.

تبقى الأسماك حية في هذه الظروف الاصطناعية لصالح “العائلة” البشرية التي تأتي للزيارة فقط (انظر الشكل ١٣). لا يقتصر الأمر على إبقاء الأسماك حية بالأوكسجين الذي يرشح في الخزانات، ولكن أيضًا يقدم الغواصون لها الطعام.

ومن المفارقات أن نشرة التعليم البيئي في معرض حوض السمك تعِد الزوار بأن تربط “جمهورا عريضا بالطبيعة”. لكن “الطبيعة” و”الثقافة” دائمًا في حالة تفاعل وتداخل، ورغم هذا لا تتأثران أبدًا ببعضهما بعضا؛ فهما دائمًا في حالة تشابك تكوّن نظام تعاطف (Haraway 2016).

العائلة ليس فقط كما يعرّفها أو يحتكرها البشر:

تتمثل إحدى طرق الاستجابة لنداء هاروي الشغوف لتنمية القدرة على الاستجابة ومقاومة “التجاهل” في العصر الحالي ذي “التردد العظيم” (الصفحات ١٤٤-١٤٥) في نقل موقعنا الأساسي للتعلم والتعليم إلى الهواء الطلق.

عند مراجعتنا لملف رحلة معرض حوض السمك، قررنا زيارة حدائق أرديرن بعد ذلك بأسبوعين بهدف إثارة المزيد من التساؤلات حول مفهوم شجرة العائلة. كان اختيار تلك الحديقة النباتية الخاصة مقصودًا؛ فهي موطن الأشجار والنباتات الغريبة التي يكون سبب وجودها في تلك الحديقة أنها كانت “غريبة” عن أرض جنوب أفريقيا. هذه الأشجار “لا تنتمي” بشكل “طبيعي” إلى هناك. إنها ليست جزءًا من النباتات الأصلية لجنوب أفريقيا وقد زرعها المستوطنون البيض (من عائلة أرديرن).

لفتت اهتمامنا تحديدًا شجرة تسمى تين خليج موريتون. إنها واحدة من أقدم الأشجار الغريبة في جنوب إفريقيا (تبلغ حوالي ١٦٥ عامًا)، ولكنها بالطبع ليست قديمة مثل الأشجار الأصلية. كانت الشجرة جزءًا من الدرس – لا كخلفية للقصة أو أنها ظهرت ضمن السياق – فهي تشاركنا القراءة، وتشاركنا التفكير.

اقترحنا على الطلاب أن يلبوا دعوة الجذور الضخمة البارزة فوق التربة، واتخاذ أماكن بينها للجلوس، وقراءة الكتب المصورة التي أحضرناها معًا ضمن مجموعات صغيرة لبعضنا بعضا. كانت الكتب المصورة مليئة بالأشجار والغابات. وفي ذلك الوقت، لم تكن لدينا فكرة أن هذه الشجرة تُسمى أيضًا “شجرة الزفاف” لأن العديد من الأزواج يأتون لالتقاط صور زفافهم بين جذورها وحولها.

جلست أنجيلا ويب Angela Webb، مستندة على أحد الجذور العملاقة، وقرأت قصة هانسيل وجريتيل Hansel and Gretel لأنتوني براون Anthony Browne (٢٠٠٨) إلى زميلها الطالب المعلم زوكيل نكوبي Zukile Ncube. لم نستطع التعبير عن دهشتنا في كلمات مناسبة عندما اصطدمنا بقدرة تشابك المادة- المنطقية (في الشكل ١٤) على إقامة العلاقات بين البشر وبين غير البشري، متجاوزًا الجنس والعرق والطبقة والعمر:  تربة – ورق – بطانية – أيادي – تركيز – نسيج – خطوط – أزرق – لحاء – وقت النوم – حكاية…

فكيف لنا إذن عندما نفكر بالعائلة، أن نفكر بها فقط كما يعرّفها ويحتكرها البشر؟

تعليمنا الفلسفي ألغى الثنائيات الاستعمارية، والمانحة للسلطة التي جاءت من إنسانية الغرب – الادّعاءات التي تعترض بأن الكتب المصورة هي للأطفال فقط، أو أن القراءة في المؤسسات التعليمية تكون بين الجدران، أو أن العائلة البشرية هي أكثر أهمية من عوائل الأسماك أو الأشجار، وأن هذه العائلات لا يمكن أن توجد خارج الثنائيات التي أنشأها الإنسان. عملنا التعاوني مع الطلاب يثير/ يطرح باستمرار أسئلة حول ما يعنيه الانتماء إلى عائلة.

