أن يتعلم الطفل التفلسف

الكاتبة : د.أسيل شوارب

“جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن المؤلف وليست مسؤولية معهد بصيرة أو دار بصيرة للنشر أو أي جهات أخرى متصلة بها من الجهات والهيئات الثقافية التنظيمية أو المانحة وغيرها”

أبتدئ مقالي الشهري الأول بمقولة الفيلسوف كانت “لا يمكن أن نتعلم الفلسفة، بل يمكننا أن نتعلم التفلسف”، وأناقش فيه تعليم الفلسفة للأطفال في مرحلة الروضة؛ موضوع أطروحتي في الدكتوراه قبل إثني عشر عاماً، واقتراحي ضمن جملة اقتراحات لتطوير منظومة التعليم.

لن أخوض في سجالٍ نظريٍ حول علاقة الطفولة بالفلسفة والتناقض والتقارب بينهما، والإشكالات التي ترتبط بالموضوع، بل سأنطلق من مبدأين هما: طبيعة الطفل وقدرته على التساؤل والاندهاش التي تشكل أساس الفلسفة، وقدرة الطفل على تعلم الفلسفة وممارستها.

المبدأ الأول يشير إلى فضولية الطفل وحب الاستطلاع الدائم لديه ودهشته الفطرية، وهذه الأدوات التي تتلاءم والطفولة لتجعله يخطو الخطوة الأولى في ممارسة الفلسفة والتفكير، وهنا تبدأ الفلسفة بشكل أو بآخر من خلال التفكير وطرح الأسئلة والحوار، وبذلك تصبح منهج حياة يمارسه الطفل في كل لحظات حياته، أما الثاني فهو قدرة الطفل على ممارسة الفلسفة وتعلمها، وهذا مدعم بأحدث الدراسات النفسية والعصبية والإنجازات العلمية المعرفية في مجال قدرات الأطفال الهائلة على التعلم.

يستطيع الطفل –استناداً لما ذُكر- ممارسة التفلسف بشكل يضمن تقديم معايير منطقية تحكم عملية التفكير لديهم وتوجههم، وليس بالضرورة أن يحاكي طريقة الكبار في التفكير بالأشياء، إذ أثبتت الأبحاث، ومن ضمنها نتائج دراستي، التي أجريتها عام 2003 على عينة من أطفال في مرحلة الروضة، أن الأطفال الذين يدرسون الفلسفة يكون تحصيلهم الأكاديمي أفضل، ويحققون مستوى أعلى من الإبداع بكل أبعاده: الأصالة (يطرحون أفكاراً أصيلة وجديدة عند مناقشة المواضيع)، والمرونة (القدرة على التفكير المرن البعيد عن القوالب التقليدية)، والطلاقة (تعدد الأفكار والبدائل الجديدة)، كما يظهرون تقديراً أعلى لذواتهم من غيرهم.

ممارسة الطفل للتفكير الفلسفي لها مردود واضح في تحصيله الأكاديمي للطفل وعلاقاته الاجتماعية، ويطور لديه الكثير من مهارات التواصل الفعالة مثل: فن الإنصات الدقيق، وطرق المحادثة الجيدة، والاستدلال المنطقى أحياناً، وما يرتبط بامتلاك أدوات التفكير العلمي الإنساني من دقة الملاحظة والتخيل والشك والاستنتاج ثم إصدار الحكم.

لماذا يتعلم الأطفال الفلسفة؟ نعيش اليوم في عالم يتسم بالزخم المعرفي والتقدم التكنولوجي، وتداخلت فيه نظم الحياة في العالم كله، وهو ما فرض مراجعة شاملة للمناهج وطرق التدريس لتلائم التغيرات وتساعد في بناء إنسان المستقبل القادر على مواجهة التطور والتحديات في كل المجالات. العودة لتعليم الفلسفة إحدى أهم الاتجاهات التربوية المعاصرة، وقد أصبح الاهتمام بتقديمها في طريقة وظيفية وتطبيقية في سن مبكرة بشكل يربط الفلسفة بالحياة ومشكلاتها؛ فينتقل الطالب من تحصيل المعرفة الفلسفية فقط إلى أن تصبح الفلسفة نشاطاً وفعلاً حقيقياً ومعاشاً، وتوظيفها في مناقشات عقلانية لمشكلات ومسائل حياتية جدلية بما يشكل مدخلاً ثرياً للتفكير والسلوك في ضوء اعتبارات أخلاقية واتجاهات شخصية، وانفتاحاً على العلوم كافةً، واحتراماً لجسم المعرفة.