“نختم” بالأسئلة التي تطرحها هاروي (٢٠١٦، صفحة رقم ٢) وهي الأسئلة التي ستبقى مثيرة دائمًا في برنامج تعليم المعلمين خاصتنا: إقامة علاقة تكون مثل القرابة الغريبة، بدلًا من – أو بالإضافة إلى – القرابة الخلقية والوراثية المتعلقة بالأنساب، تثير أمورا مهمة جدًا مثل: من تقع عليه المسؤولية بالفعل؟ من يعيش ومن يموت وكيف ضمن هذه القرابة بدلًا من تلك؟ ما هو شكل هذه القرابة؟ وأين وإلى من تتصل خطوطها وتنقطع؟ وماذا في ذلك إذن؟ ما الذي يجب قطعه وما الذي يجب ربطه من علاقات قرابة بين البشر وغير البشر كي تزدهر أنواع متعددة على الأرض – إذا سنحت الفرصة؟

المراجع:

  • Barad, K. (2007). Meeting the universe halfway: Quantum physics and the entanglement of matter and meaning. Durham, NC: Duke University Press.
  • Barad, K. (2014). Diffracting diffraction: Cutting together-apart. Parallax, 20(3), 168–187.
  • Braidotti, R. (2006). Transpositions: On nomadic ethics. Cambridge, UK: Polity Press.
  • Braidotti, R. (2013). The posthuman. Cambridge, UK: Polity Press.
  • Browne, A. (1981). Hansel and Gretel. London, UK: Walker Books.
  • Carlton Books. (2013). iSolar System [application]. Retrieved from https://www.carltonbooks.co.uk/isolar-system-ar-hb.html
  • Deleuze, G., & Guattari, F. (1987/2014). A thousand plateaus: Capitalism and schizophrenia (B. Massumi, Trans.). London, UK: Bloomsbury.
  • Donaldson, J., & Scheffler, A. (2008). The stickman. London, UK: Alison Green Books.
  • Edwards, C. (1995). Democratic participation in a community of learners: Loris Malaguzzi’s philosophy of education as relationship. Lecture prepared for an international seminar. University of Milano, October 16–17, 1995. Retrieved from http://digitalcommons.unl. edu/cgi/viewcontent.cgi?article=1014&context=famconfacpub
  • Egan, E. (2006). Teaching literacy: Engaging the imagination of new readers and writers. Thousand Oaks, CA: Corwin Press.
  • Haraway, D. (2016). Staying with the trouble: Making kin in the Chthulucene. Durham, NC: Duke University Press.
  • Haynes, J., & Murris, K. (2012). Picturebooks, pedagogy, and philosophy. New York, NY: Routledge.
  • Haynes, J., & Murris, K. (2017). Intra-generational education: Imagining a post-age pedagogy. Educational Philosophy and Theory, 49(10), 971–983.
  • Jamieson, L., Berry, L., & Lake, L. (2017). South African child gauge 2017. Cape Town, South Africa: Children’s Institute.
  • Kennedy, D. (2006). Changing conceptions of the child from the renaissance to post-modernity: A philosophy of childhood. New York, NY: Edwin Mellen Press.
  • Lenz Taguchi, H. (2010). Going beyond the theory/practice divide in early childhood education. London, UK: Routledge.
  • Lipman, M., Sharp, A. M., & Oscanyan, F. S. (1977). Philosophy in the classroom (2nd ed.). Philadelphia, PA: Temple University Press.
  • Malaguzzi, L. (1994). Your image of the child: Where teaching begins. Exchange, 3(94).
  • Malone, K., Truong, S., & T. Gray. (2017). Reimagining sustainability in precarious times. Singapore: Springer Nature.
  • Massumi, B. (2015). Politics of affect. Cambridge, UK: Polity Press.
  • Murris, K. (2016). The posthuman child: Educational transformation through philosophy with picturebooks. London, UK: Routledge.
  • Murris, K. (2017). Reading two rhizomatic pedagogies diffractively through one another: A Reggio inspired philosophy with children for the postdevelopmental child. Pedagogy, Culture, & Society, 25(4), 531–550. doi: 10.1080/14681366.2017.1286681
  • Nxumalo, F. (2014). Unsettling encounters with “natural” places in early childhood education (Doctoral dissertation). Retrieved from https://dspace.library.uvic.ca/bitstream/handle/1828/5772/Nxumalo_Fikile_PhD_2014.pdf ?sequence=1&isAllowed=y
  • Olsson, L. M. (2009). Movement and experimentation in young children’s learning: Deleuze and Guattari in early childhood education. London, UK: Routledge.
  • Pacini-Ketchabaw, V., Nxumalo, F., Kocher, L., Elliot, E., & Sanchez, A. (2015). Journeys: Reconceptualizing early childhood practices through pedagogical narration. Toronto, ON: University of Toronto Press.
  • Pedersen, H. (2016). Animals in schools: Processes and strategies in human-animal education. West Lafayette, IN: Purdue University Press.
  • Rinaldi, C. (2006). In dialogue with Reggio Emilia: Listening, researching, and learning. London, UK: Routledge.
  • Seghal, M. (2014). Diffractive propositions: Reading Alfred North Whitehead with Donna Haraway and Karen Barad. Parallax, 20(3), 188–201.
  • Snaza, N., & Weaver, J. A. (2015). Posthumanism and educational research. New York, NY: Routledge.
  • Taylor, A. (2013). Reconfiguring the natures of childhood. London, UK: Routledge.
  • Taylor, C. A., & Hughes, C. (Eds.). (2016). Posthuman research practices in education. Basingstoke, UK: Palgrave Macmillan.

ملاحظات أخيرة:

  1. على سبيل المثال، دونا هاروي Donna Haraway (٢٠١٦، صفحة ٤٩ – ٥٧) تحترم كلمة anthro الإنساني في الأنثروبوسين (أو الزمن ما بعد الإنساني)، لأنه حتى الإنسان لا يعمل بمفرده. وهي تقدم ثمانية أسباب تجعلها تفضل أن تنأى بنفسها عن كلمة الأنثروبوسين وتقترح مصطلح Chthulucene المأخوذة من كلمة chthon باليونانية ومعناها الأرضي – وهو تفكير مجسم يعطل الاستثناء البشري لخطاب الأنثروبوسين.
  2. إن مشروعنا يعمل على إزالة/الاستعمار بالمعنى الأنطولوجي الوجودي من خلال تعطيل ثنائية الطبيعة / الثقافة وإدراج الغير بشري والأكثر من بشر في علم الوجود النسبي الذي تُعلّم على أساسه أصول التربية لدينا. علاوة على ذلك، فإن مشروعنا التعليمي يعمل على إزالة /الاستعمار بالمعنى المعرفي بحيث يقوم تعليمنا بتعطيل الاستثناء الإنساني، والتمييز على أساس السن (سوء الفهم)، وكراهية النساء، والعنصرية. أخيرًا، نكتب ازالة/الاستعمار (وبالإنجليزية de / colonising) لأن الخط المائل يعبر عن تغير العلاقات نحو الحقيقة.
  3. وفقاً لكارلا رينالدي Carla Rinaldi (٢٠٠٦، صفحة ١١، ٢٠٦)، لا يمكن ترجمة البروجيتازيون Progettazione حقًا. إنها استراتيجية وممارسة يومية مكوّنة من الملاحظة-التفسير-التوثيق- وهو منهج ناشئ طورته رياض الأطفال في ريجيو إميليا. إيطاليا.
  4. بناءً على عمل هاراوي Haraway، توضح باراد Barad (٢٠٠٧-٢٠١٤) كيف يعمل الحياد Diffraction في الكتابة وكيف يعطل فهم الاختلافات التي تستند إلى التصنيفات التي تحدد الأشياء وفقًا للأنواع الطبيعية (Barad، ٢٠١٤ ، صفحة ١٧٢). الحياد بمعنى “التفكك في اتجاهات مختلفة” (Barad، ٢٠٠٧، صفحة ١٦٨) – الانفصال معًا (بحركة واحدة) لإعادة تكوين المادة في الزمكان (Barad، ٢٠١٤). بالنسبة لباراد، فإن الحياد ليس مجازًا كما كان الحال بالنسبة لهراواي، لكنه يدل على ظواهر المادة نفسها (Seghal، ٢٠١٤، صفحة ١٨٨). إن الأمواج والجزيئات ليست أشياء مغلقة ومحدودة، بل هي اضطرابات، وينطبق الشيء نفسه على جسم الإنسان – بعدم التقيُّد والانعزال عن الأجسام البشرية الأخرى والأجسام الغير بشرية.
  5. باستخدام تدرجات مختلفة من اللون الرمادي والأسود للطباعة، تشير الأنا المتعددة إلى أن الذات ليست كائنًا فرديًا محدودًا وأن تحليل ما بعد الإنسانية لا يعني ببساطة إضافة المادة إلى المنطق (على سبيل المثال، إضافة “i” إلى “iii” = “ii“). إن وصف الطفل على هذا النحو ليس محاولة لتعريفه.
  6. على عكس الأنظمة المتفرّعة للتفكير والمنطق الثنائي التي هيمنت على المفاهيم المعرفية الغربية (مثل، الجذر، الأساس، الأرض)، الفروع والأطراف (مثل التي لدى الزنجبيل، أو عشب الأريكة، أو الجرذان) متعددة وفي حركة مستمرة لا يمكن التنبؤ بها تقوم بإنشاء الروابط والعلاقات دون توقف (Deleuze & Guattari، ١٩٨٧/٢٠١٤، الصفحات من ٥ – ٧).
  7. الدراسات الخاصة Special Studies هي دورة تتيح التعلم التجريبي حول التعليم من أجل التعليم ومن خلال التعليم في المدارس، وفي الرحلات، ومن خلال الممارسة المجتمعية.

حمل مقالة التعليم الفلسفي للمعلمين في عصر ما بعد الإنسانية المستلهم من ريجيو إيميليا