ولتأسيس نظام تعليمي متكامل يتبنى الفلسفة، فلابدّ أن يبدأ من مراحل مبكرة، وهو بالضبط ما قام به الفيلسوف الأمريكي المعاصر ماثيو ليبمان  (Matthew Lipman)، في خمسينات القرن الماضي، حيث اعتبر حينها أن الفلسفة عمل كل فرد، ولا ترتبط بعمر معين،داعياً إلى تدريس الفلسفة للأطفال لتعويدهم وهم تلاميذ صغار على التفكير النقدي الحُرِّ والمستقل.

ويقوم منهج ليبمان على أساليب تعليمية مناسبة تستند للقصة والحوار والفن والدراما، ويتم اختيارها ميدانياً في بعض الأحيان، وتصلح أن تطبَّق من قبل جميع المعلمين، ويرتكز على تنمية ثقافة السؤال في المدرسة اعتماداً على أسئلة الأطفال أنفسهم، واقتراح موضوعات سردية (قصصية) تمس حياة الأطفال وترتبط بواقعهم بموضوعات تحمل موضوعا جدلياً وخلق أجواء الحرية والدعم للحوار والمناقشة حول تلك القضايا.

حظيت دعوة هذا الفيسلوف بقبول واسع، وتبنتها “اليونسكو”، وانتشر برنامجه في العديد من الدول التي تطور نظامها التعليمي مع توجهها نحو التقدم والدولة المدنية الحديثة، لكن –للأسف- غابت هذه البرامج في الدول الأفريقية والعربية التي تعاني من الاستبداد السياسي جرّاء القيود التي تفرضها الحكومات على الأنظمة التعليمية وتوجيهها حسب مصالحها الضيّقة.

بدأ ليبمان بمشروعه في تدريس الفلسفة للأطفال حين وجد أن التربية الأمريكية تعاني من مشكلة فقر تفكير الأطفال بسبب المواد الدراسية التي تقدّم إليهم بشكل مباشر ولا تعينهم على ممارسة التفكير، ليبدأ مشروعه من خلال قصص الأطفال التي تعتبر أداة تعليمية تربوية فعالة لإثارة التفكير. فبمجرد أن يستمع الطفل  للقصة ويتعرف على معلومات وشخصيات جديدة، فإن هذا يستدعي نقاشاً يطرح خلاله أسئلة، وهو بذلك ينهمك فى بحث فلسفي. وبالضرورة فإن المناقشة العقلانية هي الوسيلة التي تعزز يقظة ووعي وفهم الطفل لعالمه، وهو ما سيعينه في تكوين معنى جديد للأشياء ومعنى جديد لخبراته ويجعله أكثر دقة ومنطقية وانفتاحاً.

تعليم الفلسفة للأطفال – اعتماداً على منهج ليبمان أو غيره – يعد استثماراً تربوياً قيماً، ويشكل حلاً لتحديات التعليم المقبلة ومواجهتها بأدوات بسيطة يمكن أن يتبناها المعلمون، ولنترك جانباً كل الدعوات التي تضع الفلسفة في برج عاجي بعيداً عن النظام التربوي العام، وبعيداً عن الطفولة.

أسيل الشوارب: أستاذ مشارك في قسم العلوم التربوية/ جامعة البتراء. قدّمت عشرات الأبحاث والأوراق العلمية، ومنها: تصورات الوالدين حول الممارسات الملائمة نمائياً في رياض الأطفال، تصورات “الطلبة المعلمين في تخصص معلم الصف” حول التعلم والتعليم.

حمل مقالة أن يتعلم الطفل التفلسف